فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 28 أكتوبر - 15:54 | |
|
________________________________________ المبرد : إنما أنث العشر لأن المراد به المدة. المعنى وعشر مدد ، كل مدة من يوم وليلة ، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر. وقيل : لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها. {وعشرا} أخف في اللفظ ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال ، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة ؛ تقول : صمنا خمسا من الشهر ؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار. وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر : فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج ، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي. وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين. وروي عن ابن عباس أنه قرأ "أربعة أشهر وعشر ليال ". قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن ، وهو عبارة عن انقضاء العدة (3/186) ________________________________________ الثانية : قوله تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } خطاب لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء. {فِيمَا فَعَلْنَ} يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. {بِالْمَعْرُوفِ} أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد ؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم. الثالثة : وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة. وفيها رد على إسحاق في قوله : إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول ، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل. وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة ؛ قال الله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا ؛ فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك. والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب ، والله أعلم. *3*الآية : 235 {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} قوله تعالى : { وَلا جُنَاحَ} أي لا إثم ، والجناح الإثم ، وهو أصح في الشرع وقيل : بل هو الأمر الشاق ، وهو أصح في اللغة ؛ قال الشماخ : إذا تعلو براكبها خليجا ... تذكر ما لديه من الجناح (3/187) ________________________________________ وقوله تعالى : {عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} المخاطبة لجميع الناس ؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة ، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة. والتعريض : ضد التصريح ، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه ؛ كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وقيل ؛ هو من قولك عرضت الرجل ، أي أهديت إليه تحفة ، وفي الحديث : أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا ؛ أي أهدوا لهما. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه. الثانية : - قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز ، وكذلك ما أشبهه ، وجوز ما عدا ذلك. ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : "كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك". ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم. وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين : الأول : أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها. والثاني : أن يشير بذلك إليها دون واسطة ؛ فيقول لها : إني أريد التزويج ؛ أو إنك لجميلة ، إنك لصالحة ، إن الله لسائق إليك خيرا ، إني فيك لراغب ، ومن يرغب عنك ، إنك لنافقة ، وإن حاجتي في النساء ، وإن يقدر الله أمرا يكن. هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب. وقال ابن عباس : لا بأس أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ، ولا بأس أن يهدي إليها ، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه ؛ قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج ؛ وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال : قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب. قلت ، (3/188) ________________________________________ غفر الله لك يا أبا جعفر ، إنك رجل يؤخذ عنك ، تخطبني في عدتي ، قال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي. وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبى سلمة فقال : "لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي" كانت تلك خطبة ؛ أخرجه الدارقطني. والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض ؛ قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. وكره مجاهد أن يقول لها : لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا. قال القاضي أبو محمد بن عطية : وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى : {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} الخطبة "بكسر الخاء" : فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول. يقال : خطبها يخطبها خطبا وخطبة. ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة ؛ ومنه قول الشاعر : برح بالعينين خطاب الكثب ... يقول إني خاطب وقد كذب وإنما يخطب عسا من حلب والخطيب : الخاطب. والخطيبى : الخطبة ؛ قال : عدي بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء : لخطيبي التي غدرت وخانت ... وهن ذوات غائلة لحينا والخطب ؛ الرجل الذي يخطب المرأة ؛ ويقال أيضا : هي خطبه وخطبته التي يخطبها. والخطبة فعلة كجلسة وقعدة : والخطبة "بضم الخاء" هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره. قال النحاس : والخطبة ما كان لها أول وآخر ؛ وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة. الرابعة : - قوله تعالى : {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها. والإكنان : الستر والإخفاء ؛ يقال : كننته وأكننته بمعنى واحد. وقيل : (3/189) ________________________________________ ، كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا ؛ ومنه بيض مكنون ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته. وقيل : كننت الشيء "من الأجرام" إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه. وأكننت الأمر في نفسي. ولم يسمع من العرب "كننته في نفسي". ويقال : أكن البيت الإنسان ؛ ونحو هذا. فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان ، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد. ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها. الخامسة : - استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد ؛ وقالوا : لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد ؛ لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا : هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف ؛ والأعراض يجب صيانتها ، وذلك يوجب حد المعرض ؛ لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح. قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم ؛ فرخص في التعريض دون التصريح. الحسن : معناه ستخطبونهن. {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} أي على سر فحذف الحرف ؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر. واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : {سِرّاً} فقيل ؛ معناه نكاحا ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني ؛ بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية ؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم. "وسرا" على هذا التأويل نصب على الحال ، أي مستسرين. وقيل : السر الزنا ، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قال معناه جابر (3/190) ________________________________________ بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد ، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك ، وأن السر في هذه الآية الزنا ، أي لا تواعدوهن زنا ، واختاره الطبري ؛ ومنه قول الأعشى : فلا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فأنكحن أو تأبدا وقال الحطيئة : ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع وقيل : السر الجماع ، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش ؛ هذا قول الشافعي. وقال امرؤ القيس : ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن السر أمثالي وقال رؤبة : فكف عن إسرارها بعد العسق أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح ، سرا كان أو جهرا ، قال الأعشى : فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها ، ولن يسلموها لقلة مالها. وقال ابن زيد : معنى قوله {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ؛ فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ؛ وهذا هو معنى القول الأول ؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول ؛ وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة ، وذلك قلق. وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال : الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} . الثامنة : - قال القاضي أبو محمد بن عطية : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته. قال ابن المواز : وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه. وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها : فراقها أحب إلي ، دخل بها أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة ؛ فإذا (3/191) ________________________________________ حلت خطبها مع الخطاب ؛ هذه رواية ابن وهب. وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا ؛ وقاله ابن القاسم. وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد. وقال الشافعي : إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه لأن النكاح حادث بعد الخطبة ؛ قاله ابن المنذر. التاسعة : - قوله تعالى : {إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} استثناء منقطع بمعنى لكن ؛ كقوله : {إِلاَّ خَطَأً} [النساء : 92] أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة : احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة ؛ فتقول هي : وأنا مثل ذلك ؛ وهذا شبه المواعدة. قوله تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فيه تسع مسائل : الأولى - : قوله تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} قد تقدم القول في معنى العزم ؛ يقال : عزم الشيء وعزم عليه. والمعنى هنا : ولا تعزموا على عقدة النكاح. ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام ؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه ، ولا يشك في صحته وفصاحته ؛ وقد قال الله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة : 227] وقال هنا : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} والمعنى : لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم. وحكى سيبويه : ضرب فلان الظهر والبطن ؛ أي على. قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه. قال النحاس : ويجوز أن يكون "ولا تعقدوا عقدة النكاح" ؛ لأن معنى "تعزموا" وتعقدوا واحد. ويقال : "تعزموا" بضم الزاي. الثانية : - قوله تعالى : {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يريد تمام العدة. والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ؛ سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال "كتاب الله عليكم" وكما قال : {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء : 103]. فالكتاب : الفرض ، أي حتى يبلغ الفرض أجله ؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183] أي فرض. وقيل : (3/192) ________________________________________ ، في الكلام حذف ، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن. وعلى الأول لا حذف فهو أولى ، والله أعلم. حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} وهذا من المحكم المجمع على تأويله ، أن بلوغ أجله انقضاء العدة. وأباح التعريض في العدة بقوله : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} الآية. ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك ، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم. واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا ، أو يواعدها ويعقد بعد العدة ؛ وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها. واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه ؛ وذلك قبل الدخول وهي : الرابعة : - فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما ، وأنه يكون خاطبا من الخطاب ؛ وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه [ضرب أجل المفقود]. وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول ؛ ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم ؛ أصله إذا بنى بها. وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهي : الخامسة : - فقال قوم من أهل العلم : ذلك كالدخول في العدة ؛ يتأبد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم : لا يتأبد بذلك تحريم. وقال مالك : يتأبد التحريم. وقال مرة : وما التحريم بذلك بالبين ؛ والقولان له في المدونة في طلاق السنة. وأما إن دخل في العدة ، وهي : السادسة : - فقال مالك والليث والأوزاعي : يفرق بينهما ولا تحل له أبدا. قال مالك والليث : ولا بملك اليمين ؛ مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال : لا يجتمعان أبدا. قال سعيد : ولها مهرها بما استحل من فرجها ؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي. وقال الثوري والكوفيون والشافعي : يفرق بينهما ولا يتأبد (3/193) ________________________________________ التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ، ثم يكون خاطبا من الخطاب. واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها ؛ فكذلك وطؤه إياها في العدة. قالوا : وهو قول علي. ذكره عبدالرزاق. وذكر عن ابن مسعود مثله ؛ وعن الحسن أيضا. وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال : لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها ؛ فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد ؛ وبه قال أحمد بن حنبل. وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين ؛ إحداهما : أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه. والثانية : أنه زان وعليه الحد ، ولا يلحق به الولد ، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها ؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك ، وقيامه بذلك في الناس ، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار ، ولم يعلم له مخالف ؛ فثبت أنه إجماع. قال القاضي أبو محمد : وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره ؛ وهذا حكم الإجماع. ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه ؛ كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت. وقد قال القاضي أبو الحسن : إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر. والله أعلم. وأسند أبو عمر : حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال : بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال : لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال ؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال : يرحم الله أمير المؤمنين ، ما بال الصداق وبيت المال ، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل : فما تقول أنت فيهما ؟ فقال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ، ثم تعتد من (3/194) ________________________________________ الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ عمر فخطب الناس فقال : أيها الناس ، ردوا الجهالات إلى السنة. قال الكيا الطبري : ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد. وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد ؛ إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه ، ومع العلم به مختلف فيه. واختلفوا هل تعتد منهما جميعا. وهذه مسألة العدتين وهي : السابعة : - فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول ، وتستأنف عدة أخرى من الآخر ؛ وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن علي كما ذكرنا ، وعن عمر على ما يأتي. وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك : إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها ، سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالشهور ؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه ؛ فدل على أنها في عدة من الثاني ، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه. أجاب الأولون فقالوا : هذا غير لازم لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني ؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين ، لا يدخل أحدهما في صاحبه. وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما ؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول ، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب ؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا. قال مالك : وقال سعيد بن المسيب : ولها مهرها بما استحل من فرجها. قال أبو عمر : وأما طليحة هذه فهي طليحة ، (3/195) ________________________________________ بنت عبيدالله أخت طلحة بن عبيدالله التيمي ، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى : طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل ، ولا أعلم أحدا قاله. الثامنة - قوله "فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات" يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة. وقال الزهري : فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد. قال : وجلد عبدالملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة. قال : فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال : لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين ، وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة ، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه. وقال ابن المواز : يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك ؛ فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة ، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب ؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات. وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب. ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما. وقد قال الشيخ أبو القاسم : إنهما روايتان في التعمد ؛ إحداهما يحد ، والثانية يعاقب ولا يحد. التاسعة - قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه. *3*الآية : 236 {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى - قوله تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} هذا أيضا من أحكام المطلقات ؛ وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع ، فرض مهرا أو لم (3/196) ________________________________________ يفرض ؛ ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة ، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن. وقال قوم : {لا جناح عليكم} معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها ، والمتعة لمن لم يفرض لها. وقيل : لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل ؛ فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر. وقال قوم : {لا جناح عليكم} معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض ، بخلاف المدخول بها إذ غير المدخول بها لا عدة عليها. الثانية - المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها مفروض لها وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر ، وأن عدتها ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة "الأحزاب" أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها ، وسيأتي. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، [البقرة : 237] ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء : 24] ؛ فذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض ، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض ؛ فجعل للأولى المتعة ، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد ، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد ؛ وقابل المسيس بالمهر الواجب. الثالثة - لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين : مطلقة مسمى لها المهر ، ومطلقة لم يسم لها دل على أن نكاح التفويض جائز وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه ، ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وحكى (3/197) ________________________________________ المهدوي عن حماد بن أبي سليمان أنه إذا طلقها ولم يدخل بها ولم يكن فرض لها أجبر على نصف صداق مثلها. وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة : لا يتنصف بالطلاق لأنه لم يجب بالعقد وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة : 237] وخلاف القياس أيضا ؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق ؛ أصله الفرض المقترن بالعقد. الرابعة : - إن وقع الموت قبل الفرض فذكر الترمذي عن ابن مسعود "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود : لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود". قال الترمذي : حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح ، وقد روي عنه من غير وجه ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق ، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر : "إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قالوا : لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة" وهول قول الشافعي. وقال : ولو ثبت حديث بروع بنت واشق لكانت الحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويروى عن الشافعي أنه رجع بمصر بعد عن هذا القول ، وقال بحديث بروع بنت واشق. قلت : اختلف في تثبيت حديث بروع ؛ فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب في شرح رسالة ابن أبي زيد : وأما حديث بروع بنت واشق فقد رده حفاظ الحديث وأئمة أهل العلم. وقال الواقدي : وقع هذا الحديث بالمدينة فلم يقبله أحد من العلماء وصححه الترمذي كما ذكرنا عنه وابن المنذر. قال ابن المنذر : وقد ثبت مثل قول عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه نقول. وذكر أنه قول أبي ثور وأصحاب الرأي. (3/198) ________________________________________ وذكر عن الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي مثل قول علي وزيد وابن عباس وابن عمر. وفي المسألة قول ثالث وهو أنه لا يكون ميراث حتى يكون مهر ؛ قاله مسروق. قلت : ومن الحجة لما ذهب إليه مالك أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق ؛ أصله الطلاق لكن إذا صح الحديث فالقياس في مقابلته فاسد. وقد حكى أبو محمد عبدالحميد عن المذهب ما يوافق الحديث والحمد لله. وقال أبو عمر : حديث بروع رواه عبدالرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود الحديث. وفيه : فقام معقل بن سنان. وقال فيه ابن مهدي عن الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله فقال معقل بن يسار ، والصواب عندي قول من قال : معقل بن سنان لا معقل بن يسار لأن معقل بن يسار رجل من مزينة ، وهذا الحديث إنما جاء في امرأة من أشجع لا من مزينة وكذلك رواه داود عن الشعبي عن علقمة ؛ وفيه : فقال ناس من أشجع ومعقل بن سنان قتل يوم الحرة وفي يوم الحرة يقول الشاعر : ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان قوله تعالى : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} "ما" بمعنى الذي ، أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و"تمسوهن" قرئ بفتح التاء من الثلاثي ، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ حمزة والكسائي "تماسوهن" من المفاعلة ؛ لأن الوطء تم بهما ؛ وقد يرد في باب المفاعلة فاعل بمعنى فعل ؛ نحو طارقت النعل ، وعاقبت اللص. والقراءة الأولى تقتضي معنى المفاعلة في هذا الباب بالمعنى المفهوم من المس ؛ ورجحها أبو علي ؛ لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن ، جاء : نكح وسفد وقرع ودفط وضرب الفحل ؛ والقراءتان حسنتان. و"أو" في {أو تفرضوا} قيل هو بمعنى الواو ؛ أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن ؛ كقوله تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف : 4] أي وهم قائلون. وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147] أي ويزيدون. ، (3/199) ________________________________________ وقوله : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان : 24] أي وكفورا. وقوله : {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء : 43] معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون. وقوله : {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام : 146] وما كان مثله. ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة : 237]. فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره. السادسة : - قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن. وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبى الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب. وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب. تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر. وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى : {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينِ} ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى ؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله : {مَتِّعُوهُنَّ} وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} أظهر في الوجوب منه في الندب. وقوله : {عَلَى الْمُتَّقِينِ} تأكيد لإيجابها ؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه ، وقد قال تعالى في القرآن : {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} السابعة : - واختلفوا في الضمير المتصل بقوله {وَمَتِّعُوهُنَّ} من المراد به من النساء ؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي : المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض ، ومندوبة في حق غيرها. وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها ، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها. وقال أبو ثور : لها المتعة ولكل مطلقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة. قال الزهري : يقضي لها بها القاضي. وقال جمهور الناس : لا يقضي بها (3/200) ________________________________________ قلت : هذا الإجماع إنما هو في الحرة ، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء غم الطلاق ، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده ؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذي وعطاء والنخعي : للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة. قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن المواز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ؛ مثل ملك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم : وأصل ذلك قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها ، فهذه لا متعة لها. وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة ؛ لأن الزوج سبب للفراق. الثامنة : - قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا ؛ فقال ابن عمر : أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها. وقال ابن عباس : أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء : أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة : ذلك أدناها. وقال ابن محيريز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير ، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن : يمتع كل بقدره ، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة ؛ وكذلك يقول مالك بن أنس ، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل : إن حالة المرأة معتبرة أيضا ؛ قاله بعض الشافعية ، قالوا : لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى : {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} ويلزم منه أن ، (3/201) ________________________________________ الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها ؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها ؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها ؛ فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء. وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير ؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد ، والمتعة هي بعض مهر المثل ؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول ، وهذا يرده قوله تعالى : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وهذا دليل على رفض التحديد ؛ والله بحقائق الأمور عليم. وقد ذكر الثعلبي حديثا قال : نزلت {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية ، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "متعها ولو بقلنسوتك". وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت : لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين ، فقال : يقتل علي وتظهرين الشماتة ، اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال : فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إليها بعشرة آلاف متعة ، وبقية ما بقي لها من صداقها. فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال : لولا أنى سمعت جدي - أو حدثني أبي أنه سمع جدي - يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها. وفي رواية : أخبره الرسول فبكى وقال : لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره". (3/202) ________________________________________ التاسعة : من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، رواه ابن المواز عن ابن القاسم. وقال أصبغ : لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق ، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب ، والله أعلم. العاشرة : - قوله تعالى : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} دليل على وجوب المتعة وقرأ الجمهور {الْمُوسِعِ} بسكون الواو وكسر السين ، وهو الذي اتسعت حاله ، يقال : فلان ينفق ، على قدره ، أي على وسعه. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر "قدره" بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال أبو الحسن الأخفش وغيره : هما بمعنى ، لغتان فصيحتان ، وكذلك حكى أبو زيد ، يقول : خذ قدر كذا وقدر كذا ، بمعنى. ويقرأ في كتاب الله : {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد : 17] وقدرها ، وقال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام : 91] ولو حركت الدال لكان جائزا. و{لمُقْتِرِ} لمقل القليل المال . و {مَتَاعَاً} نصب على المصدر ، أي متعوهن متاعا {بالمعروف} أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد. الحادية عشرة : - قوله تعالى : {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي يحق ذلك عليهم حقا ، يقال : حققت عليه القضاء وأحققت ، أي أوجبت ، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها ، فقوله : {حَقّاً} تأكيد للوجوب. ومعنى {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي على المؤمنين ، إذ ليس لأحد أن يقول : لست بمحسن ولا متق ، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين ؛ فيحسنون ، بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار ؛ فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين. و {حَقّاً} صفة لقوله { مَتَاعَاً} أو نصب على المصدر ، وذلك أدخل في التأكيد للأمر ؛ والله أعلم. (3/203)
| |
|