فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 10 فبراير - 17:18 | |
|
________________________________________ الآية : 52 {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} قوله تعالى : {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} أي من بني إسرائيل. وأحس معناه علم ووجد قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة : معنى "أحس" عرف ، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة. والإحساس : العلم بالشيء ؛ قال الله تعالى : {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم : 98] والحس القتل ؛ قال الله تعالى : {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران : 152]. ومنه الحديث في الجراد "إذا حسه البرد". "منهم الكفر" أي الكفر بالله. وقيل : سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء : أرادوا قتله. {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} استنصر عليهم. قال السدي والثوري وغيرهما : المعنى مع الله ، فإلى بمعنى مع ؛ كقوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء : 2] أي مع. والله أعلم. وقال الحسن : المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله ؛ لأنه دعاهم إلى الله عز وجل. وقيل : المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل. فإلى على هذين القولين على بابها ، وهو الجيد. وطلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة ؛ عن الحسن ومجاهد. وهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه. وقد قال لوط : {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود : 80] أي عشيرة وأصحاب ينصرونني. {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي أنصار نبيه ودينه. والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام ، وكانوا اثني عشر رجلا ؛ قاله الكلبي وأبو رَوْق. واختلف في تسميتهم بذلك ؛ فقال ابن عباس : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وكانوا صيادين. ابن أبي نجيح وابن أرطاة : كانوا قصارين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب. قال عطاء : أسلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين ، فأراد معلم عيسى السفر ، فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان وقد علمتك الصبغة فاصبغها. فطبخ عيسى حُبّا واحدا وأدخله جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في الحُبِّ فلما رآها قال : قد أفسدتها ؛ (4/97) ________________________________________ فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغه ؛ فعجب الحواري ، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به ؛ فهم الحواريون. قتادة والضحاك : سموا بذلك لأنهم كانوا خاصة الأنبياء. يريدان لنقاء قلوبهم. وقيل. كانوا ملوكا ، وذلك أن الملك صنع طعاما فدعا الناس إليه فكان عيسى على قصعة فكانت لا تنقص ، فقال الملك له : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم. قال : إني أترك ملكي هذا وأتبعك. فانطلق بمن اتبعه معه ، فهم الحواريون ؛ قاله ابن عون. وأصل الحَوَر في اللغة البياض ، وحورت الثياب بيضتها ، والحُوَّارَى من الطعام ما حُوّر ، أي بيض ، واحْوَرّ ابيضَّ ، والجَفْنَة المحوّرة : المبيضة بالسنام ، والحواري أيضا الناصر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل نبي حواري وحواريي الزبير" . والحواريات : النساء لبياضهن ؛ وقال : فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح الآية : 53 {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} قوله تعالى : {رَبَّنَا آمَنَّا} أي يقولون ربنا آمنا. {بِمَا أَنْزَلْتَ} يعني في كتابك وما أظهرته من حكمك. {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} يعني عيسى. {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ عن ابن عباس. والمعنى أثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا من جملتهم. وقيل : المعنى فاكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق. الآية : 54 {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} قوله تعالى : {وَمَكَرُوا} يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر ، أي قتله. وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ، فذلك مكرهم. ومكر الله : استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون ؛ عن الفراء وغيره. قال ابن عباس : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة. وقال الزجاج : مكر الله مجازاتهم على مكرهم ؛ فسمى الجزاء باسم الابتداء ؛ كقوله : (4/98) ________________________________________ {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة : 15] ، "{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} " [النساء : 142]. وقد تقدم في البقرة. وأصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع. والمكر : خدالة الساق. وامرأة ممكورة الساقين. والمكر : ضرب من الثياب. ويقال : بل هو المَغَرَة ؛ حكاه ابن فارس. وقيل : "مكر الله" إلقاء شَبَه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه ، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربا منهم فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء ، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا : ادخل عليه فاقتله ، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى ، وبدنه يشبه بدن صاحبنا ؛ فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا ؛ فذلك قوله تعالى : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وقيل غير هذا على ما يأتي. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} اسم فاعل من مكر يمكر مكرا. وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى فيقول إذا دعا به : يا خير الماكرين أمكر لي. وكان عليه السلام يقول في دعائه : "اللهم امكر لي ولا تمكر علي" . وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. والله أعلم. الآية : 55 {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} قوله تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} العامل في "إذ" مكروا ، أو فعل مضمر. وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على التقديم والتأخير ؛ لأن الواو لا توجب الرتبة. والمعنى : إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء ؛ كقوله : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [طه : 129] ؛ والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما. قال الشاعر : (4/99) ________________________________________ ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام أي عليك السلام ورحمة الله. وقال الحسن وابن جريح : معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت ؛ مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته. وقال وهب بن منبه : توفى الله عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء. وهذا فيه بعد ؛ فإنه صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال على ما بيناه في كتاب التذكرة ، وفي هذا الكتاب حسب ما تقدم ، ويأتي. وقال ابن زيد : متوفيك قابضك ، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك. الربيع بن أنس : وهي وفاة نوم ؛ قال الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام : 60] أي ينيمكم لأن النوم أخو الموت ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل : أفي الجنة نوم ؟ قال : "لا ، النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها" . أخرجه الدارقطني. والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار الطبري ، وهو الصحيح عن ابن عباس ، وقاله الضحاك. قال الضحاك : كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة ، فأخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة. فقال المسيح للحواريين : أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة ؟ فقال رجل : أنا يا نبي الله ؛ فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه. وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم : أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي (4/100) ________________________________________ في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا. فقال عيسى : اجلس ، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. قال : ورفع الله تعالى عيسى من رَوْزَنة كانت في البيت إلى السماء. قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ؛ فتفرقوا ثلاث فرق : قالت فرقة : كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء ، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه ، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فقتلوا ؛ فأنزل الله تعالى : { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الصف : 14] أي آمن آباؤهم في زمن عيسى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} بإظهار دينهم على دين الكفار {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القِلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد" . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما" ولا ينزل بشرع مبتدأ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعها. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" . وفي رواية : "فأمّكم منكم" . قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ . قلت : تخبرني. قال : فأَمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب "التذكرة" والحمد لله. و {مُتَوَفِّيكَ} أصله متوفِّيُك حذفت الضمة استثقالا ، (4/101) ________________________________________ وهو خبر إن. {وَرَافِعُكَ} عطف عليه ، وكذا {وَمُطَهِّرُكَ} وكذا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} . ويجوز "وجاعل الذين" وهو الأصل. وقيل : إن الوقف التام عند قوله : "ومطهرك من الذين كفروا". قال النحاس : وهو قول حسن. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} يا محمد {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالحجة وإقامة البرهان. وقيل بالعز والغلبة. وقال الضحاك ومحمد بن أبان : المراد الحواريون. والله تعالى أعلم. الآيات : 56 - {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ، 57- {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ، 58- {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يعني بالقتل والصلب والسبي والجزية ، وفي الآخرة بالنار. "ذلك نتلوه عليك" "ذلك" في موضع رفع بالابتداء وخبره "نتلوه". ويجوز : الأمر ذلك ، على إضمار المبتدأ. الآيتان : 59 - 60 {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} دليل على صحة القياس. والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من تراب. والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد ؛ فان آدم خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة ، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أب ؛ ولأن أصل خلقتهما كان من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ، (4/102) ________________________________________ ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال ، ثم جعله بشرا من غير أب. ونزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إن عيسى عبد الله وكلمته" فقالوا : أرنا عبدا خلق من غير أب ؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب ؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم" . فذلك قوله تعالى : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي في عيسى {إلاّ جِئْنِاكَ بِالحَقَّ} في آدم {وَأحْسنَ تَفْسِيراً} [الفرقان : 33]. وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الإسلام قالوا : قد كنا مسلمين قبلك. فقال : "كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث : قولكم اتخذ الله ولدا ، وأكلكم الخنزير ، وسجودكم للصليب" . فقالوا : من أبو عيسى ؟ فأنزل الله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله : {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61]. فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا. فقالوا : أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال : "الإسلام أو الجزية أو الحرب" فأقروا بالجزية على ما يأتي. وتم الكلام عند قوله "آدم". ثم قال : {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فكان. والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى. قال الفراء : {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مرفوع بإضمار هو. أبو عبيدة : هو استئناف كلام وخبره في قوله {مِنْ رَبِّكَ} وقيل هو فاعل ، أي جاءك الحق. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام. الآية : 61 {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (4/103) ________________________________________ فيه ثلاث مسائل : الأولى : -قوله تعالى : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي جادلك وخاصمك يا محمد "فيه" ، أي في عيسى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنه عبد الله ورسوله. {فَقُلْ تَعَالَوْا} أي أقبلوا. وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وسيأتي له مزيد بيان في "الأنعام". {نَدْعُ} في موضع جزم. {أَبْنَاءَنَا} دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول لهم : "إن أنا دعوت فأمّنوا" . وهو معنى قوله : {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتضرع في الدعاء ؛ عن ابن عباس. أبو عبيدة والكسائي : نلتعن. وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره. قال لبيد : في كهول سادة من قومه ... نظر الدهر إليهم فابتهل أي اجتهد في إهلاكهم. يقال : بهله الله أي لعنه. والبهل : اللعن. والبهل : الماء القليل. وأبهلته إذا خليته وإرادته. وبهلته أيضا. وحكى أبو عبيدة : بهله الله يبهله بهلة أي لعنه. قال ابن عباس : هم أهل نجران : السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم. {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. الثانية : -هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل ، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ؛ فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حُلَّة في صَفَر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام. الثالثة : -قال كثير من العلماء : إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} وقوله في الحسن : "إن ابني هذا سيد" مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابنيْ النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما ؛ لقوله عليه السلام : "كل سبب ونسب (4/104) ________________________________________ ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي" ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ؛ وهو قول الشافعي. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأنعام والزخرف" إن شاء الله تعالى. الآيتان : 62 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، 63 : - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} الإشارة في قوله {إِنَّ هَذَا} إلى القرآن وما فيه من الأقاصيص ، سميت قصصا لأن المعاني تتابع فيها ؛ فهو من قولهم : فلان يقص أثر فلان ، أي يتبعه. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ} "من" زائدة للتوكيد ، والمعنى وما إله إلا الله "العزيز" أي الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ} ذو الحكمة. وقد تقدم مثله والحمد لله. الآية : 64 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فيه ثلاث مسائل : الأولى - قوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة ، خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. وقيل : هو لليهود والنصارى جميعا. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل "بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم (4/105) ________________________________________ وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله - إلى قوله : "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" . لفظ مسلم. والسواء العدل والنصفة ؛ قاله قتادة. وقال زهير : أروني خطة لا ضيم فيها ... يسوي بيننا فيها السواء الفراء : ويقال في معنى العدل سِوًى وسُوًى ، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت ؛ كقوله تعالى : {مَكَاناً سُوَىً} [طه : 58]. قال : وفي قراءة عبدالله "إلى كلمة عدل بيننا وبينكم" وقرأ قعنب "كلمة" بإسكان اللام ، ألقى حركة اللام على الكاف ؛ كما يقال كبد. فالمعنى أجيبوا إلى ما دعيتم إليه ، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق. وقد فسرها بقوله تعالى : {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} [آل عمران : 64] فموضع "أن" خفض على البدل من "كلمة" ، أو رفع على إضمار مبتدأ ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله. أو تكون مفسرة لا موضع لها ، ويجوز مع ذلك في "نعبد" وما عطف عليه الرفع والجزم : فالجزم على أن تكون "أن" مفسرة بمعنى أي ؛ كما قال عز وجل : "أن امشوا" [ص : 6] وتكون "لا" جازمة. هذا مذهب سيبويه. ويجوز على هذا أن ترفع "نعبد" وما بعده يكون خبرا. ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد ؛ ومثله " أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً " [طه : 89]. وقال الكسائي والفراء : {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ} بالجزم على التوهم أنه ليس في أول الكلام أن. الثانية : -قوله تعالى : {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة : 31] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ؛ قال الكيا الطبري : مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة. وفيه رد على الروافض الذين يقولون : يجب قبول قول الإمام دون إبانة (4/106) ________________________________________ مستند شرعي ، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة. وأرباب جمع رب. و"دون" هنا بمعنى غير. الثالثة : -قوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عما دعوا إليه. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام ، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيزا ولا الملائكة ؛ لأنهم بشر مثلنا محدث كحدوثنا ، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا ، فنكون قد اتخذناهم أربابا. وقال عكرمة : معنى "يتخذ" يسجد. وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أراد أن يسجد ؛ كما مضى في البقرة بيانه. وروى أنس بن مالك قال : قلنا يا رسول الله ، أينحني بعضنا لبعض ؟ قال "لا" قلنا : أيعانق بعضنا بعضا ؟ قال "لا ولكن تصافحوا" أخرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لهذا المعنى زيادة ببان في سورة "يوسف" إن شاء الله ، وفي "الواقعة" مس القرآن أو بعضه على غير طهارة إن شاء الله تعالى. الآية : 65 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} قوله تعالى : {{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} " الأصل "لِما" فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر. وهذه الآية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه ، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده. قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ} قال الزجاج : هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى ؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان ، واسم الإسلام في كل كتاب. ويقال : كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} دحوض حجتكم وبطلان قولكم. والله أعلم. (4/107) ________________________________________ الآية : 66 {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فيه مسألتان : الأولى- قوله تعالى : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ} يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. والأصل في "ها أنتم" أأنتم فأبدِل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها ؛ عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش. قال النحاس : وهذا قول حسن. وقرأ قنبل عن ابن كثير "هأنتم" مثل هعنتم. والأحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم. ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على "أنتم" وحذفت الألف لكثرة الاستعمال. وفي "هؤلاء" لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها. وأنشد أبو حاتم : لعمرك إنا والأحاليف هاؤلا ... لفي محنة أظفارها لم تقلم وهؤلاء ها هنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء. ويجوز هؤلاء خبر أنتم ، على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له. ويجوز أن يكون خبر "أنتم" حاججتم. وقد تقدم هذا في "البقرة" والحمد لله. الثانية : -في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له ، والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} . وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى : {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل لك من إبل" ؟ قال نعم. قال : (4/108) ________________________________________ "ما ألوانها" ؟ قال : حمر : قال : "هل فيها من أورق" ؟ قال نعم. قال : "فمن أين ذلك" ؟ قال : لعل عرقا نزعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وهذا الغلام لعل عرقا نزعه" . وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الآية : 67 {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة ، وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية ولم يكن مشركا. والحنيف : الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة. وقد مضى في "البقرة" اشتقاقه. والمسلم في اللغة : المتذلل لأمر الله تعالى المنطاع له. وقد تقدم في "البقرة" معنى الإسلام مستوفى والحمد لله. الآية : 68 {نَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} وقال ابن عباس : قال رؤساء اليهود : والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. "أولى" معناه أحق ، قيل : بالمعونة والنصرة. وقيل بالحجة. {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على ملته وسنته. {وَهَذَا النَّبِيُّ} أفرد ذكره تعظيما له ؛ كما قال {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] وقد تقدم في "البقرة" هذا المعنى مستوفى. و"هذا" في موضع رفع عطف على الذين ، و"النبي" نعت لهذا أو عطف بيان ، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في "اتبعوه". {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي ناصرهم. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (4/109) ________________________________________ "إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي - ثم قرأ – {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} ". الآية : 69 {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم. وهذه الآية نظير قوله تعالى : {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} [البقرة : 109]. و"من" على هذا القول للتبعيض. وقيل : جميع أهل الكتاب ، فتكون "من" لبيان الجنس. {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له. وقال ابن جريج : {يُضِلُّونَكُمْ} أي يهلكونكم ؛ ومنه قول الأخطل : كنت القدى في موج أكدر مزبد ... قذف الأَتي به فضلّ ضلالا أي هلك هلاكا. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} نفي وإيجاب. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي يفطنون أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل : {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا ؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة ، والله أعلم. الآية : 70 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم ؛ عن قتادة والسدي. وقيل : المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي أنتم مقرون بها. الآية : 71 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4/110)
| |
|