فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة غافر الإثنين 18 يونيو - 17:35 | |
| تفسير سورة غافر وهي سورة المؤمن ، وتسمي سورة الطول، وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وعن الحسن إلا قوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية. وقيل اثنتان وثمانون آية. وفي مسند الدارمي قال : حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال : كن الحواميم يسمين العرائس. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الحواميم ديباج القرآن" وروي عن ابن مسعود مثله. وقال الجوهري وأبو عبيدة : وآل حم سور في القرآن. قال ابن مسعود : آل حم ديباج القرآن. قال الفراء : إنما هو كقولك آل فلان وآل فلان كأنه نسب السورة كلها إلى حم ؛ قال الكميت : وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقي ومعزب قال أبو عبيدة : هكذا رواها الأموي بالزاي ، وكان أبو عمرو يرويها بالراء. فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب. وقال أبو عبيدة : الحواميم سور في القرآن على غير قياس ؛ وأنشد قائلا : وبالحواميم التي قد سبغت قال : والأولى أن تجمع بذوات حم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لكل شيء ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب" ذكرهما الثعلبي. وقال أبو عبيد : وحدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال : رأى رجل سبع جوار حسان مزينات في النوم فقال لمن أنتن بارك الله فيكن فقلن نحن لمن قرأنا نحن الحواميم. (15/288)
بسم الله الرحمن الرحيم الآية : [1] {حم} الآية : [2] { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الآية : [3] { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } الآية : [4] { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } قوله تعالى : {حم} اختلف في معناه ؛ فقال عكرمة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " {حم} اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك" قال ابن عباس : {حم} اسم الله الأعظم. وعنه : {الر} و{حم} و {ن} حروف الرحمن مقطعة. وعنه أيضا : اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وقال قتادة : إنه اسم من أسماء القرآن. مجاهد : فواتح السور. وقال عطاء الخراساني : الحاء افتتاح اسمه حميد وحنان وحليم وحكيم ، والميم افتتاح اسمه ملك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور ؛ يدل عليه ما روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما {حم} فإنا لا نعرفها في لساننا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "بدء أسماء وفواتح سور" وقال الضحاك والكسائي : معناه قضي ما هو كائن. كأنه أراد الإشارة إلى تهجي {حم} ؛ لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم ؛ أي قضي ووقع. وقال كعب بن مالك : فلما تلاقيناهم ودارت بنا الرحى ... وليس لأمر حمه الله مدفع وعنه أيضا : إن المعنى حم أمر الله أي قرب ؛ كما قال الشاعر : قد حم يومي فسر قوم ... قوم بهم غفلة ونوم ومنه سميت الحمى ؛ لأنها تقرب من المنية. والمعنى المراد قرب نصره لأوليائه ، وانتقامه من أعدائه كيوم بدر. وقيل : حروف هجاء ؛ قال الجرمي : ولهذا تقرأ ساكنة الحروف (15/289)
فخرجت مخرج التهجي وإذا سميت سورة بشيء من هذه الحروف أعربت ؛ فتقول : قرأت {حم} فتنصب ؛ ومنه : يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا ... تلا حاميم قبل التقدم وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : {حم} بفتح الميم على معنى اقرأ حم أو لالتقاء الساكنين. ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها. والإمالة والكسر للالتقاء الساكنين ، أو على وجه القسم. وقرأ أبو جعفر بقطع الحاء من الميم. الباقون بالوصل. وكذلك في {حم عسق} . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بالإمالة في الحاء. وروي عن أبي عمرو بين اللفظين وهي قراءة نافع وأبي جعفر وشيبة. الباقون بالفتح مشبعا. قوله تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } ابتداء والخبر { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } . ويجوز أن يكون { تَنْزِيلُ } خبرا لمبتدأ محذوف ؛ أي هذا { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ }. ويجوز أن يكون { حم } مبتدأ و { تَنْزِيلُ } خبره والمعنى : أن القرآن أنزله الله وليس منقولا ولا مما يجوز أن يكذب به. قوله تعالى : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } قال الفراء : جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال الزجاج : هي خفض على البدل. النحاس : وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين ، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل ، ويجوز النصب على الحال ، فأما { شَدِيدِ الْعِقَابِ } فهو نكره ويكون خفضه على البدل. قال ابن عباس : { غَافِرِ الذَّنْبِ } لمن قال : { لا إِلَهَ إِلاَّ الله} { وَقَابِلِ التَّوْبِ } ممن قال : { لا إِلَهَ إِلاّ الله} { شَدِيدِ الْعِقَابِ} لمن لم يقل : { لا إِلَهَ إِلاَّ الله} وقال ثابت البناني : كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب ، قال : فاستفتحت {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فمر علي رجل على دابة فلما قلت { غَافِرِ الذَّنْبِ } قال : قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، فلما قلت : { قَابِلِ التَّوْبِ } قال : (15/290)
قل يا قابل التوب تقبل توبتي ، فلما قلت : { شَدِيدِ الْعِقَابِ } قال : قل يا شديد العقاب اعف عني ، فلما قلت : { ذِي الطَّوْلِ } قال : قل يا ذا الطول طل علي بخير ؛ فقمت إليه فأخذ ببصري ، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا. وقال أهل الإشارة : { غَافِرِ الذَّنْبِ } فضلا { وَقَابِلِ التَّوْبِ } وعدا { شَدِيدِ الْعِقَابِ } عدلا { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فردا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ؛ فقيل له : تتابع في هذا الشراب ؛ فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. و {التوب} يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا ، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دومة ودوم وعزمة وعزم ؛ ومنه قوله : فيخبو ساعة ويهب ساعا ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة. قال أبو العباس : والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا ؛ أي يقبل هذا الفعل ، كما تقول قالا قولا ، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. { ذِي الطَّوْلِ } على البدل وعلى النعت ؛ لأنه معرفة. وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه : اللهم طل علينا أي انعم وتفضل. قال ابن عباس : { ذِي الطَّوْلِ } ذي النعم. وقال مجاهد : ذي الغنى والسعة ؛ ومنه قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } أي غنى وسعة. وعن ابن عباس أيضا : { ذِي الطَّوْلِ } ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. وقال عكرمة : (15/291)
{ ذِي الطَّوْلِ } ذي المن. قال الجوهري : والطول بالفتح المن ؛ يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب : { ذِي الطَّوْلِ } ذي التفضل ؛ قال الماوردي : والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب. والتفضل إحسان غير مستحق. والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره. وقيل : لأنه طالت مدة إنعامه. { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي المرجع. قوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر ، والمراد الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق ، وإطفاء نور الله تعالى. وقد دل على ذلك في قوله تعالى : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } . فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها ، وحل مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ، ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} عند قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } مستوفى. { فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } { فَلا يَغْرُرْكَ } وقرئ : { فَلا يَغْرُرْكَ } { تَقَلُّبُهُمْ } أي تصرفهم { فِي الْبِلادِ } فإني إن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم. قال ابن عباس : يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن. وقيل : { لا يَغْرُرْكَ } ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا. وقال الزجاج : { لا يَغْرُرْكَ } سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك. وقال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن : قوله : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } ، وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . الآية : [5] { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } (15/292)
الآية : [6] { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } الآية : [7] { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } الآية : [8] { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الآية : [9] { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل. { وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم. { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي ليحبسوه ويعذبوه. وقال قتادة والسدي : ليقتلوه. والأخذ يرد بمعنى الإهلاك ؛ كقوله : { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } والعرب تسمي الأسير الأخيذ ؛ لأنه مأسور للقتل ؛ وأنشد قطرب قول الشاعر : فإما تأخذوني تقتلوني ... فكم من آخذ يهوى خلودي وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان : أحدهما : عند دعائه لهم. الثاني عند نزول العذاب بهم. { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة ، والباطل داحض ؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر. قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. { فَأَخَذْتُهُمْ } أي بالعذاب. { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي عاقبة الأمم المكذبة. أي أليس وجدوه حقا. قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ } أي وجبت ولزمت ؛ مأخوذ من الحق لأنه اللازم. { كَلِمَتُ رَبِّكَ } هذه قراءة العامة على التوحيد. وقرأ نافع وابن عامر : { كَلِمَاتُ } جمعا. (15/293)
{ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ } قال الأخفش : أي لأنهم وبأنهم. قال الزجاج : ويجوز إنهم بكسر الهمزة .{ أَصْحَابُ النَّارِ } أي المعذبون بها وتم الكلام. قوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ويروى : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشراف الملائكة وأفضلهم. ففي الحديث : "أن الله تبارك وتعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة". ويقال : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوامه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم ، ورافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف ، وقد وضعوا الإيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس : { الْعَرْشَ } بضم العين ؛ ذكر جميعه الزمخشري رحمه الله. وقيل : اتصل هذا بذكر الكفار ؛ لأن المعنى والله أعلم – { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } ينزهون الله عز وجل عما يقوله الكفار { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي يسألون لهم المغفرة من الله تعالى وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير ، وأنه جسم مجسم خلقه الله عز وجل ، وأمر ملائكة بحمله ، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به ، كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. وروى ابن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام" ذكره البيهقي وقد مضى في {البقرة} في آية الكرسي عظم العرش وأنه أعظم المخلوقات. وروى ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن كعب الأحبار أنه قال : لما خلق الله تعالى العرش قال : لن يخلق الله خلقا أعظم مني ؛ فاهتز فطوقه الله بحية ، للحية (15/294)
سبعون ألف جناح ، في الجناح سبعون ألف ريشة ، في كل ريشة سبعون ألف وجه ، في كل وجه سبعون ألف فم ، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر ، وعدد ورق الشجر ، وعدد الحصى والثرى ، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين ، فالتوت الحية بالعرش ، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به. وقال مجاهد : بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة ، وحجاب نور وحجاب ظلمة. { رَبَّنَا } أي يقولون { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، فلما نقل الفعل عن الرحمة والعلم نصب على التفسير. { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } أي من الشرك والمعاصي { وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي دين الإسلام. { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي اصرفه عنهم حتى لا يصل إليهم. قال إبراهيم النخعي : كان أصحاب عبدالله يقولون الملائكة خير من ابن الكواء ؛ هم يستغفرون لمن في الأرض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر ، قال إبراهيم : وكانوا يقولون لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة. وقال مطرف بن عبدالله : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان ، وتلا هذه الآية. وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية : افهموها فما في العالم جنة أرجى منها ؛ إن ملكا واحدا لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم ، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين. وقال خلف بن هشام البزار القارئ : كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } بكى ثم قال : يا خلف ما أكرم المؤمن على الله نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له. قوله تعالى : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ } يروى أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : ما جنات عدن. قال : قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. { الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } { الَّتِي } في محل نصب نعتا للجنات. { وَمَنْ صَلَحَ } { مِنْ } في محل نصب عطفا على الهاء والميم في قوله : { وَأَدْخِلْهُمْ }. { وَمَنْ صَلَحَ } بالإيمان (15/295)
{ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } وقد مضى في {الرعد} نظير هذه الآية. قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنة ، فيقول : يا رب أين أبي وجدي وأمي ؟ وأين ولدي وولد ولدي ؟ وأين زوجاتي ؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك ؛ فيقول : يا رب كنت أعمل لي ولهم ؛ فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } إلى قوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } . ويقرب من هذه الآية قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قوله تعالى : { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } قال قتادة : أي وقهم ما يسوءهم ، وقيل : التقدير وقهم عذاب السيئات وهو أمر من وقاه الله يقيه وقاية بالكسر ؛ أي حفظه. { وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } أي بدخول الجنة { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي النجاة الكبيرة. الآية : [10] { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } الآية : [11] { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } الآية : [12] { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } قال الأخفش : { لَمَقْتُ } هذه لام الابتداء وقعت بعد { يُنَادَوْنَ } لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره : المعنى يقال لهم : { لَمَقْتُ اللَّهِ } إياكم في الدنيا { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } { أَكْبَرُ } من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة ؛ لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة ، فأذعنوا عند ذلك ، وخضعوا وطلبوا الخروج من النار. وقال الكلبي : يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفس ؛ فتقول الملائكة لهم وهم في النار : لمقت الله (15/296)
إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنوا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن : يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون { لَمَقْتُ اللَّهِ } إياكم في الدنيا {إذ تدعون إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } { أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } اليوم. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة : المعنى { لَمَقْتُ اللَّهِ } لكم { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } { أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } إذ عاينتم النار. فإن قيل : كيف يصح أن يمقتوا أنفسهم ؟ ففيه وجهان : أحدهما : أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت. الثاني : أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى ، وعلموا أن نفوسهم هي التي أبقتهم في المعاصي مقتوها. وقال محمد بن كعب القرظي : إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك : { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } على ما يأتي. قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون ، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا ، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا ، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي من ملجأ ؛ فقال إبليس عند ذلك : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } إلى قوله : { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } يقول : بمغن عنكم شيئا { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم. قال : فنودوا { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } قال فرد عليهم : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } ذكره ابن المبارك. قوله تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } اختلف أهل التأويل في معنى قولهم : { َأمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا ، ثم أحياهم للبعث والقيامة ، فهاتان حياتان موتتان ، وهو قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة ، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما صار إلى هذا ؛ لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على (15/297)
النطفة. واستدل العلماء من هذا في إثبات سؤال القبر ، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة ؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد ، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء. وقال ابن زيد في قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } الآية قال : خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. وقد مضى هذا في {البقرة}. { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم. { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك ؛ نظيره : { هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } وقوله : { فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } وقوله : { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ } الآية. قوله تعالى : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } { ذَلِكُمْ } في موضع رفع أي الأمر { ذَلِكُمْ } أو { ذَلِكُمْ } العذاب الذي أنتم فيه بكفركم. وفي الكلام متروك تقديره فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد. وذلك لأنكم { إِذَا دُعِيَ اللَّهُ } أي وحد الله { وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة ، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله. قال الثعلبي : وسمعت بعض العلماء يقول : { وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ } بعد الرد إلى الدنيا لوكان به { تُؤْمِنُوا } تصدقوا المشرك ؛ نظيره : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ }. { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } عن أن تكون له صاحبة أو ولد. الآية : [13] { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } الآية : [14] { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } الآية : [15] { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } الآية : [16] { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } الآية : [17] { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (15/298)
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي دلائل توحيده وقدرته { وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً } جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق ؛ لأن بالآيات قوام الأديان ، وبالرزق قوام الأبدان. وهذه الآيات هي السموات والأرضون وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبخار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا. { وَمَا يَتَذَكَّرُ } أي ما يتعظ بهذه الآيات فيوحد الله { إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } أي يرجع إلى طاعة الله. { فَادْعُوا اللَّهَ } أي اعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي العبادة. وقيل : الطاعة. { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } عبادة الله فلا تعبدوا أنتم غيره. قوله تعالى : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } { ذُو الْعَرْشِ } على إضمار مبتدأ. قال الأخفش : ويجوز نصبه على المدح. ومعنى { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي رفيع الصفات. وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بن جبير : رفيع السموات السبع. وقال يحيى بن سلام : هو رفعة درجة أوليائه في الجنة فـ { رَفِيعُ } على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل. وهو على القول الأول من صفات الذات ، ومعناه الذي لا أرفع قدرا منه ، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء ، وهي أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره قال الحليمي. وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى والحمد لله. { ذُو الْعَرْشِ } أي خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه. وقيل : هو من قولهم : ثل عرش فلان أي زال ملكه وعزه ، فهو سبحانه { ذُو الْعَرْشِ } بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه وقد بيناه في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. { يُلْقِي الرُّوحَ } أي الوحي والنبوة { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وسمي ذلك روحا لأن الناس يحيون به ؛ أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقال ابن زيد : الروح القرآن ؛ قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } وقيل : الروح جبريل ؛ قال الله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ } وقال : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } قُلْ {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . { مِنْ أَمْرِهِ } أي من قوله. وقيل : من قضائه. وقيل : { مِنْ } بمعنى الباء أي بأمره. { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء يشاء هو أن يكونوا أنبياء وليس لأحد فيهم مشيئة. (15/299)
{ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } أي إنما يبعث الرسول لإنذار يوم البعث. فقوله : { لِيُنْذِرَ } يرجع إلى الرسول. وقيل : أي لينذر الله ببعثه الرسل إلى الخلائق { يَوْمَ التَّلاقِ }. وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع { لِيُنْذِرَ } بالتاء خطابا للنبي عليه السلام. { يَوْمَ التَّلاقِ } قال ابن عباس وقتاده : يوم تلتقي أهل السماء وأهل الأرض. وقال قتادة أيضا وأبو العالية ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق. وقيل : العابدون والمعبودون. وقيل : الظالم والمظلوم. وقيل : يلقى كل إنسان جزاء عمله. وقيل : يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد ؛ روي معناه عن ابن عباس. وكله صحيح المعنى. قوله تعالى : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } يكون بدلا من يوم الأول. وقيل : { هُمْ } في موضع رفع بالابتداء و { بَارِزُونَ } خبره والجملة في موضع خفض بالإضافة ؛ فلذلك حذف التنوين من { يَوْمَ } وإنما يكون هذا عند سيبويه إذا كان الظرف بمعنى إذ ؛ تقول لقيتك يوم زيد أمير. فإن كان بمعنى إذا لم يجز نحو أنا ألقاك يوم زيد أمير. ومعنى : { بَارِزُونَ } خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ؛ لأن الأرض يومئذ قاع صفصف لا عوج فيها ولا أمتا على ما تقدم في {طه} بيانه. { لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } قيل : إن هذا هو العامل في {يوم يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي لا يخفى عليه شيء منهم ومن أعمالهم { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ }. {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} وذلك عند فناء الخلق. وقال الحسن : هو السائل تعالى وهو المجيب ؛ لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه سبحانه فيقول : {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. النحاس : وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال : "يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جل وعز عليها ، فيؤمر مناد ينادي { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فيقول المؤمنون هذا الجواب" سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد ؛ لأنه لا فائدة فيه ، والقول صحيح عن ابن مسعود وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل. (15/300)
قلت : والقول الأول ظاهر جدا ؛ لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوي المدعين وانتساب المنتسبين ؛ إذ قد ذهب كل ملك وملكه ومتكبر وملكه وانقطعت نسبهم ودعاويهم ، ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطي السماء : "أنا الملك أين ملوك الأرض" كما تقدم في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر ، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وعنه قوله سبحانه : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر. قال محمد بن كعب قوله سبحانه : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } يكون بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى غير نفسه مالكا ولا مملوكا فيقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } فلا يجيبه أحد ؛ لأن الخلق أموات فيجيب نفسه فيقول : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } لأنه بقي وحده وقهر خلقه. وقيل : إنه ينادي مناد فيقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيبه أهل الجنة : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فالله أعلم. ذكره الزمخشري. قوله تعالى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي يقال لهم إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } من خير أوشر. { لا ظُلْمَ الْيَوْمَ } أي لا ينقص أحد شيئا مما عمله. { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي لا يحتاج إلى تفكر وعقد يد كما يفعله الحساب ؛ لأنه العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره ؛ وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة. وقد مضى هذا المعنى في {البقرة}. وفي الخبر : ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. الآية : [18] { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } (15/301) | |
|