تفسير سورة غافر
الآية : [38] { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ }
الآية : [39] { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ }
الآية : [40] { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }
الآية : [41] { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ }
الآية : [42] { تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ }
الآية : [43] { لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }
الآية : [44] { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ } هذا من تمام ما قاله مؤمن آل فرعون ؛ أي اقتدوا بي في الدين. { أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } أي طريق الهدى وهو الجنة. وقيل : من قول موسى. وقرأ معاذ بن جبل { الرَّشَادِ } بتشديد الشين وهو لحن عند أكثر أهل العربية ؛ لأنه إنما يقال أرشد يرشد ولا يكون فعال من أفعل إنما يكون من الثلاثي ، فإن أردت التكثير من الرباعي قلت : مفعال. قال النحاس : يجوز أن يكون رشاد بمعنى يرشد لا على أنه مشتق منه ، ولكن كما يقال لآل من اللؤلؤ فهو بمعناه وليس جاريا عليه. ويجوز أن يكون رشاد من رشد يرشد أي صاحب رشاد ؛ كما قال :
كليني لهم يا أميمة ناصب
الزمخشري : وقرئ { الرَّشَادِ } فعال من رشد بالكسر كعلام أو من رشد بالفتح كعباد. وقيل : من أرشد كجبار من أجبر وليس بذاك ؛ لأن فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف ؛ نحو دراك وسار وقصار وجبار. ولا يصح القياس على هذا القليل. ويجوز أن يكون نسبته إلى الرشد كعواج وبتات غير منظور فيه إلى فعل. ووقع في المصحف { اتَّبِعُونِ }
(15/316)
بغير ياء. وقرأها يعقوب وابن كثير بالإثبات في الوصل والوقف. وحذفها أبو عمرو ونافع في الوقف وأثبتوها في الوصل ، إلا ورشا حذفها في الحالين ، وكذلك الباقون ؛ لأنها وقعت في المصحف بغير ياء ومن أثبتها فعلى الأصل.
قوله تعالى : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي يتمتع بها قليلا ثم تنقطع وتزول. { وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } أي الاستقرار والخلود. ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان. بين ذلك بقوله : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً } يعني الشرك { فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } وهو العذاب. { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً } قال ابن عباس : يعني لا إله إلا الله. { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مصدق بقلبه لله وللأنبياء. { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبي عمرو ويعقوب وأبي بكر عن عاصم ؛ يدل عليه { يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } الباقون { يَدْخُلُونَ } بفتح الياء.
قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ } أي إلى طريق الإيمان الموصل إلى الجنان { وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ } بين أن ما قال فرعون من قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } سبيل الغي عاقبته النار وكانوا دعوه إلى اتباعه ؛ ولهذا قال : { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وهو فرعون { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ }. { لا جَرَمَ } تقدم الكلام فيه ، ومعناه حقا. { أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } {ما} بمعنى الذي { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ } قال الزجاج : ليس له استجابة دعوة تنفع ؛ وقال غيره : ليس له دعوة توجب له الألوهية { فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ } وقال الكلبي : ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ، ثم دعاهم إلى عبادة البقر ، فكانت تعبد ما كانت شابة ، فإذا هرمت أمر بذبحها ، ثم دعا بأخرى لتعبد ، ثم لما طال عليه الزمان قال أنا ربكم الأعلى. { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } قال قتادة وابن سيرين يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي : هم السفهاء والسفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة : الجبارون
(15/317)
والمتكبرون. وقيل : هم الذي تعدوا حدود الله. وهذا جامع لما ذكر. و { َأَنَّ } في المواضع في موضع نصب بإسقاط حرف الجر. وعلى ما حكاه سيبويه عن الخليل من أن { لا جَرَمَ } رد لكلام يجوز أن يكون موضع { َأَنَّ } رفعا على تقدير وجب أن ما تدعونني إليه ، كأنه قال : وجب بطلان ما تدعونني إليه ، والمرد إلى الله ، وكون المسرفين هم أصحاب النار.
قوله تعالى : { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } تهديد ووعيد. و { مَا } يجوز أن تكون بمعنى الذي أي الذي أقوله لكم. ويجوز أن تكون مصدرية أي فستذكرون قولي لكم إذا حل بكم العذاب. { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. وقيل : هذا يدل على أنهم أرادوا قتله. وقال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقد قيل : القائل موسى. والأظهر أنه مؤمن آل فرعون ؛ وهو قول ابن عباس.
الآية : [45] { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }
الآية : [46] { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }
قوله تعالى : { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي من إلحاق أنواع العذاب به فطلبوه فما وجدوه ؛ لأنه فوض أمره إلى الله. قال قتادة : كان قبطيا فنجاه الله مع بني إسرائيل. فالهاء على هذا لمؤمن آل فرعون. وقيل : إنها لموسى على ما تقدم من الخلاف. { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } قال الكسائي : يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا إذ نزل ولزم. ثم بين العذاب فقال : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } وفيه ستة أوجه : يكون رفعا على البدل من { سُوءُ } . ويجوز أن يكون بمعنى هو النار. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء. وقال الفراء : يكون مرفوعا بالعائد على معنى النار عليها يعرضون ، فهذه أربعة أوجه في الرفع ، وأجاز الفراء النصب ؛ لأن بعدها عائدا وقبلها ما يتصل به ، وأجاز الأخفش الخفض على البدل من { الْعَذَابِ }. والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. واحتج بعض أهل العلم في تثبيت
(15/318)
عذاب القبر بقوله : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال : هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا ، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }. وفي الحديث عن ابن مسعود : أن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار بالغداة والعشي فيقال هذه داركم. وعنه أيضا : إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين فذلك عرضها. وروى شعبة عن يعلى بن عطاء قال : سمعت ميمون بن مهران يقول : كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي : أصبحنا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار. فإذا أمسى نادى : أمسينا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار ؛ فلا يسمع أبا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار. وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشي ثم تلا : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } وإن المؤمن إذا مات عرض روحه عل الجنة بالغداة والعشي" وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" . قال الفراء : في الغداة والعشي بمقادير دلك في الدنيا. وهو قول مجاهد. قال { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } قال : من أيام الدنيا. وقال حماد بن محمد الفزاري : قال رجل للأوزاعي رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب ، بيضا صغارا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشاء رجعت مثلها سودا. قال : تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون ، يعرضون على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى أوكارها وقد أحترقت رياشها وصارت سودا ، فينبت عليها من الليل رياشها بيضا وتتناثر السود ، ثم تغدو فتعرض على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكرها فذلك دأبها ما كانت في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وهو الهاوية. قال الأوزاعي : فبلغنا أنهم
(15/319)
ألفا ألف وستمائة ألف. و { غُدُوّاً } مصدر جعل ظرفا على السعة. { وَعَشِيّاً } عطف عليه وتم الكلام. ثم تبتدئ { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } على أن تنصب يوما بقوله : { أَدْخِلُوا } ويجوز أن يكون منصوبا بـ { يُعْرَضُونَ } على معنى { يُعْرَضُونَ } على النار في الدنيا { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } فلا يوقف عليه. وقرأ نافع وأهل المدينة وحمزة والكسائي : { أَدْخِلُوا } بقطع الألف وكسر الخاء من أدخل وهي اختيار أبي عبيد ؛ أي يأمر الملائكة أن يدخلوهم ، ودليله { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا }. الباقون { أَدْخِلُوا } بوصل الألف وضم الخاء من دخل أي يقال لهم : { أَدْخِلُوا } يا { آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وهو اختيار أبي حاتم. قال : في القراءة الأولى : { آلَ } مفعول أول و { أَشَدَّ } مفعول ثان بحذف الجر ، وفي القراءة الثانية منصوب ؛ لأنه نداء مضاف. وآل فرعون : من كان على دينه وعلى مذهبه ، وإذا كان من كان على دينه ومذهبه في أشد العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا منهم يحيى بن زكريا ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا" ذكره النحاس. وجعل الفراء في الآية تقديما وتأخيرا مجازه : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } . { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } فجعل العرض في الآخرة ؛ وهو خلاف ما ذهب إليه الجمهور من انتظام الكلام على سياقه على ما تقدم. والله أعلم.
الآية : [47] { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ }
الآية : [48] { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ }
الآية : [49] { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ }
الآية : [50] { قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ }
(15/320)
قوله تعالى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } أي يختصمون فيها { فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } عن الانقياد للأنبياء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } فيما دعوتمونا إليه من الشرك في الدنيا { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا } أي متحملون { نَصِيباً مِنَ النَّارِ } أي جزءا من العذاب. والتبع يكون واحدا ويكون جمعا في قول البصريين واحده تابع. وقال أهل الكوفة : هو جمع لا واحد له كالمصدر فلذلك لم يجمع ولو جمع لقيل أتباع. { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي في جهنم. قال الأخفش : { كُلٌّ } مرفوع بالابتداء. وأجاز الكسائي والفراء { إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } بالنصب على النعت والتأكيد للمضمر في { إِنَّا } وكذلك قرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر والكوفيون يسمون التأكيد نعتا. ومنع ذلك سيبويه ؛ قال : لأن { كُلاً } لا تنعت ولا ينعت بها. ولا يجوز البدل فيه لأن المخبر عن نفسه لا يبدل منه غيره ، وقال معناه المبرد قال : لا يجوز أن يبدل من المضمر هنا ؛ لأنه مخاطب ولا يبدل من المخاطَب ولا من المخاطِب ؛ لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما ؛ هذا نص كلامه. { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ؛ فكل منا كافر.
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ } من الأمم الكافرة. ومن العرب من يقول اللذون على أنه جمع مسلم معرب ، ومن قال : { الَّذِينَ } في الرفع بناه كما كان في الواحد مبنيا. وقال الأخفش : ضمت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } خزنة جمع خازن ويقال : خزان وخزن. { ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ } { يُخَفِّفْ } جواب مجزوم وإن كان بالفاء كان منصوبا ، إلا أن الأكثر في كلام العرب في جواب الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء وعلى هذا جاء القرآن بأفصح اللغات كما قال :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال محمد بن كعب القرظي : بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ؛ فقال الله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ } فسألوا يوما
(15/321)
واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ } الخبر بطوله. وفي الحديث عن أبي الدرداء خرجه الترمذي وغيره قال : يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا ، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء ، فيستغيثوا بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب ، فإذا دنا من وجوههم شواها ، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم ، فيستغيثون بالملائكة يقولون : { ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ } فيجيبوهم { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ } أي خسار وتبار.
الآية : [51] { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }
الآية : [52] { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }
الآية : [53] { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ }
الآية : [54] { هُدىً وَذِكْرَى لأُولِي الْأَلْبَابِ }
قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال : { رُسُلَنَا } والمراد موسى عليه السلام. { وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في موضع نصب عطف على الرسل ، والمراد المؤمن الذي وعظ. وقيل : هو عام في الرسل والمؤمنين ، ونصرهم بإعلاء الحجج وإفلاحها في قول أبي العالية. وقيل : بالانتقام من أعدائهم. قال السدي : ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا.
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } يعني يوم القيامة. قال زيد بن أسلم : { الأَشْهَادُ } أربعة : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. وقال مجاهد والسدي : { الأَشْهَادُ } الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب. وقال قتادة : الملائكة والأنبياء. ثم قيل :
(15/322)
{ الأَشْهَادُ } جمع شهيد مثل شريف وأشراف. وقال الزجاج : { الأَشْهَادُ } جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعا أدي كما سمع ، وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفراء : { وَيَوْمَ تقُومُ الْأَشْهَادُ } بالتاء على تأنيث الجماعة. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم" ثم تلا : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا }. وعنه عليه السلام أنه قال : "من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال". { وَيَوْمَ } بدل من يوم الأول. { لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } قرأ نافع والكوفيون { يَنْفَعُ } بالياء. الباقون بالتاء. { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } {اللعنة} البعد من رحمة الله و { سُوءُ الدَّارِ } جهنم.
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } هذا دخل في نصرة الرسل في الدنيا والآخرة أي آتيناه التوراة والنبوة. وسميت التوراة هدى بما فيها من الهدى والنور ؛ وفي التنزيل : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ } يعني التوراة جعلناها لهم ميراثا. { هُدىً } بدل من الكتاب ويجوز بمعنى هو هدى ؛ يعني ذلك الكتاب. { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي موعظة لأصحاب العقول.
الآية : [55] { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ }
الآية : [56] { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
(15/323)
الآية : [57] { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
الآية : [58] { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ }
الآية : [59] { إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى : { فَاصْبِرْ } أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين ، كما صبر من قبلك { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } بنصرك وإظهارك ، كما نصرت موسى وبني إسرائيل. وقال الكلبي : نسخ هذا بآية السيف. { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } قيل : لذنب أمتك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : لذنب نفسك على من يجوز الصغائر على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال : هذا تعبد للنبي عليه السلام بدعاء ؛ كما قال تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا } والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل : فاستغفر الله من ذنب صدر منك قبل النبوة. { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ } يعني صلاة الفجر وصلاة العصر ؛ قال الحسن وقتادة. وقيل : هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية. عن الحسن أيضا ذكره الماوردي. فيكون هذا مما نسخ والله أعلم. وقوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } بالشكر له والثناء عليه. وقيل : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي استدم التسبيح في الصلاة وخارجا منها لتشتغل بذلك عن استعجال النصر.
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } يخاصمون { فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ } أي حجة { أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } قال الزجاج : المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه. قدره على الحذف. وقال غيره : المعنى ما هم ببالغي الكبر على غير حذف ؛ لأن هؤلاء قوم رأوا أنهم أن اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم قل ارتفاعهم ، ونقصت أحوالهم ، وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا ، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب. والمراد المشركون. وقيل : اليهود ؛ فالآية مدنية على هذا كما تقدم أول السور.
(15/324)
والمعنى : إن تعظموا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الدجال سيخرج عن قريب فيرد الملك إلينا ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله فذلك كبر لا يبلغونه فنزلت الآية فيهم. قال أبو العالية وغيره. وقد تقدم في {آل عمران} أنه يخرج ويطأ البلاد كلها إلا مكة والمدينة. وقد ذكرنا خبره مستوفى في كتاب التذكرة. وهو يهودي واسمه صاف ويكنى أبا يوسف. وقيل : كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا حسن ؛ لأنه يعم. وقال مجاهد : معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها والمعنى واحد. وقيل : المراد بالكبر الأمر الكبير أي يطلبون النبوة أو أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه ، ولا يبلغون ذلك. أو يتمنون موتك قبل أن يتم دينك ولا يبلغونه.
قوله تعالى : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } قيل : من فتنة الدجال على قول من قال إن الآية نزلت في اليهود. وعلى القول الآخر من شر الكفار. قيل : من مثل ما ابتلوا به من الكفر والكبر. { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { هُوَ } يكون فاصلا ويكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن على ما تقدم.
قوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } مبتدأ وخبره. قال أبو العالية : أي أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام : هو احتجاج على منكري البعث ؛ أي هما أكبر من إعادة خلق الناس فلم اعتقدوا عجزي عنها ؟ . { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون ذلك.
قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي المؤمن والكافر والضال والمهتدي. { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي ولا يستوي العامل للصالحات { وَلا الْمُسِيءُ } الذي يعمل السيئات. { قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ } قراءة العامة بياء على الخبر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأجل ما قبله من الخبر وما بعده. وقرأ الكوفيون بالتاء على الخطاب.
(15/325)
قوله تعالى : { إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } هذه لام التأكيد دخلت في خبر إن وسبيلها أن تكون في أول الكلام ؛ لأنها توكيد الجملة إلا أنها تزحلق عن موضعها ؛ كذا قال سيبويه. تقول : إن عمرا لخارج ؛ وإنما أخرت عن موضعها لئلا يجمع بينها وبين إن ؛ لأنهما يؤديان عن معنى واحد ، وكذا لا يجمع بين إن وأن عند البصريين. وأجاز هشام إن أن زيدا منطلق حق ؛ فإن حذفت حقا لم يجز عند أحد من النحويين علمته ؛ قاله النحاس. { لا رَيْبَ فِيهَا } لا شك ولا مرية. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون بها وعندها يبين فرق ما بين الطائع والعاصي.
الآية : [60] { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
الآية : [61 ]{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ }
الآية : [62] { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
الآية : [63] { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون}
الآية : [64] { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
الآية : [65] { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } روى النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرين
(15/326)
وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل : هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع" ويقال الدعاء : هو ترك الذنوب. وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وكان يقال للنبي ادعني استجب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.
قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا ؛ رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ } وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس" ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول : عجيب لهذه الأمة قيل لها : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال : مثل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فها هنا شرط ، وقوله : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } ، فليس فيه شرط العمل ؛ ومثل قوله : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فها هنا شرط ، وقوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل : إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في {البقرة} بيانه. أي { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إن شئت ؛ كقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ }. وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم
(15/327)
في {البقرة} بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم { سَيَدْخُلُونَ } بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون { يَدْخُلُونَ } بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى { دَاخِرِينَ } صاغرين أذلاء وقد تقدم.
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } { جَعَلَ } هنا بمعنى خلق ؛ والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق ؛ فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد ، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين ؛ نحو قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } وقد مضى هذا المعنى في موضع. { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } فضله وإنعامه عليهم.
قوله تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك ؛ أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه فـ { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ } يصرف عن الحق { الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً } زاد في تأكيد التعريف والدليل ؛ أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } تقدم. { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والأشهب العقيلي { وَصَوَّرَكُمْ } بكسر الصاد ؛ قال الجوهري : والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة ، وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري قائلا :
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها ... وهن أحسن من صيرانها صورا
(15/328)
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر :
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا نفخ الصوار
والصيار لغة فيه. { وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقد مضى. { هُوَ الْحَيُّ } أي الباقي الذي لا يموت { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي مخلصين له الطاعة والعبادة. { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الفراء : هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في {البقرة} وغيرها. وقال ابن عباس : من قال : { لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } فليقل { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
الآية : [66] { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
الآية : [67] { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
الآية : [68] { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ } أي قل يا محمد : نهاني الله الذي هو الحي القيوم ولا إله غيره { أَنْ أَعْبُدَ } غيره. { لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي } أي دلائل توحيده { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أذل وأخضع { لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وكانوا دعوه إلى دين آبائه ، فأمر أن يقول هذا
(15/329)
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي أطفالا. { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل. وقد مضى في {الأنعام} بيانه. { ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً } بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل ؛ لأنه جمع فعل ، نحو : قلب وقلوب ورأس ورؤوس. وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة ، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ ؛ مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة. وقرئ { شُيُخاً } على التوحيد ؛ كقوله : { طِفْلاً } والمعنى كل واحد منكم ؛ واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس. وفي الصحاح : جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء ، والمرأة شيخة. قال عبيد :
كأنها شيخة رقوب
وقد شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك على أصله وشيخوخة ، وأصل الياء متحركة فسكنت ؛ لأنه ليس في الكلام فعلول. وشيخ تشييخا أي شاخ. وشيخته دعوته شيخا للتبجيل. وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ النحاس : وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين ؛ لأنها مؤنثة. والشيخ من جاوز أربعين سنة. { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } قال مجاهد : أي من قبل أن يكون شيخا ، أومن قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. { وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً } قال مجاهد : الموت للكل. واللام لام العاقبة. { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تعقلون ذلك فتعلموا أن لا إله غيره.
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة. { فَإِذَا قَضَى أَمْراً } أي أراد فعله { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نصب { فَيَكُونُ } ابن عامر على جواب الأمر. وقد مضى في {البقرة} القول فيه.
(15/330)