المجلد الرابع عشر
تفسير سورة فاطر
...
سورة فاطر
الآية : [38] { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
تقدم معناه في غير موضع. والمعنى : علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } و {عالم} إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.
الآية : [39] { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً }
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ } قال قتادة : خلفا بعد خلف، قرنا بعد قرن. والخلف هو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر : يا خليفة الله؛ فقال : لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راض بذلك. { فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي جزاء كفره وهو العقاب والعذاب. { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } أي بغضا وغضبا. { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } أي هلاكا وضلالا.
الآية : [40] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً }
قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ } { شُرَكَاءَكُمُ } منصوب بالرؤية ، ولا يجوز رفعه ، وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم : قد علمت زيدا أبو من هو ؟ لأن زيدا في المعنى مستفهم عنه. ولو قلت : أرأيت زيدا أبو من هو ؟ لم يجز الرفع. والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه ، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذي تدعون من
(14/355)
دون الله ، أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السموات ، أم خلقوا من الأرض شيئا { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً } أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشركة. وكان في هذا رد على من عبد غير الله عز وجل ؛ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أن الله عز وجل أمر أن يعبد غيره. { فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم { عَلَى بَيِّنَةٍ } بالتوحيد ، وجمع الباقون. والمعنيان متقاربان إلا أن قراءة الجمع أولى ؛ لأنه لا يخلو من قرأه { عَلَى بَيِّنَةٍ } من أن يكون خالف السواد الأعظم ، أو يكون جاء به على لغة من قال : جاءني طلحت ، فوقف بالتاء ، وهذه لغة شاذة قليلة ؛ قال النحاس. وقال أبو حاتم وأبو عبيد : الجمع أولى لموافقته الخط ، لأنها في مصحف عثمان {بينات} بالألف والتاء. { بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } أي أباطيل تغر ، وهو قول السادة للسفلة : إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم. وقبل : إن الشيطان يعد المشركين ذلك. وقيل : وعدهم بأنهم ينصرون عليهم.
الآية : [41] { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا } لما بين أن ألهتهم لا تقدر على خلق شيء من السموات والأرض بين أن القهما وممسكهما هو الله ، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ، ولا يبقى إلا ببقائه. و { إِنَّ } في موضع نصب بمعنى كراهة أن تزولا ، أو لئلا تزولا ، أو يحمل على المعنى ؛ لأن المعنى أن الله يمنع السموات والأرض أن تزولا ، فلا حاجة على هذا إلى إضمار ، وهذا قول الزجاج. { وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } قال الفراء : أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. و {إن} بمعنى ما. قال : وهو مثل قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } . وقيل : المراد زوالهما
(14/356)
يوم القيامة. وعن إبراهيم قال : دخل رجل من أصحاب ابن مسعود إلى كعب الأحبار يتعلم منه العلم ، فلما رجع قال له ابن مسعود : ما الذي أصبت من كعب ؟ قال سمعت كعبا يقول : إن السماء تدور على قطب مثل قطب الرحى ، في عمود على منكب ملك ؛ فقال له عبدالله : وددت أنك انقلبت براحلتك ورحلها ، كذب كعب ، ما ترك يهوديته! إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } إن السموات لا تدور ، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وعن ابن عباس نحوه ، وأنه قال لرجل مقبل من الشام : من ، لقيت به ؟ قال كعبا. قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : إن السموات على منكب ملك. فال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } والسموات سبع والأرضون سبع ، ولكن لما ذكرهما أجراهما مجرى شيئين ، فعادت الكناية إليهما ، وهو كقوله تعالى : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } لأن المعنى فيما ذكره بعض أهل التأويل : أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين ، وقولهم اتخذ الله ولدا. قال الكلبي : لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ، كادت السموات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما ، فمنعهما الله ، وأنزل هذه الآية فيه ؛ وهو كقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } الآية.
الآية : [42] { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }
الآية : [43] { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }
(14/357)
قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم ، وأقسموا بالله جل اسمه { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } أي نبي { لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم ، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. { اسْتِكْبَاراً } أي عتوا عن الإيمان { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم. وأنث { مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ } لتأنيث أمة ؛ قاله الأخفش. وقرأ حمزة والأخفش { وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال الزجاج : وهو لحن ؛ وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه. وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحِبْ قَوِّم
وقال الآخر :
فاليوم أشربْ غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
(14/358)
وهذا لاحجة فيه ؛ لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
إذا اعوججن قلت صاح قوم
وأنه أنشد :
فاليوم اشرب غير مستحقب
بوصل الألف على الأمر ؛ ذكر جميعه النحاس. الزمخشري : وقرأ حمزة { الْمَكْرُ السَّيِّئُ } بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ {وَلا يَحِيقُ} . وقرأ ابن مسعود { وَمَكْرَاً سيئاً } وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : {ومكر السيئ} فهو على تقدير الوقف عليه ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
فاليوم اشرب غير مستحقب
قال القشيري : وقرأ حمزة {ومكر السيئْ } بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام. وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى الخطة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا. { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } أي لا ينزل عاقبه الشرك إلا بمن أشرك. وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر. وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي تنزل ، وهذا قول قطرب. وقال الكلبى : { يَحِيقُ } بمعنى يحيط. والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به. وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة "من حفر لأخيه حفرة وقع فيها" ؟ فقال ابن عباس : فاني أوجدك في القرآن ذلك. قال : وأين ؟ قال : فاقرأ { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّبِأَهْلِهِ } ومن أمثال
(14/359)
العرب "من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا" وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } وقال تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وقال بعض الحكماء :
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ... تحصي المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث "المكر والخديعة في النار". فقوله : "في النار" يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : "وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة". وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة.
قوله تعالى : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّض سُنَّتَ الأَوَّلِينَ } أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والسنة الطريقة ، والجمع سنن. وقد مضى في {آل عمران} وأضافها إلى الله عز وجل. وقال في موضع آخر : {سنة سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا } فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ؛ وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، تارة إلى القوم ؛ قال الله تعالى : { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } وقال : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ }
الآية : [44] { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً }
(14/360)
بين السنة التي ذكرها ؛ أي أو لم يروا ما أنزلنا بعاد وثمود ، ومدين وأمثالهم لما كذبوا الرسل ، فتدبروا ذلك بنظرهم إلى مساكنهم ودورهم ، وبما سمعوا على التواتر بما حل بهم ، أفليس فيه عبرة وبيان لهم ؛ ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى ، بل كان أولئك أقوى ؛ دليله قوله : { وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } أي إذا أراد إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك. { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } .
الآية : [45] { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً }
قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } يعني من الذنوب. { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } قال ابن مسعود : يريد جميع الحيوان مما دب ودرج. قال قتادة : وقد فعل ذلك ومن نوح عليه السلام. وقال الكلبي : { مِنْ دَابَّةٍ } يريد الجن والإنس دون غيرهما ؛ لأنهما مكلفان بالعقل. وقال ابن جرير والأخفش والحسين بن الفضل : أراد بالدابة هنا الناس هنا وحدهم دون غيرهم.
قلت : والأول أظهر ؛ لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود : كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم. وقال يحيى بن أبي كثير : أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر ، فقال له رجل : عليك بنفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة : كذبت ؟ والله الذي لا إله إلا هو ثم قال والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم. وقال الثمالي ويحيى بن سلام في هذه الآية : يحبس الله المطر فيهلك كل شيء. وقد مضى في {البقرة} نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تفسير { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. وذكرنا هناك حديث البراء
(14/361)
بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } قال : "دواب الأرض". { وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } قال مقاتل : الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ. وقال يحيى : هو يوم القيامة. { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ } أي بمن يستحق العقاب منهم { بَصِيراً } ولا يجوز أن يكون العامل في {إذا} { بَصِيراً } كما لا يجوز : اليوم إن زيدا خارج. ولكن العامل فيها { جَاءَ } لشبهها بحروف المجازاة ، والأسماء التي يجازى بها يعمل فيها ما بعدها. وسيبويه لا يرى المجازاة بـ {إذا} إلا في الشعر ، كما قال :
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ختمت سورة {فاطر} والحمد لله.
(14/362)