فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص الأربعاء 13 يونيو - 20:20 | |
|
المجلد الخامس عشر
تفسير سورة ص ... بسم الله الرحمن الرحيم ________________________________________ الآية : [26] { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } فيه خمس مسائل : الأولى- قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في {البقرة} القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله. الثانية- قوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله ، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا ؛ فاحكم بين الناس بالعدل { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله. { فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي عن طريق الجنة. { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي يحيدون عنها ويتركونها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في النار { بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي بما تركوا من سلوك طريق الله ؛ فقوله : { نَسُوا } أي تركوا الإيمان به ، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل : هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة. وقيل : بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته. الثالثة- الأصل في الأقضية قوله تعالى : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وقوله تعالى : { ِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } الآية. وقد تقدم الكلام فيه. الرابعة- قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } قال : إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلح على صاحبه ، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة ، أوغيرهما. وقال ابن عباس : إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام ، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه (15/189) ________________________________________ أن يجعل بينه وبينه علما ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك ؛ وإذا هو قصر عرف ذلك ، فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا ؛ فإذا أنت قمت من مجلس القضاء ، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه ، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق ، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا ، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء ، أقبل إليه رجلان يريدانه : فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه ، وكان أحدهما له صديقا وخدنا ، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له ، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف ، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول : يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي. فقيل له : أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك ، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به ، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره.وعن ليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما ، ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما ، فقيل له في ذلك ، فقال : تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك ، ثم ، عادا فوجدت بعض ذلك له ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي : كان بين عمر وأُبيّ خصومة ، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت ، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته ، فقال عمر : هذا أول جورك ؛ أجلسني وإياه مجلسا واحدا ؛ فجلسا بين يديه. الخامسة- هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه ؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر ؛ قال : لو رأيت رجلا على حد من حدود (15/190) ________________________________________ الله ، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له : احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد ؛ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع ، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : "من يشهد لي" فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في {البقرة}. الآية : [27] { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } الآية : [28] { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } الآية : [29] { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي هزلا ولعبا. أي ما خلقناهما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا. { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } ثم وبخهم فقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } والميم صلة تقديره : أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات { كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ } فكان في هذا رد على المرجئة ؛ لأنهم يقولون : يجوز أن يكون المفسد كالصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا : { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار ؛ قاله ابن عباس. وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين وهو أحسن ، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد. (15/191) ________________________________________ قوله تعالى : { كِتَابٌ } أي هذا كتاب { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } يا محمد { لِيَدَّبَّرُوا } أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال. وفي هذا دليل على ، وجوب معرفة معاني القرآن ، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار. وقال الحسن : تدبر آيات الله اتباعها. وقراءة العامة { لِيَدَّبَّرُوا }. وقرأ أبو حنيفة وشيبة : { لِيَدَّبَّرُوا } بتاء وتخفيف الدال ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا { وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول واحدها لب ، وقد جمع على ألب ، كما جمع بؤس على أبؤس ، ونعم على أنعم ؛ قال أبو طالب : قلبي إليه مشرف الألب وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر ؛ قال الكميت : إليكم ذوي آل النبي تطلعت نوازع من قلبي ظماء وألبب الآية : [30] { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } الآية : [31] { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } الآية : [32] { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } الآية : [33] { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } لما ذكر داود ذكر سليمان و { أَوَّابٌ } معناه مطيع. { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر ؛ كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها ؛ يقال : قوم أجواد وخيل جياد ، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد ، وقوم جود مثال (15/192) ________________________________________ قذال وقذل ، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة ، وأجواد وأجاود وجوداء ، وكذك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور ، قال الشاعر : صناع بإشفاها حصان بشكرها ... جواد بقوت البطن والعرق زاخر وتقول : سرنا عقبة جوادا ، وعقبتين جوادين ، وعقبا جيادا. وجاد الفرس أي صار رائعا يجود جودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى ، من خيل جياد وأجياد وأجاويد. وقيل : إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق ؛ لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها. وفي الصافنات أيضا وجهان : أحدهما : أن صفونها قيامها. قال القتبي والفراء : الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أوغيرها. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار" أي يديمون له القيام ؛ حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة : لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن وهذا قول قتادة. الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر : ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا وقال عمرو بن كلثوم : تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا وهذا قول مجاهد. قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال الحسن : بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. وقاله الضحاك. وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. ابن زيد : أخرج (15/193) ________________________________________ الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر ، وكانت لها أجنحة. وكذلك قال علي رضي الله عنه : كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. وقيل : كانت مائة فرس. وفي الخبر عن إبراهيم التيمي : أنها كانت عشرين ألفا ، فالله أعلم. فقال : { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } يعني بالخير الخيل ، والعرب تسميها كذلك ، وتعاقب بين الراء واللام ؛ فتقول : انهملت العين وانهمرت ، وختلت وخترت إذا خدعت. قال الفراء : الخير في كلام العرب والخيل واحد. النحاس : في الحديث : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" فكأنها سميت خيرا لهذا. وفي الحديث : لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : "أنت زيد الخير" وهو زيد بن مهلهل الشاعر. وقيل : إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع. وفي الخبر : إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، وقيل له : اختر منها واحدا فاختار الفرس ؛ فقيل له : اخترت عزك ؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسمي خيلا ؛ لأنها موسومة بالعز. وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطا وتناولا. وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي فصارت له نحلة من الله ؛ فسمى عربيا. و { حُبَّ } مفعول في قول الفراء. والمعنى إني آثرت حب الخير. وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول ؛ أي أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي. وقيل : إن معنى { أَحْبَبْتُ } قعدت وتأخرت من قولهم : أحب البعير إذا برك وتأخر. وأحب فلان أي طأطأ رأسه. قال أبو زيد : يقال : بعير محب ، وقد أحب إحبابا وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. وقال ثعلب : يقال أيضا للبعير الحسير محب ؛ فالمعنى قعدت عن ذكر ربي. و { حُبَّ } على هذا مفعول له. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أحببت بمعنى لزمت ؛ من قوله : مثل بعير السوء إذ أحبا (15/194) ________________________________________ قوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني الشمس كناية عن غير مذكور ؛ مثل قوله تعالى : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي على ظهر الأرض ؛ وتقول العرب : هاجت باردة أي هاجت الريح باردة. وقال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } أي بلغت النفس الحلقوم. وقال تعالى : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } ولم يتقدم للنار ذكر. وقال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر ، وقد جرى ها هنا الدليل وهو قوله : { بِالْعَشِيِّ }. والعشي ما بعد الزوال ، والتواري الاستتار عن الأبصار ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ؛ قاله قتادة وكعب. وقيل : هو جبل قاف. وقيل : جبل دون قاف. والحجاب الليل سمي حجابا لأنه يستر ما فيه. وقيل : { حَتَّى تَوَارَتْ } أي الخيل في المسابقة. وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل ، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة ؛ لأن الشمس لم يجر لها ذكر. وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات فلما فرغ من صلاته قال : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً } أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان : أحدهما : أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها ، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله. وقال قائل هذا القول : كيف يقتلها ؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له. وقيل : المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها. قال الحسن والكلبي ومقاتل : صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، وكانت ألف فرس ؛ فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم ؛ فقال : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } فردت فعقرها بالسيف ؛ قربة لله وبقي منها مائة ، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل. قال القشيري : وقيل : ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر ، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها. وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا ، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا ، فتذكر سليمان تلك (15/195) ________________________________________ الصلاة الفائتة ، وقال على سبيل التلهف : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي عن الصلاة ، وأمر برد الأفراس إليه ، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها ، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس ؛ إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة ، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة. ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار ، ثم ذبحها في الحال ، ليتصدق بلحمها ؛ أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله ، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله ، فأثنى الله عليه بهذا ، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح ، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا. وقد قيل : إن الهاء في قوله : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } للشمس لا للخيل. قال ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية فقال : ما بلغك فيها ؟ فقلت سمعت كعبا يقول : إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة ، قال : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي آثرت { حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } الآية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الأفراس وكانت أربع عشرة ؛ فضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما ؛ لأنه ظلم الخيل. فقال علي بن أبي طالب : كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : { رُدُّوهَا } يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها ، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون. قلت : الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس ، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها ، حسب ما تقدم بيانه. وكثيرا ما يضمرون الشمس ؛ قال لبيد : حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها والهاء في { رُدُّوهَا } للخيل ، ومسحها قال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وقال الحسن وقتادة وابن عباس. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رئي وهو يمسح فرسه بردائه. وقال : "إني عوتبت الليلة في الخيل" (15/196) ________________________________________ خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا. وهوفي غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس. وقد مضى في {الأنفال} قوله عليه السلام : "وامسحوا بنواصيها وأكفالها" وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف. قلت : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان ، هذا. وهو استدلال فاسد ؛ لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا في معنى الآية ؛ فمنهم من قال : مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها وقال : أنت في سبيل الله ؛ فهذا إصلاح. ومنهم من قال : عرقبها ثم ذبحها ، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز. وقد مضى في {النحل} بيانه. وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح. فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز. ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ، ولا يكون في شرعنا. وقد قيل : إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك. وقد قيل : إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله ؛ فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث أن السوق ليست بمحل للوسم بحال. وقد يقال : الكي على الساق علاط ، وعلى العنق وثاق. والذي في الصحاح للجوهري : علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العلاط. والعلاطان جانبا العنق. قلت : ومن قال إن الهاء في { رُدُّوهَا } ترجع للشمس فذلك من معجزاته. وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم. خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي ، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أصليت يا علي" قال : لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فأردد عليه الشمس" قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض ، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات. (15/197) ________________________________________ قلت : وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال : وغلو الرافضة في حب علي عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله ؛ منها أن الشمس غابت ففاتت عليا عليه السلام العصر فردت له الشمس ، وهذا من حيث النقل محال ، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت. ومن قال : أن الهاء ترجع إلى الخيل ، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق ، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع. وقد مضى القول فيه في {يوسف}. الآية : [34] { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } الآية : [35] { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } الآية : [36] { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } الآية : [37] { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } الآية : [38] { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } الآية : [39] { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الآية : [40] { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة ؛ ذكره الزمخشري. و { فَتَنَّا } أي ابتلينا وعاقبنا. وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان ؛ وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم ، ثم قضى بينهما بالحق ، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى. وقال سعيد بن المسيب : إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ، ولا ينصف مظلوما من ظالم ، فأوحى الله تعالى إليه : "إنى لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم". (15/198) ________________________________________ وقال شهر بن حوشب ووهب بن منبه : إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاه في البحر ، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون. فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه ، لا تنظر إليه إلا شزرا ، ولا تكلمه إلا نزرا ، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها ، وكانت في غاية من الجمال ، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورة أبيها حتى تنظر إليه ، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له ، وسجدت معها جواريها ، وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم ، حتى مضت أربعون ليلة ، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ، وحرقه ثم ذراه في البحر. وقيل : إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة - فيما ذكر الزمخشري - أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت ، فخوفها فقالت : اقتلني ولا أسلم فتزوجها وهي مشركة فكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما. وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أوغيره. وقيل : إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غيرهم ، فعوقب على ذلك ؛ والله أعلم. قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قيل : شيطان في قول أكثر أهل التفسير ؛ ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه ، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر ، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس ، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد ، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت. قال ابن عباس : كان ماردا لا يقوى عليه جميع الشياطين ، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود ، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه ، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة ؛ قال شهر ووهب. وقال ابن عباس وابن جبير : اسمها جرادة. فقام أربعين يوما على ملك سليمان وسليمان هارب ، حتى رد الله عليه الخاتم والملك. وقال سعيد بن المسيب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه ، فأخذه الشيطان من تحته. (15/199) ________________________________________ وقال مجاهد : أخذه الشيطان من يد سليمان ؛ لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف : كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك. فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان ، متشبها بصورته ، داخلا على نسائه ، يقضي بغير الحق ، ويأمر بغير الصواب. واختلف في إصابته لنساء سليمان ، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنه كان يأتيهن في حيضهن. وقال مجاهد : منع من إتيانهن وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس ؛ ويحمل سموك الصيادين بالأجر ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه. قال قتادة : ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد. قيل : إنه استطعمها. وقال ابن عباس : أخذها أجرة في حمل حوت. وقيل : إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها ، وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه ، وهي عدد الأيام التي عبد فيها الصنم في داره ، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت ؛ لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بينما سليمان على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه ، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه. وقال جابر بن عبدالله : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله". وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان ، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعا لله تعالى. قال ابن عباس وغيره : ثم إن (15/200) ________________________________________ سليمان لما رد الله عليه ملكه ، أخذ صخرا الذي أخذ خاتمه ، ونقر له صخرة وأدخله فيها ، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص ، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر ، وقال : هذا محبسك إلى يوم القيامة.وقال علي رضي الله عنه : لما أخذ سليمان الخاتم ، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح ، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر ، فبعث إليه الشياطين فقالوا : لا نقدر عليه ، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما ، ولا نقدر عليه حتى يسكر! قال : فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمرا ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم عطش عطشا شديدا ثم أتاه فقال مثل مقالته ، ثم شربها فغلبت على عقله ؛ فأروه الخاتم فقال : سمعا وطاعة. فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا : إن الدخان الذي ترون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله. وقال مجاهد : اسم ذلك الشيطان آصف. وقال السدي اسمه حبقيق ؛ فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق ، وهم مع الشيطان في باطل. وقيل : إن الجسد وَلدٌ وُلِدَ لسليمان ، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين ؛ وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة ، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب ، وغدا ابنه في السحاب خوفا من مضرة الشياطين ، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين ، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتا. قال معناه الشعبي. فهو الجسد الذي قال الله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً }. وحكى النقاش وغيره : إن أكثر ما وطئ سليمان جواريه طلبا للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال سليمان لأطوفن الليلة على (15/201) ________________________________________ تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" وقيل : إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان ، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة ؛ فقال له آصف : إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك ، ففر إلى الله تعالى تائبا من ذلك ، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك ، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوما. ففر سليمان هاربا إلى ربه ، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وكان عنده علم من الكتاب. وقام آصف في ملك سليمان وعياله ، يسير بسيره ويعمل بعمله ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى ، ورد الله عليه ملكه ؛ فأقام آصف في مجلسه ، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم. وقيل : إن الجسد كان سليمان نفسه ؛ وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا. وقد يوصف به المريض المضنى فيقال : كالجسد الملقى. صفة كرسي سليمان وملكه روي عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي ، ثم يجيء أشراف الناس فيجلسون مما يليه ، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ، ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتقلهم ، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر. وقال وهب وكعب وغيرهما : إن سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث إذا رأه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب ؛ فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد ، وأن يحف بنخيل الذهب ؛ فحف بأربع نخلات من ذهب ، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب ، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر. (15/202) ________________________________________ وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر ، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي. وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ، ويبسط الأسدان أيديهما ، ويضربان الأرض بأذنابهما. وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برؤوسهما إلى سليمان ، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر ، ثم تناول حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. قالوا : ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر ، وهي ألف كرسي عن يمينه ، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي ، ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدم الناس لفصل القضاء. فإذا تقدمت الشهود للشهادات ، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما ، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما ، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق.وقيل : إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه ، وهو عظم مما عمله له صخر الجني ؛ فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه ، فإذا وقفن وقفن كلهن عل رأس سليمان وهو جالس ، ثم ينضحن جميعا على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر. فلما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه ؛ فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا. ومات بختنصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس ، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ولعله رفع. (15/203)
| |
|