منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ابناء الدويم

واحة ابناء الدويم
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب الجامع لأحكام القرآن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فوزي عبد القادر موسى عبد
دويمابي برتبة لواء
فوزي عبد القادر موسى عبد


عدد الرسائل : 2478

كتاب الجامع لأحكام القرآن Empty
مُساهمةموضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن   كتاب الجامع لأحكام القرآن I_icon_minitimeالثلاثاء 7 سبتمبر - 16:26

________________________________________
هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] ، وهناك يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم ، إن شاء الله تعالى.
وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم - على ما يأتي - فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم ، ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى ، وليس معناه أنهم سيحيون ، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا. ويدل على هذا قوله تعالى : {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وارتفع "أموات" على إضمار مبتدأ ، وكذلك "بل أحياء" أي هم أموات وهم أحياء ، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب ، كما يصح في قولك : قلت كلاما وحجة.
الآية : 155 {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
قوله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين. وقال غيره : لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة ، وقد تقدم. والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء ، كما تقدم. وقيل : إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق. وقيل : أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم ، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع ، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العز وتوطين النفس
قوله تعالى : {بِشَيْءٍ} لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرأ الضحاك "بأشياء" على الجمع. وقرأ الجمهور بالتوحيد ، أي بشيء من هذا وشيء من هذا ، فاكتفى بالأول إيجازا {مِنَ الْخَوْفِ} أي خوف العدو والفزع في القتال ، قاله ابن عباس. وقال الشافعي : هو خوف
(2/173)
________________________________________
الله عز وجل {وَالْجُوعِ} يعني المجاعة بالجدب والقحط ، في قول ابن عباس. وقال الشافعي : هو الجوع في شهر رمضان {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} بسبب الاشتغال بقتال الكفار. وقيل : بالجوائح المتلفة. وقال الشافعي : بالزكاة المفروضة. {وَالأَنْفُسِ} قال ابن عباس : بالقتل والموت في الجهاد. وقال الشافعي : يعني بالأمراض {وَالثَّمَرَاتِ} قال الشافعي : المراد موت الأولاد ، وولد الرجل ثمرة قلبه ، كما جاء في الخبر ، على ما يأتي. وقال ابن عباس : المراد قلة النبات وانقطاع البركات.
قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس ، وثوابه غير مقدر ، وقد تقدم. لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى ، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" . وأخرجه مسلم أتم منه ، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها ، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر ، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك ، ولذلك قيل : يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث. وقال سهل بن عبدالله التستري : لما قال تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} صار الصبر عيشا. والصبر صبران : صبر عن معصية الله ، فهذا مجاهد ، وصبر على طاعة الله ، فهذا عابد. فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه ، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات. وقال الخواص : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم : الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري : الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال الأستاذ أبو علي : الصبر حدة ألا تعترض على التقدير ، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر ، قال الله تعالى في قصة أيوب : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص : 44] مع أخبر عنه أنه قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء : 83].
(2/174)
________________________________________
لآية : 156- {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
الآية : 157- {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {مُصِيبَةٌ} المصيبة : كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه ، يقال : أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة "بضم الصاد" مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب ، وأصله الواو ، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد ، ويجمع على مصاوب ، وهو الأصل. والمصاب الإصابة ، قال الشاعر :
أسليم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
وصاب السهم القرطاس يصيب صيبا ، لغة في أصابه. والمصيبة : النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت ، وتستعمل في الشر ، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال : " إنا لله وإنا إليه راجعون" فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال : "نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة".
قلت : هذا ثابت معناه في الصحيح ، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته" .
الثانية : خرج ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام ابن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب"
(2/175)
________________________________________
الثالثة : من أعظم المصائب المصيبة في الدين ، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب" . أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده ، أخبرنا أبو نعيم قال : أنبأنا فطر... ، فذكر مثله سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر : وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة ، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك ، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد : ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول :
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
أو ما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة ؟ ... هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكرت محمدا ومصابه ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
الرابعة- قوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتحنين : لما جمعت من المعاني المباركة ، فإن قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله : {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا ، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسفي على يوسف
الخامسة- قال أبو سنان : دفنت ابني سنانا ، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال : ألا أبشرك يا أبا سنان ، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي
(2/176)
________________________________________
فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" . وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" . فهذا تنبيه على قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155] إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل ، كما في حديث أبي موسى ، وقد يكون بهما.
السادسة- قوله تعالى : {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده : عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له ، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى ، كما قال : {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة : 159] ، وقوله {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف : 80]. وقال الشاعر :
صلى على يحيى وأشياعه ... رب كريم وشفيع مطاع
وقيل : أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعم العلاوة : {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أراد بالعدلين الصلاة والرحمة ، وبالعلاوة الاهتداء. قيل : إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر ، وقيل : إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
الآية : 158 {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
(2/177)
________________________________________
فيه تسع مسائل :
الأولى : روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وخرج الترمذي عن عروة قال : "قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون ، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولو كانت كما تقول لكانت : "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما"" قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال : إن هذا لعلم ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف [بالبيت] ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قال أبو بكر بن عبدالرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. قال : "هذا حديث حسن صحيح". أخرجه البخاري بمعناه ، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} : "قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبدالرحمن فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله ، كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن
(2/178)
________________________________________
نطوف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله عز وجل : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت". وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال : "سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال : هما تطوع {مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} قال : هذا حديث حسن صحيح. خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال : كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة ، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك ، فنزلت. وقال الشعبي : كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى "إسافا" وعلى المروة صنم يسمى "نائلة" فكانوا يمسحونهما إذا طافوا ، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك ، فنزلت الآية.
الثانية : أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس ، وهو هنا جبل بمكة معروف ، وكذلك المروة جبل أيضا ، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به ، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة ، فأنث لذلك ، والله اعلم. وقال الشعبي : كان على الصفا صنم يسمى [إسافا] وعلى المروة صنم يدعى [نائلة] فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر ، وهذا حسن ، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا ، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين
(2/179)
________________________________________
فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله ، والله تعالى أعلم. والصفا "مقصور" : جمع صفاة ، وهي الحجارة الملس. وقيل : الصفا اسم مفرد ، وجمعه صفي "بضم الصاد" وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز :
كأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصفي
وقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، واشتقاقه من صفا يصفو ، أي خلص من التراب والطين. والمروة "واحدة المرو" وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته ، وفي هذا يقال : المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر :
وتولى الأرض خفا ذابلا ... فإذا ما صادف المرو رضخ
وقال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر كل يوم تقرع
وقد قيل : إنها الحجارة السود. وقيل : حجارة بيض براقة تكون فيها النار.
الثالثة : قوله تعالى : {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي من معالمه ومواضع عباداته ، وهي جمع شعيرة. والشعائر : المتعبدات التي أشعرها الله تعالى ، أي جعلها أعلاما للناس ، من الموقف والسعي والنحر. والشعار : العلامة ، يقال : أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه ، من قولك : أشعرت أي أعلمت ، وقال الكميت :
نقلهم جيلا فجيلا تراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب
(2/180)
________________________________________
الرابعة : قوله تعالى : {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أي قصد. وأصل الحج القصد ، قال الشاعر :
فأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
السب : لفظ مشترك. قال أبو عبيدة : السب "بالكسر" الكثير السباب.ل وسبك أيضا الذي يسابك ، قال الشاعر :
لا تسبنني فلست بسبي ... إن سبي من الرجال الكريم
والسب أيضا الخمار ، وكذلك العمامة ، قال المخبل السعدي :
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
والسب أيضا الحبل في لغة هذيل ، قال أبو ذؤيب :
تدلى عليها بين سب وخيطة ... بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
والسبوب : الحبال. والسب : شقة كتان رقيقة ، والسبيبة مثله ، والجمع السبوب والسبائب ، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل ، قال الشاعر :
يحج مأمومة في قعرها لجف
اللجف : الخسف. تلجفت البئر : انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة
الخامسة : قوله تعالى : {أَوِ اعْتَمَرَ} أي زار والعمرة : الزيارة ، قال الشاعر :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر ... مغزى بعيدا من بعيد وضبر
(2/181)
________________________________________
السادسة : قوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل ، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن العربي : "وتحقيق القول فيه أن قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة الفعل. وقوله : لا جناح عليك ألا تفعل ، إباحة لترك الفعل ، فلما سمع عروة قول الله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال : هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة : ليس قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} دليلا على ترك الطواف ، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه ، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا".
فإن قيل : فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" وهي قراءة ابن مسعود ، ويروى أنها في مصحف أبي كذلك ، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف ، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا ، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة ، أو تكون "لا" زائدة للتوكيد ، كما قال :
وما ألوم البيض ألا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندرا
السابعة : روى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ : {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة : 125] وصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال : "نبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا وقال : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
(2/182)
________________________________________
شَعَائِرِ اللَّهِ} قال : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة ، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا.
الثامنة : واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، فقال الشافعي وابن حنبل : هو ركن ، وهو المشهور من مذهب مالك ، لقوله عليه السلام : "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" . خرجه الدارقطني. وكتب بمعنى أوجب ، لقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183] ، وقوله عليه السلام : "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" . وخرج ابن ماجة عن أم ولد لشيبة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : "لا يقطع الأبطح إلا شدا" فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة ، فيطوف ويسعى ، لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا ، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي : عليه هدي ، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي : ليس بواجب ، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم ، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع ، لقوله تعالى : {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} . وقرأ حمزة والكسائي "يطوع" مضارع مجزوم ، وكذلك {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} الباقون "تطوع" ماض ، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا ، وقوله عليه السلام : "خذوا عني مناسككم" فصار بيانا لمجمل الحج ، فالواجب أن يكون فرضا ، كبيانه لعدد الركعات ، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع. وقال طليب : رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال : هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل
(2/183)
________________________________________
قلت : وهذا ثابت في صحيح البخاري ، على ما يأتي بيانه في سورة "إبراهيم".
التاسعة- ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر ، فإن طاف معذورا فعليه دم ، التاسعة : وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال : "خذوا عني مناسككم" . وإنما جوزنا ذلك من العذر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه ، وقال لعائشة وقد قالت له : إني اشتكي ، فقال : "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" . وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان ، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه ، لأنه حينئذ لا يكون طائفا ، وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد : وهذه تفرقة اختيار ، وأما الإجزاء فيجزئ ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا ، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.
الآية : 159 {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}
وفيه سبع مسائل :
الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص ، أخرجه ابن ماجة. ويعارضه قول عبدالله بن مسعود : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام : "حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن
(2/184)
________________________________________
يكذب الله ورسوله" . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ، وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى اعلم
الثانية : هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام ، وقد مضى القول في هذا.
وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها" . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير" ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سحنون : إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي : والصحيح خلافه ، لأن في الحديث "من سئل عن علم" ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله اعلم
الثالثة : قوله تعالى : {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع. وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة : 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
(2/185)
________________________________________
فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا : هذا غلط ، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والله تعالى اعلم.
الرابعة : لما قال : {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبدالله : البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى اعلم
الخامسة : قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} الكناية في "بيناه" ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة.
السادسة : قوله تعالى : {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم : عليكم لعنتي ، كما قال للّعين : {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص : 78]. وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد ، وقد تقدم.
السابعة : قوله تعالى : {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} قال قتادة والربيع : المراد "باللاعنون" الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج : والصواب قول من قال : "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.
(2/186)
________________________________________
قلت : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله تعالى : {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} قال : "دواب الأرض". أخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء ، إسناد حسن.
فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4] ولم يقل ساجدات ، وقد قال : {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت : 21] ، وقال : {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف : 198] ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن عباس : "اللاعنون" كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع" . وقال ابن مسعود والسدي : "هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود".
الآية : 160 {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في "النساء" إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء في قوله :
(2/187)
________________________________________
{وَبَيَّنُوا} أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل : "بينوا" يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه ، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه ، والله تعالى اعلم. {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تقدم ولله الحمد.
الآية : 161 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
الآية : 162 {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَهُمْ كُفَّارٌ} الواو واو الحال. قال ابن العربي : قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه ، لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة : الموافاة على الكفر ، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم. قال ابن العربي : والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني" . فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله. وانتصف بقوله : "عدد ما هجاني" ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف. وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك ، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قلت : أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن
(2/188)
________________________________________
فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله ، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه
الثانية : ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره ، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف : إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم ، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر ، فإنه لا يتأثر به.
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت : 25] ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم ، لا على الأمر. وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا ، لما روي عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة ، وهذا حديث صحيح.
قلت : خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين ، قال : وإنما قال عليه السلام : "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه ، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه. وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب" .
(2/189)
________________________________________
فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة ، والله تعالى اعلم.
قال ابن العربي : وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده" .
الثالثة : قوله تعالى : {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي إبعادهم من رحمته وأصل اللعن : الطرد والإبعاد ، وقد تقدم. فاللعنة من العباد الطرد ، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري "والملائكة والناس أجمعون" بالرفع. وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون ، كما تقول : كرهت قيام زيد وعمرو وخالد ، لأن المعنى : كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف.
فإن قيل : ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم ، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة ، أحدها : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل. الثاني : قال السدي : كل أحد يلعن الظالم ، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه. الثالث : قال أبو العالية : المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس ، كما قال تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت : 25] ثم قال جل وعز : {خَالِدِينَ فِيهَا} يعني في اللعنة ، أي في جزائها. وقيل : خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات. و"خالدين" نصب على الحال من الهاء والميم في "عليهم" ، والعامل فيه الظرف من قوله : "عليهم" لأن فيها معنى استقرار اللعنة.
الآية : 163 {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلم طريق
(2/190)
________________________________________
النظر ، وهو الفكر في عجائب الصنع ، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء. قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى سورة "الإخلاص" وهذه الآية. وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما ، فبين الله أنه واحد.
الثانية : قوله تعالى : {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} نفي وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان ، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول : الله ، ولا يقول : لا إله ، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار.
قلت : وهذا من علومهم الدقيقة ، التي ليست لها حقيقة ، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره ، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" خرجه مسلم. والمقصود القلب لا اللسان ، فلو قال : لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة. وقد أتينا على معنى اسمه الواحد ، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى". والحمد لله.
الآية : 164 {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قال عطاء : لما نزلت {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . ورواه سفيان عن أبيه
(2/191)
________________________________________
عن أبي الضحى قال : لما نزلت {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع. وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى. ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى اعلم.
فآية السموات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية.
وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.
قوله تعالى : {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم. وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة ، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :
في كل يوم وكل ليلاة
وقال آخر :
في كل يوم ما وكل ليلاه ... حتى يقول كل راء إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
قال ابن فارس في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب : نَهَر جمع نُهُر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم
(2/192)
________________________________________
مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقولك الضياء ، يقع على القليل والكثير. والأول أكثر ، قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
قال ابن فارس : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار. ويقال : إن النهار يجمع على النهر. والنهار : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر : صاحب نهار. ويقال إن النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، استشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
وأنشد قول عدي بن زيد :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وأنشد الكسائي :
إذا طلعت شمس النهار فإنها ... أمارة تسليمي عليك فسلمي
قال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار.
قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه ابن فارس في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة : 187] قال له عدي : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار. فقال
(2/193)
________________________________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار" . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام. فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث ، وعلى الأول لا يحنث. وقول النبي هو الفيصل في ذلك والحكم. وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ، خرجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى
الثالثة : قوله تعالى : {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان. والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس : 41] فجاء به مذكرا ، وقال : {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس : 22] فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل : واحده فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور.
ووجه الآية في الفلك : تسخير اللّه إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله ابن العربي.
(2/194)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب الجامع لأحكام القرآن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ابناء الدويم :: المنتدى الإسلامي-
انتقل الى: