فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن السبت 26 فبراير - 15:21 | |
| [color=green][size=24] [b] ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية ، وقوله : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه : 39]. وألقى عليك مسألة. قوله تعالى : {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} تعليل ؛ أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم ؛ فما للمصدر. وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة وبيانا ، وعذرا وبرهانا ؛ ومن هذا قيل للوالي سلطان ؛ لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال : إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج ، وهو دهن السمسم ؛ قال امرؤ القيس : أمال السليط بالذُّبال المفتل فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر ؛ والسلطان من ذلك ، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة ، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الِملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال : {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ثم ذمه فقال : {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} والمثوى : المكان الذي يقام فيه ؛ يقال : ثَوَى يَثْوي ثَواء. والمأوى : كل مكان يرجع إليه شيء ليلا أو نهارا. الآية : 152 {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء ، وكان (4/233) الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة ، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة. روى البخاري عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم : "لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم" قال : فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل ، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون : الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبدالله : أمهلوا ! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا ، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تجيبوه" حتى قالها ثلاثا. ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تجيبوه" ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ ثلاثا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تجيبوه" ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال : كذبت يا عدو الله ! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال : اعْلُ هُبَل ؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أجيبوه" فقالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : "قولوا الله أعلى وأجل" . قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، "أجيبوه" . قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا "الله مولانا ولا مولى لكم" . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد : عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى : يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4/234) أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي : إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال : وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين : وكان قد فعل ؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركوا الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم ، وأرادوا الدنيا ، رفع عنهم مدد الملائكة ، وأنزل الله تعالى : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران : 152] فصدق الله وعده وأراهم الفتح ، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير بن إسحاق قال : لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه ، وفتى ينبل له ، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب ؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب : ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم ، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية ؛ وفي ذلك يقول حسان : فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب و {تَحُسُّونَهُمْ} معناه تقتلونهم وتستأصلونهم ؛ قال الشاعر : حسَسْناهم بالسيف حسا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا وقال جرير : تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجم الحصيد قال أبو عبيد : الحَسُّ الاستئصال بالقتل ؛ يقال : جراد محسوس إذا قتله البرد. والبرد محسة للنبت. أي محرقة له ذاهبة به. وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء ؛ قال رؤبة : إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة. فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل. {بِإِذْنِهِ} بعلمه ، أو بقضائه وأمره. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو (4/235) فشِل وفشْل. وجواب "حتى" محذوف ، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله : {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ} [الأنعام : 35] فافعل. وقال الفراء : جواب "حتى" ، "وتنازعتم" والواو مقحمة زائدة ؛ كقوله "فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه" [الصافات : 103 - 104] أي ناديناه. وقال امرؤ القيس : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من "وعصيتم". أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير ، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} ، و"ثم" زائدة ، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر : أراني إذا ما بِتُّ بِتّ على هوى ... فثُمّ إذا أصبحت أصبحت عاديا وجوز الأخفش أن تكون زائدة ؛ كما في قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 118]. وقيل : "حتى" بمعنى "إلى" وحينئذ لا جواب له ، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم ، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى {تَنَازَعْتُمْ} اختلفتم ؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض : نلحق الغنائم. وقال بعضهم : بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. {وَعَصَيْتُمْ} أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم ؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم ، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة ، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا : والله ما نجلس (4/236) ههنا لشيء ، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم : علام نقف وقد هزم الله العدو ؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها ، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم ، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر ، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني الغنيمة. قال ابن مسعود : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وهم الذين ثبتوا في مركزهم ، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير ؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه ، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي ، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت ، فإن من ثبت فاز بالثواب ، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون ؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة ، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم. قوله تعالى : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة : المعنى ثم انصرفتم ؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري : وهذا لا يغنيهم ؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم ، أن يقع من الله قبيح ، فلا يبقى لقوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} معنى. وقيل : معنى {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي لم يكلفكم طلبهم. قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل : هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به ، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين : ونظير هذه الآية قوله : {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة : 52]. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال : ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم (4/237) في موطن كما نصر يوم أحد ، قال : وأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل ، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} - يقول ابن عباس : والحَس القتل {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال : "احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" . فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون ، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم ، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون نحو الجبل ، ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغار ، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان : قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال : ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال : فرقي نحونا وهو يقول : "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم" . وقال كعب بن مالك : أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين! ابشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت. (4/238) الآية : 153 {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قوله : "إذ" متعلق بقوله : "ولقد عفا عنكم". وقراءة العامة "تصعدون" بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين ، يعني تصعدون الجبل. وقرأ ابن محيصن وشبل "إذ يصعدون ولا يلوون" بالياء فيهما. وقرأ الحسن "تَلُون" بواو واحدة. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم "ولا تلوون" بضم التاء ؛ وهي لغة شاذة ذكرها النحاس. وقال أبو حاتم : أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره. فالإصعاد : السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب. والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي ؛ فيصح المعنى على قراءة "تُصْعِدون" و"تَصْعَدون". قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحد في الوادي. وقراءة أبي "إذ تصعدون في الوادي". قال ابن عباس : صعدوا في أحد فرارا. فكلتا القراءتين صواب ؛ كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. والله أعلم. قال القتبي والمبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ؛ فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع ؛ قال الشاعر : ألا أيهذا السائلي أين أصعدت ... فإن لها من بطن يثرب موعدا وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في السفر ، والانحدار الرجوع منه ؛ يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر ، وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة : قد كنت تبكين على الإصعاد ... فاليوم سُرِّحْتِ وصاح الحادي (4/239) وقال المفضل : صِعِد وأصْعَد وصَعَّد بمعنى واحد. ومعنى {تَلْوُونَ} تعرجون وتقيمون ، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا ؛ فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. {عَلَى أَحَدٍ} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ قاله الكلبي. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي في آخركم ؛ يقال : جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس. وفي البخاري {أُخْرَاكُمْ} تأنيث آخركم : حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا. قال ابن عباس وغيره : كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : "أي عباد الله ارجعوا" وكان دعاءه تغييرا للمنكر ، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه. قلت : هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى : {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} الغم في اللغة : التغطية. غممت الشيء غطيته. ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين. ومنه غم الهلال إذا لم ير ، وغمني الأمر يغمني. قال مجاهد وقتادة وغيرهما : الغم الأول القتل والجراح ، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ صاح به الشيطان. وقيل : الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل : الغم الأول الهزيمة ، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل ؛ فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ؛ فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا يعلن علينا" كما تقّدم. والباء في "بغم" على هذا بمعنى على. وقيل : هي على بابها ، والمعنى أنهم غموا النبّي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه ، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم. وقال الحسن : {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً} يوم أحد "بغم" يوم بدر للمشركين. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. وقيل : وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم. (4/240) قوله تعالى : {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} اللام متعلقة بقوله : {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} وقيل : هي متعلقة بقوله : {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة. والأول أحسن. و"ما" في قوله {مَا أَصَابَكُمْ} في موضع خفض. وقيل : "لا" صلة. أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مثل قوله : {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف : 12] أي أن تسجد. وقوله {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد : 29] أي ليعلم ، وهذا قول المفضل. وقيل : أراد بقوله {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} أي توالت عليكم الغموم ، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيه معنى التحذير والوعيد. الآية : 154 {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قوله تعالى : {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً} الأمنة والأمن سواء. وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة بـ "أنزل" ، و"نعاسا" بدل منها. وقيل : نصب على المفعول له ؛ كأنه قال : أنزل عليكم للأمنة نعاسا. وقرأ ابن محيصن "أمْنَة" بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم (4/241) أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم ؛ وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه. {يَغْشَى} قرئ بالياء والتاء. الياء للنعاس ، والتاء للأمنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني المنافقين : معتب بن قشير وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ، ويقولون الأقاويل. ومعنى {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} حملتهم على الهم ، والهم ما هممت به ؛ يقال : أهمني الشيء أي كان من همي. وأمر مهم : شديد. وأهمني الأمر : أقلقني : وهمني : أذابني. والواو في قوله "وطائفة" واو الحال بمعنى إذ ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل ، وأنه لا ينصر. {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي ظن أهل الجاهلية ، فحذف. "يقولون هل لنا من الأمر من شيء" لفظه استفهام ومعناه الجحد ، أي ما لنا شيء من الأمر ، أي من أمر الخروج ، وإنما خرجنا كرها ؛ يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم : {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} . قال الزبير : أرسل علينا النوم ذلك اليوم ، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. وقيل : المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء. والله أعلم. قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ويعقوب {كُلِّهِ} بالرفع على الابتداء ، وخبره "لله" ، والجملة خبر "إن". وهو كقوله : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر : 60]. والباقون بالنصب ؛ كما تقول : إن الأمر أجمع لله. فهو توكيد ، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم ، وأجمع لا يكون إلا توكيدا. وقيل : نعت للأمر. وقال الأخفش : بدل ؛ أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} يعني التكذيب بالقدر. وذلك أنهم تكلموا فيه ، فقال الله تعالى : {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} يعني القدر خيره وشره من الله. {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي من الشرك (4/242) والكفر والتكذيب. {مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} يظهرون لك. {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} أي ما قتل عشائرنا. فقيل : إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة ، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال : {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} أي لخرج. {الَّذِينَ كُتِبَ} أي فرض. {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} يعني في اللوح المحفوظ. {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي مصارعهم. وقيل : {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي فرض عليهم القتال ، فعبر عنه بالقتل ؛ لأنه قد يؤول إليه. وقرأ أبو حيوة "لبرز" بضم الباء وشد الراء ؛ بمعنى يُجعل يَخرج. وقيل : لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين. والواو في قوله {وَلِيَبْتَلِي} مقحمة كقوله : {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام : 75] أي ليكون ، وحذف الفعل الذي مع لام كي. والتقدير {وَلِيَبْتَلِي اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَّحص مَا فِي قُلوبِكُمْ} فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل : معنى "ليبتلي" ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل : ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا. وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى. وقد تقّدم معنى التمحيص. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي ما فيها من خير وشر. وقيل : ذات الصدور هي الصدور ؛ لأن ذات الشيء نفسه. الآية : 155 {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} قوله تعالى : {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} هذه الجملة هي خبر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} . والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد ؛ عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي : يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل. وقيل : هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم ، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا. (4/243) وهو معنى "ببعض ما كسبوا" وقيل : {اسْتَزَلَّهُمُ} حملهم على الزلل ، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل : زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل : كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة ، فإنما تولوا لهذا ، وهذا على القول الأول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة. وقال الحسن : "ما كسبوا" قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي : زين لهم الشيطان أعمالهم. وقيل : لم يكن الانهزام معصية ؛ لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة ، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل. ويجوز أن يقال : لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال : زاد عدد العدو على الضعف ؛ لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز ، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه ، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال : حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير : أن عثمان كان بينه وبين عبدالرحمن بن عوف كلام ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد ، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع ، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد. فرد عليه عثمان فقال : أما قولك : أنا شهدت بدرا ولم تشهد ، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة وكنت معها أمرضها ، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما في سهام المسلمين ، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني ربيئة على المشركين بمكة - الربيئة هو الناظر - فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال : "هذه لعثمان" فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} فكنت فيمن عفا الله عنهم. فحج عثمان عبدالرحمن. (4/244) قلت : وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر ، كما في صحيح البخاري قال : حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال : من هؤلاء القعود ؟ قالوا : هؤلاء قريش. قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عمر ؛ فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء أتحدثني ؟ قال : أنشدك بحرمة هذا البيت ، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم. قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم. قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال نعم. قال : فكبر. قال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ؛ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه" . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه ، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده فقال : "هذه لعثمان". اذهب بهذا الآن معك. قلت : ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام : "فحج آدم موسى" أي غلبه بالحجة ؛ وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة ؛ فقال له آدم : "أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم". وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك ، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه ، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم ، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فاعلم. (4/245) الآية : 156 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المنافقين. {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله : {إِذَا ضَرَبُوا} هو لما مضى ؛ أي إذ ضربوا ؛ لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان "الذين" مبهما غير موقت ، فوقع "إذا" موقع "إذ" كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى "ضربوا في الأرض" سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. "أو كانوا غزى" غزاة فقتلوا. والغُزَّى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض ، وأحدهم غاز ، كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم ، وشاهد وشهد ، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة ، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال : غَزِيّ جمع الغَزَاة. قال الشاعر : قل للقوافل والغزي إذا غزوا وروي عن الزهري أنه قرأه "غزى" بالتخفيف. والمعزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشيء. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو : غَزَوِيُّ. (4/246) قوله تعالى : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله "قالوا" أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. "حسرة" أي ندامة "في قلوبهم". والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه ؛ قال الشاعر : فواحسرتي لم أقض منها لبانتي ... ولم أتمتع بالجوار وبالقرب وقيل : هي متعلقة بمحذوف. والمعنى : لا تكونوا مثلهم "ليجعل الله ذلك" القول "حسرة في قلوبهم" لأنهم ظهر نفاقهم. وقيل : المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم ؛ فكان ذلك حسرة في قلوبهم. وقيل : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال ، ويميت من أقام في أهله. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا. الآية 157 : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 158 : {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} جواب الجزاء محذوف ، استغني عنه بجواب القسم في قوله : "لمغفرة من الله ورحمة" وكان الاستغناء بجواب القسم أولى ؛ لأن له صدر الكلام ، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون : متم ، بكسر الميم مثل نمتم ، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلى مضر يقولون : متم ، بضم الميم مثل نمتم ، من مات يموت. كقولك كان يكون ، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله : {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} وعظ. وعظهم الله بهذا القول ، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به ، بل فروا من عقابه وأليم عذابه ، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم. (4/247) الآية : 159 {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} قوله : "ما" صلة فيها معنى التأكيد ، أي فبرحمة ؛ كقوله : {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون : 40] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء : 155] {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} [ص : 11]. وليست بزائدة على الإطلاق ، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها.. ابن كيسان : "ما" نكرة في موضع جر بالباء {وَرَحْمَةٌ} بدل منها. ومعنى الآية : أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل : "ما" استفهام. والمعنى : فبأي رحمة من الله لنت لهم ؛ فهو تعجيب. وفيه بعد ؛ لأنه لو كان كذلك لكان "فبم" بغير ألف. {لِنْتَ} من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ؛ وأنشد المفضل في المذكر : وليس بفظ في الأداني والأولى ... يؤمون جدواه ولكنه سهل وفظ على أعدائه يحذرونه ... فسطوته حتف ونائله جزل وقال آخر في المؤنث : أموت من الضر في منزلي ... وغيري يموت من الكظه ودنيا تجود على الجاهلين ... وهي على ذي النهى فظه وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه ، وقلة الانفعال في الرغائب ، وقلة الإشفاق والرحمة ، ومن ذلك قول الشاعر : يبكى علينا ولا نبكي على أحد ؟ ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل (4/248) ومعنى {لانْفَضُّوا} لتفرقوا ؛ فضضتهم فانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا ؛ ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا : مستعجلات القيض غير جرد ... ينفض عنهن الحصى بالصمد وأصل الفض الكسر ؛ ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك. والمعنى : يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. في قوله تعالى : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} فيه ثمان مسائل : الأولى : -ماء : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة ؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه : مشوار. وقد يكون من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه ، قال عدي بن زيد : في سماع يأذن الشيخ له ... ديث مثل ماذي مشار الثانية : -قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38]. قال أعرابي : ما غبنت قط حتى يغبن قومي ؛ قيل : (4/249) | |
|