فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن السبت 5 فبراير - 16:47 | |
|
________________________________________ الخامسة : - قوله تعالى : {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الذهب مؤنثة ؛ يقال : هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب وذُهوب. ويجوز أن يكون جمع ذَهْبَة ، ويجمع على الأذهاب. وذهب فلان مذهبا حسنا. والذهب : مكيال لأهل اليمن. ورجل ذَهِب إذا رأى معدن الذهب فدهش. والفضة معروفة ، وجمعها فضض. فالذهب مأخوذة من الذهاب ، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرق ؛ ومنه فَضَضْت القوم فانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا. وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم : النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري والمرء بينهما إن كان ذا ورع ... معذب القلب بين الهم والنار السادسة : -قوله تعالى : {وَالْخَيْلِ} الخيل مؤنثة. قال ابن كيسان : حدثت عن أبي عبيدة أنه قال : واحد الخيل خائل ، مثل طائر وطير ، وضائن وضين ؛ وسمي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه. وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، واحد فرس ، كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها. وفي الخبر من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح" . وهب بن منبه : خلقها من ريح الجنوب. قال وهب : فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها. وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة "الأنفال" ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وفي الخبر : "إن الله عرض على آدم جميع الدواب ، فقيل له : اختر منها واحدا فاختار الفرس ؛ فقيل له : اخترت عزك" ؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسميت خيلا لأنها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى. وسمي فرسا (4/32) ________________________________________ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على شيء خبطا وتناولا ، وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق" . وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة. وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية" . أخرجه الترمذي عن أبي قتادة. وفي مسند الدارمي عنه أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أشتري فرسا فأيها أشتري ؟ قال : "اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم" . وروى النسائي عن أنس قال : لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر..." الحديث بطوله ، شهرته أغنت عن ذكره. وسيأتي ذكر أحكام الخيل في "الأنفال" و"النحل" بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. السابعة : -قوله تعالى : {الْمُسَوَّمَةِ} يعني الراعية في المروج والمسارح ؛ قاله سعيد بن جبير. يقال : سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة. وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة. وسومتها تسويما فهي مسومة. وفي سنن ابن ماجة عن علي قال : نهى (4/33) ________________________________________ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم قبل طلوع الشمس ، وعن ذبح ذوات الدر. السوم هنا في معنى الرعي. وقال الله عز وجل : {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل : 10] قال الأخطل : مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ... أولى لك ابن مسيمة الأجمال أراد ابن راعية الإبل. والسوام : كل بهيمة ترعى ، وقيل : المعدة للجهاد ؛ قاله ابن زيد. مجاهد : المسومة المطهمة الحسان. وقال عكرمة : سومها الحسن ؛ واختاره النحاس ، من قولهم : رجل وسيم. وروي عن ابن عباس أنه قال : المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها ، من السيما وهي العلامة. وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة. قلت : كل ما ذكر يحتمله اللفظ ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها. قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى. وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله : المسومة المرسلة وعليها ركبانها. وقال المؤرج : المسومة المكوية ، المبرد : المعروفة في البلدان. ابن كيسان : البلق. وكلها متقارب من السيما. قال النابغة : وضمر كالقداح مسومات ... عليها معشر أشباه جن الثامنة : -قوله تعالى : {وَالأَنْعَامِ} قال ابن كيسان : إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل ، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى. قال الفراء : هو مذكر ولا يؤنث ؛ يقولون : (4/34) ________________________________________ هذا نعم وارد ، ويجمع أنعاما. قال الهروي : والنعم يذكر ويؤنث ، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم ؛ ، إذا قيل : النعم فهو الإبل خاصة. وقال حسان : وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال : "الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة". وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشاة من دواب الجنة" . وفيه عن أبي هريرة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم ، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال : عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى. وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " اتخذي غنما فإن فيها بركة" . أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ ، إسناد صحيح. التاسعة : -قوله تعالى : {وَالْحَرْثِ} الحرث هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ؛ تقول : حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة ؛ فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة. وفي الحديث : "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا" . يقال حرثت واحترثت. وفي حديث عبدالله "احرثوا هذا القرآن" أي فتشوه. قال ابن الأعرابي : الحرث التفتيش ؛ وفي الحديث : " أصدق الأسماء الحارث" لأن الحارث هو الكاسب ، واحتراث المال كسبه ، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس ، والجمع أحرثة ، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وفي حديث معاوية : ما فعلت نواضحكم ؟ قالوا : حرثناها يوم بدر. قال أبو عبيد : يعنون هزلناها ؛ يقال : حرثت الدابة وأحرثتها ، لغتان. وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة (4/35) ________________________________________ وشيئا من آلة الحرث فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل" . قيل : إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين. وقال المهلب : معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات ؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله ؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها ؛ فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة. ألا ترى أن عمر قال : تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل. فأمرهم بملازمة الخيل ، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" . قال العلماء : ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال ، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس ؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار ، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك ، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي ، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق. فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول ، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع. العاشرة : قوله تعالى : {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى. وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. روى ابن ماجة وغيره عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة" . وفي الحديث : " إزهد في الدنيا يحبك الله" أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري. قال صلى الله عليه وسلم : "ليس لابن آدم حق في سوى هذه (4/36) ________________________________________ الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء" أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب. وسئل سهل بن عبدالله : بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات ؟ قال : بتشاغله بما أمر به. قوله تعالى : {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ابتداء وخبر. والمآب المرجع ؛ آب يؤوب إيابا إذا رجع ؛ قال يؤوب إيابا إذا رجع ؛ قال امرؤ القيس : وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقال آخر : وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب وأصل مآب مأوب ، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل مقال. ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة. الآية : 15 {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} منتهى الاستفهام عند قوله : {مِنْ ذَلِكُمْ} ، "للذين اتقوا" خبر مقدم ، و"جنات" رفع بالابتداء. وقيل : منتهاه "عند ربهم" ، و"جنات" على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات. ويجوز على هذا التأويل "جنات" بالخفض بدلا من "خير" ولا يجوز ذلك على الأول. قال ابن عطية : وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام : "تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" خرجه مسلم وغيره. فقوله "فاظفر بذات الدين" مثال لهذه الآية. وما قبل مثال للأولى. فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها. وقد تقدم في البقرة معاني ألفاظ هذه الآية. (4/37) ________________________________________ والرضوان مصدر من الرضا ، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم " تريدون شيئا أزيدكم" ؟ فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : "رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدأ" خرجه مسلم. وفي قوله تعالى : {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وعد ووعيد. الآيتان : 16 - {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار} ، 17- {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} {الَّذِينَ} بدل من قوله {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وإن شئت كان رفعا أي هم الذين ، أو نصبا على المدح. {رَبَّنَا} أي يا ربنا. {إِنَّنَا آمَنَّا} أي صدقنا. {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} دعاء بالمغفرة. {وَقِنَا عَذَابَ النَّار} تقدم في البقرة. {الصَّابِرِينَ} يعني عن المعاصي والشهوات ، وقيل : على الطاعات. {وَالصَّادِقِينَ} أي في الأفعال والأقوال {وَالْقَانِتِينَ} الطائعين. {وَالْمُنْفِقِينَ} يعني في سبيل الله. وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات. واختلف في معنى قوله تعالى : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} فقال أنس بن مالك : هم السائلون المغفرة. قتادة : المصلون. قلت : ولا تناقض ، فإنهم يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف : 98] : "أنه أخر ذلك إلى السحر" خرجه الترمذي وسيأتي. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل "أي الليل أسمع" ؟ فقال : "لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر" . يقال سحر وسحر ، بفتح الحاء وسكونها ، وقال الزجاج : السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني ، وقال ابن زيد : السحر هو سدس الليل الآخر. (4/38) ________________________________________ قلت : أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر" في رواية "حتى ينفجر الصبح" لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله ؛ وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغر يغفر له هل من سائل يعطى" . صححه أبو محمد عبدالحق ، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روى "ينزل" بضم الياء ، وهو يبين ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى". مسألة : الاستغفار مندوب إليه ، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال : {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات : 18]. وقال أنس بن مالك : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة. وقال سفيان الثوري : بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقِم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر ، فإذا كان عند السحر نادى مناد : أين المستغفرون فيستغفر أولئك ، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد : ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم" . قال مكحول : إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة. وذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له. وقال نافع : كان ابن عمر يحيى الليل ثم (4/39) ________________________________________ يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فأقول لا. فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر. وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول : يا رب ، أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود. قلت : فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب. لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم. وقال لقمان لابنه : "يا بني لا يكن الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم". والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس ، وليس له في الجامع غيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة" . وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال : "ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" . الآية : 18 {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيه أربع مسائل : قال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا. وقال الكلبي : لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه (4/40) ________________________________________ حبران من أحبار أهل الشام ؛ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد ؟ قال "نعم" . قالا : وأنت أحمد ؟ قال : "نعم" . قالا : نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلاني" . فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قيل : إن المراد بأولي العلم الأنبياء عليهم السلام. وقال ابن كيسان : المهاجرون والأنصار. مقاتل : مؤمنو أهل الكتاب. السدي والكلبي : المؤمنون كلهم ؛ وهو الأظهر لأنه عام. الثانية : -في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم ؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114]. فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم : "إن العلماء ورثة الأنبياء" . وقال : "العلماء أمناء الله على خلقه" . وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير. وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط - وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط - وكان حافظا ، حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة" وفي هذا الباب حديث عن أبي الدرداء خرجه أبو داود. الثالثة : -روى غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ (4/41) ________________________________________ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران : 18 - 19] ، قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، وإن الدين عند الله الإسلام - قالها مرارا - فغدوت إليه وودعته ثم قلت : إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها ؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به. قال : والله لا حدثتك به سنة. قال : فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدي الجنة" . قال أبو الفرج الجوزي : غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان ، يروي عن الأعمش حديث "شهد الله" وهو حديث معضل. قال ابن عدي الضعف على حديثه بين. وقال أحمد بن حنبل : غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين : ثقة. وقال أبو حاتم : صدوق صالح. قلت : يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما ، وحسبك. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة". ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان. فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله. الرابعة : -قوله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ} أي بين وأعلم ؛ كما يقال : شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق ، أو على من هو. قال الزجاج : الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه ؛ فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين. وقال أبو عبيدة : "شهد الله" بمعنى قضى الله ، أي أعلم. وقال ابن عطية : وهذا مردود من جهات. وقرأ الكسائي بفتح "أن" في قوله (4/42) ________________________________________ "أنه لا إله إلا هو" وقوله "أن الدين". قال المبرد : التقدير : أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو ، ثم حذفت الباء كما قال : أمرتك الخير. أي بالخير. قال الكسائي : أنصبهما جميعا ، بمعنى شهد الله أنه كذا ، وأن الذين عند الله. قال ابن كيسان : "أن" الثانية بدل من الأولى ؛ لأن الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد. وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي "شهد الله إنه" "بالكسر" "أن الدين" بالفتح. والتقدير : شهد الله أن الدين الإسلام ، ثم ابتداء فقال : إنه لا إله إلا هو. وقرأ أبو المهلب وكان قارئا - شهداء الله بالنصب على الحال ، وعنه "شهداء الله". وروى شعبة عن عاصم عن زرٍّ عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ "أن الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية" . قال أبو بكر الأنباري : ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير ، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن. و {قَائِماً} نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله "شهد الله" أو من قوله "إلا هو". وقال الفراء : هو نصب على القطع ، كان أصله القائم ، فلما قطعت الألف واللام نصب كقوله : "وله الدين واصباً" [النحل : 52]. وفي قراءة عبدالله "القائم بالقسط" على النعت ، والقسط العدل. {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى ، والشهادة الثانية حلت محل الحكم. وقال جعفر الصادق : الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم ، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم. الآية : 19 {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قوله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} الدين في هذه الآية الطاعة والملة ، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات ؛ قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين. والأصل في مسمى الإيمان (4/43) ________________________________________ والإسلام التغاير ؛ لحديث جبريل. وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر ؛ كما في حديث وفد عبدا لقيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال : "هل تدرون ما الإيمان" ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم " الحديث. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله" أخرجه الترمذي. وزاد مسلم "والحياء شعبة من الإيمان" . ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر ، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال ؛ ومنه قوله عليه السلام : "الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان" . أخرجه ابن ماجة ، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع والله أعلم. قوله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا. قاله ابن عمر وغيره. وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم ؛ قاله الأخفش. قال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران. وقال الربيع بن أنس : المراد بها اليهود. ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى ؛ أي "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. "إلا من بعد ما جاءهم العلم" يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم. وقيل : أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد ، وأن عيسى عبدالله ورسوله. و"بغيا" نصب على المفعول من أجله ، أو على الحال من "الذين" والله تعالى أعلم. (4/44)
| |
|