فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن السبت 29 يناير - 16:20 | |
|
________________________________________ التاسعة عشرة : - قوله تعالى : {أَوْ ضَعِيفاً} الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء ، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام ، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا. والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير ، ووليه وصيه أو أبوه والغائب عن موضوع الإشهاد ، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر. ووليه وكيله. وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع. فهذه أصناف تتميز ، وسيأتي في "النساء" بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين : - قوله تعالى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ذهب الطبري إلى أن الضمير في "وليه" عائد على "الحق" وأسند في ذلك عن الربيع ، وعن ابن عباس. وقيل : هو عائد على "الذي عليه الحق" وهو الصحيح. وما روي عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ! هذا شي ليس في الشريعة. إلا أن يريد قائله : إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس ، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء ، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه. فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز ، فإذا كمل الإملاء أقر به. وهذا معنى لم تعن الآية إليه : ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه. الحادية والعشرين : - ما قال الله تعالى : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره ، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم ، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة ، فالقول قول الراهن والرهن قائم ، وهو مذهب أكثر الفقهاء : سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن المرتهن مدع للفضل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". وقال مالك : القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك. فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد (3/388) ________________________________________ للمرتهن ، وقوله تعالى : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} رد عليه. فإن الذي عليه الحق هو الراهن. وستأتي هذه المسألة. وإن قال قائل : إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة والكتاب ، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن ، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة. قيل له : الرهن لا يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين ، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير. يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوي قيمة الرهن. وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب ، فلا حاصل لقولهم هذا. الثانية والعشرون : - وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه ، لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه. الثالثة والعشرون : - وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في "النساء" إن شاء الله تعالى. الرابعة والعشرون : - قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا} الاستشهاد طلب الشهادة. واختلف الناس هل هي فرض أو ندب ، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الخامسة والعشرون : - قوله تعالى : {شَهِيدَيْنِ} رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا ، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء". وشهيد بناء مبالغة ، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه ، فكأنه إشارة إلى العدالة. والله أعلم. السادسة والعشرون : - قوله تعالى : {مِنْ رِجَالِكُمْ} " نص في رفض الكفار والصبيان والنساء ، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. وقال مجاهد : المراد الأحرار ، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه. وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد ، فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق (3/389) ________________________________________ وأبو ثور : شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا ، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد ، وغلبوا نقص الرق ، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. والصحيح قول الجمهور ، لأن الله تعالى قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة : 282] وساق الخطاب إلى قوله {مِنْ رِجَالِكُمْ} فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون ، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة. فإن قالوا : إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها. قيل لهم : هذا يخصه قوله تعالى : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} على ما يأتي بيانه. وقوله {من رجالكم} دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة لكن إذا علم يقينا ، مثل ما روي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : "ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع". وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به ، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ. نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها ، لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن ، فلو زفت إليه امرأة وقيل : هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها ، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه ، لأن سبيل الشهادة اليقين ، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن ، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف : إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى ، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه. فهذا مذهب هؤلاء. والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له ، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض ، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت ، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين ، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان. وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير. قلت : مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت. قال ابن قاسم : قلت لمالك : فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه ، (3/390) ________________________________________ يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال : قال مالك : شهادته جائزة. وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث. السابعة والعشرون : - قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين ، هذا قول الجمهور. "فرجل" رفع بالابتداء ، "وامرأتان" عطف عليه والخبر محذوف. أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما. ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وحكى سيبويه : إن خنجرا فخنجرا. وقال قوم : بل المعنى فإن لم يكن رجلان ، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال. قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، فلفظ الآية لا يعطيه ، بل الظاهر منه قول الجمهور ، أي إن لم يكن المستشهد رجلين ، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ، ولم يذكرها في غيرها ، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور ، بشرط أن يكون معهما رجل. وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها ، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها ، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان ، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين} يشتمل على دين المهر مع البضع ، وعلى الصلح على دم العمد ، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين ، بل هي شهادة على النكاح. وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة. وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح : الثامنة والعشرون : - فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا. ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير. وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبدالله بن الزبير. وقال مالك : وهو الأمر عندنا المجتمع عليه. ولم يجز الشافعي (3/391) ________________________________________ وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم ، لقوله تعالى : {مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله : {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} وقوله : {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق : 2] وهذه الصفات ليست في الصبي. التاسعة والعشرون : - ما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه ، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا ، وعند الشافعي كذلك ، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية. وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا : إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها ، ولم يذكر الشاهد واليمين ، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله ، وهذه زيادة على النص ، وذلك نسخ. وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة. قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن. وزعم عطاء أن أول من قضى به عبدالملك بن مروان ، وقال : الحكم : القضاء باليمين والشاهد بدعة ، وأول من حكم به معاوية. وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية ، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير ، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب ، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى ، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال مالك : فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له : أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه ، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق ، أن حقه لحق ، وثبت حقه على صاحبه. فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان ، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده ؟ فمن أقر فليقر باليمين مع الشاهد. قال علماؤنا : ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه ، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبدالعزيز - وكتب به إلى عماله – (3/392) ________________________________________ وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو الزناد وربيعة ، ولذلك قال مالك : وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة ، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم ! هذا إغفال شديد ، ونظر غير سديد. روى الأئمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار : في الأموال خاصة ، رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس. قال أبو عمر : هذا أصح إسناد لهذا الحديث ، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده ، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات. قال يحيى القطان : سيف بن سليمان ثَبْت ، ما رأيت أحفظ منه. وقال النسائي : هذا إسناد جيد ، سيف ثقة ، وقيس ثقة. وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا. قال أبو بكر البزار : سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان ، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة. ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد ، بل جاء عنهم القول به ، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة. واختلف فيه عن عروة بن الزبير وابن شهاب ، فقال معمر : سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال : هذا شيء أحدثه الناس ، لابد من شاهدين. وقد روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين ، وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الأثر ، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه ، لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن. وقال مالك : يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان ، ولم يحتج في موطئه لمسألة غيرها. ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما ، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه. وخالف يحيى مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة. ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء : 24]. وكنهيه عن (3/393) ________________________________________ أكل لحوم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع مع قوله : {قُلْ لا أَجِدُ} [الأنعام : 145]. وكالمسح على الخفين ، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما ، ومثل هذا كثير. ولو جاز أن يقال : إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد ، لجاز أن يقال : إن القرآن في قوله عز وجل : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [البقرة : 275] وفي قوله : {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء : 29] ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق ، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع ، وهذا لا يسوغ لأحد ، لأن السنة مبينة للكتاب. فإن قيل : إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم. قلنا : بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة ، فكأنه قال : أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد. ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق ، ومن جهة القياس والنظر أنا وقد وجدنا اليمين أقوى من المرأتين ، لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان. وإذا صحت السنة فالقول بها يجب ، ولا تحتاج السنة إلى مايتابعها ، لأن من خالفها محجوج بها. وبالله التوفيق. الموفية ثلاثين - وإذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد ، فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب : ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان ، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد. قال : لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، بدليل قبول شهادة النساء فيها. وقد اختلف قول مالك في جراح العمد ، هل يجب القَوَد فيها بالشاهد واليمين ؟ فيه روايتان : إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية. والأخرى أنه لا يجب به شيء ، لأنه من حقوق الأبدان. قال : وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ : وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ، وقاله عمرو بن دينار. وقال المازري : يقبل في المال المحض من غير خلاف ، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة (3/394) ________________________________________ ما ليس بمال ، ولكنه يؤدي إلى المال ، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت ، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك ، ففي قبوله اختلاف ، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال ، ومن راعى الحال لم يقبله. وقال المهدوي : شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامة الفقهاء ، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، وإنما يشهدن في الأموال. وكل ما لا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه ، كان معهن رجل أو لم يكن ، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة. ويقضى باثنتين منهن في كل ما لا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك. هذا كله مذهب مالك ، وفي بعضه اختلاف. الحادية والثلاثون - قوله تعالى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بكير وغيره : هذه مخاطبة للحكام. ابن عطية : وهذا غير نبيل ، وإنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض. الثانية والثلاثون - لما قال الله تعالى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} دل على أن في الشهود من لا يرضي ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم ، وذلك معنى زائد على الإسلام ، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة : كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال. وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور : هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا. قلت فعمموا الحكم ، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه ، وهو من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي ، قال الله تعالى{ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال تعالى : {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فـ "منكم" خطاب للمسلمين. وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة ، لأن الصفة زائدة (3/395) ________________________________________ على الموصوف ، وكذلك {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} مثله ، خلاف ما قال أبو حنيفة ، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله ، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام. وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" . والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا ، على ما يأتي في "النساء" و"براءة" إن شاء الله تعالى. وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر ، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله. قال علماؤنا : العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية ، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر ، ظاهر الأمانة غير مغفل. وقيل : صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل ، والمعنى متقارب. الثالثة والثلاثون : - لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة ، وهي قبول قول الغير على الغير ، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة. فمن حكم الشاهد. أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره ، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته. وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. وسيأتي لهذا في سورة "يوسف" زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام ، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك. الرابعة والثلاثون قال أبو حنيفة : يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود. وهذه مناقصة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه ، لأننا نقول : حق من الحقوق. فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود ، قاله ابن العربي. الخامسة والثلاثون : - وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى ، خلافا لأبي حنيفة حيث قال : إن النكاح ينعقد. بشهادة فاسقين. فنفى (3/396) ________________________________________ الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح ، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب. قلت : قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا ، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة ، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام ، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدم. ولا يغتر بظاهر قوله : أنا مسلم. فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته ، مثل قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة : 204] إلى قوله : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة : 205] وقال : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقين : 4] الآية. السادسة والثلاثون : - قوله تعالى : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } قال أبو عبيد : معنى تضل تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران ببن ذلك ضالا. ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها. وقرأ حمزة "إن" بكسر الهمزة على معنى الجزاء ، والفاء في قوله : { فَتُذَكِّرَ} جوابه ، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل ، وارتفع "تذكر" على الاستئناف ، كما ارتفع قوله : {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة : 95] هذا قول سيبويه. ومن فتح "أن" فهي مفعول له والعامل فيها محذوف. وانتصب "فتذكر" على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب بأن. قال النحاس : ويجوز "تضل" بفتح التاء والضاد ، ويجوز تضل بكسر التاء وفتح الضاد. فمن قال : "تضل" جاء به على لغة من قال : ضَلِلْت تَضَل. وعلى هذا تقول تِضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر "أن تضل" بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني. وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة. تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما. السابعة والثلاثون : - قوله تعالى : {فَتُذَكِّرَ} خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو ، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة ، لأن شهادة المرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، قاله سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء. وفيه (3/397) ________________________________________ بعد ، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر ، وهو معنى قراءة الجماعة "فتذكر" بالتشديد ، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت. قلت : وإليها ترجع قراءة أبي عمرو ، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى ، يقال : تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى ، قاله في الصحاح. الثامنة والثلاثون : - قوله تعالى : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال الحسن : جمعت هذه الآية أمرين ، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس. وقال قتادة والربيع وابن عباس : أي لتحملها وإثباتها في الكتاب. وقال مجاهد : معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك. وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا ، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين ، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود ، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم ، على ما يأتي. وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر ، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد ، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء. قلت : وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها ، وإن لم (3/398) ________________________________________ يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت. فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم. فإن قيل : هذه شهادة بالأجرة ، قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم. وقد قال تعالى : { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة : 60] ففرض لهم. التاسعة والثلاثون : - لما قال تعالى : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} دل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم ، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة ، ومن أمثالهم : "في بيته يؤتى الحكم". الموفية أربعين : - وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء ، وهو يخص عموم قوله : { من رجالكم }لأنه لا يمكنه أن يجيب ، ولا يصح له أن يأتي ، لأنه لا استقلال له بنفسه ، وإنما يتصرف بإذن غيره ، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية. نعم ! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الحادية والأربعين : - قال علماؤنا : هذا في حال الدعاء إلى الشهادة. فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها ، فقال قوم : أداؤها ندب لقوله تعالى : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ففرض الله الأداء عند الدعاء ، فإذا لم يدع كان ندبا ، لقوله عليه السلام : "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة. والصحيح أن أداءها فرض وان لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته ، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك ، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة ، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق ، وقد قال تعالى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق : 2] وقال : {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف : 86]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ". فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار. (3/399)
| |
|