تفسير سورة غافر
الآية : [18] { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ }
الآية : [19] { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور }
الآية : [20] { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
الآية : [21] { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }
الآية : [22] { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ } أي يوم القيامة. سميت بذلك لأنها قريبة ؛ إذ كل ما هو آت قريب. وأزف فلان أي قرب يأزف أزفا ؛ قال النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
أي قرب. ونظير هذه الآية : { أَزِفَتِ الْآزِفَةُ } أي قربت الساعة. وكان بعضهم يتمثل ويقول :
أزف الرحيل وليس لي من زاد غير ... الذنوب لشقوتي ونكادي
{ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } على الحال وهو محمول على المعنى. قال الزجاج : المعنى إذ قلوب الناس { لَدَى الْحَنَاجِرِ } في حال كظمهم. وأجاز الفراء أن يكون التقدير { وَأَنْذِرْهُمْ } كاظمين. وأجاز رفع { كَاظِمِينَ } على أنه خبر للقلوب. وقال : المعنى إذ هم كاظمون. وقال الكسائي : يجوز رفع { كَاظِمِينَ } على الابتداء. وقد قيل : إن المراد بـ { يَوْمَ الْآزِفَةِ } يوم حضور المنية ؛ قاله قطرب. وكذا { الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } عند حضور المنية. والأول أظهر. وقال قتادة : وقعت في الحناجر المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها ، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة كما قال : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ } . وقيل : هذا إخبار عن نهاية الجزع ؛ كما قال : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } وأضيف اليوم إلى {ا الْآزِفَةُ } على تقدير يوم القيامة { الْآزِفَةُ } أو يوم المجادلة { الْآزِفَةُ }. وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى
(15/302)
نفسه مثل مسجد الجامع وصلاة الأولى. { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي من قريب ينفع { وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } فيشفع فيهم.
قوله تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } قال المؤرج : فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة وقال ابن عباس : هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وعنه : هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره ، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر ، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره ، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها. وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه. وقال قتادة : هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى. وقال الضحاك : هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى أو رأيت وما رأى. وقال السدي : إنها الرمز بالعين. وقال سفيان : هي النظرة بعد النظرة. وقال الفراء : { خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } النظرة الثانية { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } النظرة الأولى. وقال ابن عباس : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا. وقيل : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } تكنه وتضمره. ولما جيء بعبدالله بن أبي سرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد ما اطمأن أهل مكة وطلب له الأمان عثمان رضي الله عنه ، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال : "نعم" فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله : "ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه" فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله ، فقال : "إن النبي لا تكون له خائنة أعين" { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } أي يجازي من غض بصره عن المحارم ، ومن نظر إليها ، ومن عزم على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها. { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } يعني الأوثان { لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر عليه ولا تملك. وقراءة العامة بالياء على الخبر عن الظالمين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وهشام : { يَدْعُونَ } بالتاء. { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { هُوَ } زائدة فاصلة. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر والجملة خبر إن.
(15/303)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا } في موضع جزم عطف على { يَسِيرُوا } ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب ، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } اسم كان والخبر في { كَيْفَ } . و { وَاقٍ } في موضع خفض معطوف على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد ؛ لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالة عليها وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في غير موضع فأغنى عن الإعادة.
الآية : [23] { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ }
الآية : [24] { إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }
الآية : [25] { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ }
الآية : [26] { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }
الآية : [27] { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ }
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا } وهي التسع الآيات المذكورة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وقد مضى تعيينها. { وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي بحجة واضحة بينة ، وهو يذكر ومؤنث. وقيل : أراد بالسلطان التوراة. { إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ } خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم ؛ ففرعون الملك وهامان الوزير وقارون صاحب الأموال والكنوز فجمعه الله معهما ؛ لأن عمله في الكفر والتكذيب كأعمالهما. { فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } لما عجزوا عن معارضته حملوا المعجزات على السحر.
(15/304)
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا } وهي المعجزة الظاهرة { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول ؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع الإنسان من الإيمان ؛ ولئلا يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولادهم ، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب ، كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر ، فأغرقهم الله. { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } أي في خسران وهلاك ، وإن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا فكيده يذهب باطلا.
قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } { أَقْتُلْ } جزم ؛ لأنه جواب الأمر { وَلْيَدْعُ } جزم ؛ لأنه أمر و { ذَرُونِي } ليس بمجزوم وإن كان أمرا ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني. وقيل : هذا يدل على أنه قيل لفرعون : إنا نخاف أن يدعو عليك فيجاب ؛ فقال : { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى. { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } أي عبادتكم لي إلى عبادة ربه { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } إن لم يبدل دينكم فإنه يظهر في الأرض الفساد. أي يقع بين الناس بسببه الخلاف. وقراءة المدنيين وأبي عبدالرحمن السلمي وابن عامر وأبي عمرو : { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وقراءة الكوفيين { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ } بفتح الياء { الْفَسَادُ } بالرفع وكذلك هي في مصاحف الكوفيين : {أو} بألف وإليه يذهب أبو عبيد ؛ قال : لأن فيه زيادة حرف وفيه فصل ؛ ولأن {أو} تكون بمعنى الواو. النحاس : وهذا عند حذاق النحويين لا يجوز أن تكون بمعنى الواو ؛ لأن في ذلك بطلان المعاني ؛ ولوجاز أن تكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا ها هنا ؛ لأن معنى الواو { إِنِّي أَخَافُ } الأمرين جميعا ومعنى {أو} لأحد الأمرين أي { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } فإن أعوزه ذلك أظهر في الأرض الفساد.
قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } لما هدده فرعون بالقتل استعاذ موسى بالله { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي متعظم عن الإيمان بالله ، وصفته أنه { لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ }.
(15/305)
الآية : [28] { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } ذكر بعض المفسرين : أن اسم هذا الرجل حبيب. وقيل : شمعان بالشين المعجمة. قال السهيلي : وهو أصح ما قيل فيه. وفي تاريخ الطبري رحمه الله : اسمه خبرك. وقيل : حزقيل : ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء. الزمخشري : واسمه سمعان أو حبيب. وقيل : خربيل أو حزبيل. واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره : كان قبطيا. ويقال : إنه كان ابن عم فرعون ؛ قاله السدي. قال : وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام ؛ ولهذا قال : { مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى } الآية. وهذا قول مقاتل. وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال : { إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ }
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم" وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك. وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون ؛ فلهذا لم يتعرض له بسوء. وقيل : كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون ؛ عن السدي أيضا. ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير ، والتقدير : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. فمن جعل الرجل قبطيا
(15/306)
فـ { ـمِنْ } عنده متعلقة بمحذوف صفة الرجل ؛ التقدير ؛ وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون ؛ أي من أهله وأقاربه. ومن جعله إسرائيليا فـ { مِنْ } متعلقة بـ { يَكْتُمُ } في موضع المفعول الثاني لـ { يَكْتُمُ }. القشيري : ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد ؛ لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه. قال الله تعالى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
الثانية- قوله تعالى : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي لأن يقول ومن أجل { أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } فـ { أَنْ } في موضع نصب بنزع الخافض. { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } يعني الآيات التسع { مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته ، صدقه ، ولكن تلطفا في الاستكفاف واستنزالا عن الأذى. ولوكان و { إِنْ يَكُنْ } بالنون جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه ؛ ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس. { وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم. ومذهب أبي عبيدة أن معنى { بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } كل الذي يعدكم وأنشد قول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
فبعض بمعنى كل ؛ لأن البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد ، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي : أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام ؛ كما قال الشاعر :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد ... يكون مع المستعجل الزلل
وقيل أيضا : قال ذلك لأنه حذرهم أنواعا من العذاب كل نوع منها مهلك ؛ فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع. وقيل : وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا ؛ فالمعنى يصبكم أحد العذابين. وقيل : أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا
(15/307)
وهو بعض الوعيد ، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضا. وقيل : وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا ، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا. { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } على نفسه. وقيل : { مُسْرِفٌ } في عناده { كَذَّابٌ } على ربه إشارة إلى موسى ويكون هذا من قول المؤمن. وقيل { كَذَّابٌ } في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى.
الثالثة- قوله تعالى : { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } قال القاضي أبو بكر بن العربي : ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا باعتقاده ، وقد قال مالك : إن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته أنه يلزمه ، كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه. فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك ، لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه ؛ بما لبابه أن المكلف إذ نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله.
الرابعة- روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذا أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : { َتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } لفظ البخاري. خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله ، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا
(15/308)
ويقول بأعلى صوته : ويلكم : { َتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } والله إنه لرسول الله ؛ فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ. فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون ؛ إن ذلك رجل كتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل مال ودمه لله عز وجل.
قلت : قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ؛ وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه. في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها : ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان المشركون قعودا في المسجد ، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم ، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم ، فقالوا : ألست تقول كذا في آلهتنا قال : "بلى" فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له : أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر ، فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم { َتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر ، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه ، وهو يقول : تباركت يا ذا الجلال والإكرام ؛ إكرام إكرام.
الآية : [29] { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ }
الآية : [30] { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ }
(15/309)
الآية : [31] { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ }
الآية : [32] { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ }
الآية : [33] { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
قوله تعالى : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } هذا من قول مؤمن آل فرعون ، وفي قوله { يَا قَوْمِ } دليل على أنه قبطي ، ولذلك أضافهم إلى نفسه فقال : { يَا قَوْمِ } ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه { لَكُمُ الْمُلْكُ } فأشكروا الله على ذلك. { ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } أي غالبين وهو نصب على الحال أي في حال ظهوركم. والمراد بالأرض أرض مصر في قول السدي وغيره ، كقوله : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ }. أي في أرض مصر. { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } أي من عذاب الله تحذيرا لهم من نقمه إن كان موسى صادقا ، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور حجته فقال : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } . قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي. { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } في تكذيب موسى والإيمان بي.
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ } زادهم في الوعظ { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } يعني أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على الأنبياء المذكورين فيما بعد.
قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } زاد في الوعظ والتخويف وأفصح عن إيمانه ، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل ، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء ، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } . وقراءة العامة { التَّنَادِ } بتخفيف الدال وهو يوم القيامة ؛ قال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التناد
سمي بذلك لمناداة الناس بعضهم بعضا ؛ فينادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة : { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ } وينادي المنادى أيضا بالشقوة
(15/310)
والسعادة : ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وهذا عند وزن الأعمال. وتنادي الملائكة أصحاب الجنة : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وينادى حين يذبح الموت : يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت. وينادي كل قوم بإمامهم إلى غير ذلك من النداء. وقرأ الحسن وابن السميقع ويعقوب وابن كثير ومجاهد : { التَّنَادِ } بإثبات الياء في الوصل والوقف على الأصل. وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة { يَوْمَ التَّنَادِ } بتشديد الدال. قال بعض أهل العربية : هذا لحن ؛ لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هاربا ؛ كما قال الشاعر :
وبرك هجود قد أثارت مخافتي ... نواديها أسعى بعضب مجرد
قال : فلا معنى لهذا في القيامة. قال أبو جعفر النحاس : وهذا غلط والقراءة بها حسنة على معنى يوم التنافر. قال الضحاك : ذلك إذا سمعوا زفير جهنم ندوا هربا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ؛ فذلك قوله : { يَوْمَ التَّنَادِ } . وقوله : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } الآية. وقوله : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } ذكره ابن المبارك بمعناه. قال : وأخبرنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال : حدثنا عبدالجبار بن عبيدالله بن سلمان في قوله تعالى : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } ثم تستجيب لهم أعينهم بالدمع فيبكون حتى ينفد الدمع ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالدم فيبكون حتى ينفد الدم ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح. قال : يرسل عليهم من الله أمر فيولون مدبرين ، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح ، فيبكون حتى ينفد القيح فتغور أعينهم كالخرق في الطين. وقيل : إن هذا يكون عند نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور نفخة الفزع. ذكره علي بن معبد والطبري وغيرهما من حديث أبي هريرة ، وفيه فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين
(15/311)
هاربة فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الحديث بكماله. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هناك. وروي عن علي بن نصر عن أبي عمرو إسكان الدال من { التَّنَادِ } في الوصل خاصة. وروى أبو معمر عن عبدالوارث زيادة الياء في الوصل خاصة وهو مذهب ورش. والمشهور عن أبي عمرو حذفها في الحالين. وكذلك قرأ سائر السبعة سوى ورش على ما ذكرنا عنه وسوى ابن كثير على ما تقدم. وقيل : سمي يوم القيامة يوم التناد ؛ لأن الكافر ينادي فيه بالويل والثبور والحسرة. قاله ابن جريج. وقيل : فيه إضمار أي إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد ؛ فالله أعلم. { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } على البدل من { يَوْمَ التَّنَادِ } { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي من خلق الله في قلبه الضلال فلا هادي له. وفي قائله قولان : أحدهما موسى. الثاني مؤمن آل فرعون وهو الأظهر. والله أعلم.
الآية : [34] { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ }
الآية : [35] { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }
قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } قيل : إن هذا من قول موسى. وقيل : هو من تمام وعظ مؤمن آل فرعون ؛ ذكرهم قديم عتوهم على الأنبياء ؛ وأراد يوسف بن يعقوب جاءهم بالبينات { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } قال ابن جريج : هو يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى رسولا إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات وهي الرؤيا. وقال ابن عباس : هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبيا
(15/312)
عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك : أن الله تعالى بعث إليهم رسولا من الجن يقال له يوسف. وقال وهب بن منبه : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف عُمّر. وغيره يقول : هو آخر. النحاس : وليس في الآية ما يدل على أنه هو ؛ لأنه إذا أتى بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ } أي أسلافكم كانوا في شك. { حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً } أي من يدعي الرسالة { كَذَلِكَ } أي مثل ذلك الضلال { يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } مشرك { مُرْتَابٌ } شاك في وحدانية الله تعالى.
قوله تعالى : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } أي في حججه الظاهرة { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ } أي بغير حجة وبرهان و { الَّذِينَ } في موضع نصب على البدل من { مِنْ } وقال الزجاج : أي كذلك يضل الله الذين يجادلون في آيات الله فـ { الَّذِينَ } نصب. قال : ويجوز أن يكون رفعا على معنى هم الذين أو على الابتداء والخبر { كَبُرَ مَقْتاً } . ثم قيل : هذا من كلام مؤمن آل فرعون. وقيل : ابتداء خطاب من الله تعالى. { مَقْتاً } على البيان أي { كَبُرَ } جدالهم { مَقْتاً } ؛ كقوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } ومقت الله تعالى ذمه لهم ولعنه إياهم وإحلال العذاب بهم. { كَذَلِكَ } أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك { يَطْبَعُ اللَّهُ } أي يختم { كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق. وقراءة العامة { كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ٍ } بإضافة قلب إلى المتكبر واختاره أبو حاتم وأبو عبيد. وفي الكلام حذف والمعنى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ } على كل { مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } فحذف { كُلِّ } الثانية لتقدم ما يدل عليها. وإذا لم يقدر حذف { كُلِّ } لم يستقم المعنى ؛ لأنه يصير معناه أنه يطبع على جميع قلبه وليس المعنى عليه. وإنما المعنى أنه يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين قلبا قلبا. ومما يدل على حذف { كُلِّ } قول أبي دواد :
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد باليل نارا
(15/313)
يريد وكل نار. وفي قراءة ابن مسعود { عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } فهذه قراءة على التفسير والإضافة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام { قَلْبِ } منون على أن { مُتَكَبِّرٍ } نعت للقلب فكني بالقلب عن الجملة ؛ لأن القلب هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" ويجوز أن يكون على حذف المضاف ؛ أي على كل ذي قلب متكبر ؛ تجعل الصفة لصاحب القلب.
الآية : [36] { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ }
الآية : [37] { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ }
قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً } لما قال مؤمن آل فرعون ما قال ، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم ، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد ، فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم ، وإن لم يصح ثبتهم على دينهم ؛ فأمر وزيره هامان ببناء الصرح. وقد مضى في "القصص" ذكره. { لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } بدل من الأول. وأسباب السماء أبوابها في قول قتادة والزهري والسدي والأخفش ؛ وأنشد :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال أبو صالح : أسباب السموات طرقها. وقيل : الأمور التي تستمسك بها السموات. وكرر أسباب تفخيما ؛ لأن الشيء إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيما لشأنه. والله أعلم. { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } فأنظر إليه نظر مشرف عليه. توهم أنه جسم تحويه الأماكن. وكان فرعون
(15/314)
يدعي الألوهية ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف. وقراءة العامة { فَأَطَّلِعَ } بالرفع نسقا على قوله : { أَبْلُغُ } وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى وحفص { فَأَطَّلِعَ } بالنصب ؛ قال أبو عبيدة : على جواب {لعل} بالفاء. النحاس : ومعنى النصب خلاف معنى الرفع ؛ لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت. ومعنى الرفع { لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ } ثم لعلي أطلع بعد ذلك ؛ إلا أن ثم أشد تراخيا من الفاء. { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } أي وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه إلها دوني ، وإنما أفعل ما أفعل لإزاحة العلة. وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله. وقيل : إن الظن بمعنى اليقين أي وأنا أتيقن أنه كاذب وإنما أقول ما أقول لإزالة الشبهة عمن لا أتيقن ما أتيقنه.
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } أي كما قال هذه المقالة وارتاب زين له الشيطان أو زين الله سوء عمله أي الشرك والتكذيب. { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } قراءة الكوفيين { وَصُدَّ } على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ ويجوز على هذه القراءة { وَصُدَّ } بكسر الصاد نقلت كسرة الدال عل الصاد ؛ وهي قراءة ليحيى بن وثاب وعلقمة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعبدالرحمن بن بكرة { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } بالرفع والتنوين. الباقون { وَصُدَّ } بفتح الصاد والدال. أي صد فرعون الناس عن السبيل. { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي في خسران وضلال ، ومنه : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وقوله : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وفي موضع { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } فهد الله صرحه وغرقه هو وقومه على ما تقدم.
(15/315)