المجلد الرابع عشر
تفسير سورة الروم
...
الآية : [57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفعهم العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ. وقيل : لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا حالهم حال من يستعتب ويرجع ؛ يقال : استعتبته فأعتبني ، أي استرضيته فأرضاني ، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه. وسيأتي في "فصلت" بيانه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ} بالياء ، والباقون بالتاء.
الآية : [58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}
الآية : [59] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
الآية : [60] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه ، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل. {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي معجزة ؛ كفلق البحر والعصا وغيرهما {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} يقول الكفار إن أنتم يا معشر المؤمنين. {إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي تتبعون الباطل والسحر {كَذَلِكَ} أي كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات عن الله فكذلك {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أدلة التوحيد { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي اصبر على أذاهم فإن الله ينصرك {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يستفزنك عن دينك {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} قيل : هو النضر بن الحارث. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ يقال : استخف فلان فلانا أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغّي. وهو في موضع جزم بالنهي ، أكد بالنون الثقيلة فبني على الفتح كما يبنى الشيئان إذا ضم أحدهما إلى الآخر. {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} في موضع رفع ، ومن العرب من يقول : الذون في موضع الرفع. وقد مضى في "الفاتحة".
(14/49)
تفسير سورة لقمان
...
سورة لقمان
مقدمة السورة
وهي مكية ، غير آيتين قال قتادة : أولهما {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس : ثلاث آيات ، أولهن {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} وهي أربع وثلاثون آية.
الآية : [1] {الم}
الآية : [2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
الآية : [3] {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}
الآية : [4] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية : [5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالى : {الم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} مضى الكلام في فواتح السور. و {تِلْكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هذه تلك. ويقال : {تِيكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} بدلا من تلك. والكتاب : القرآن. والحكيم : المحكم ؛ أي لا خلل فيه ولا تناقض. وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم {هُدىً وَرَحْمَةً} بالنصب على الحال ؛ مثل : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي. وقرأ حمزة : {هُدىً وَرَحْمَةً} بالرفع ، وهو من وجهين : أحدهما : على إضمار مبتدأ ؛ لأنه أول آية. والآخر : أن يكون خبر {تِلْكَ} . والمحسن : الذي يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وقيل : هم المحسنون في الدين وهو الإسلام ؛ قال الله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في موضع الصفة ، ويجوز الرفع على القطع بمعنى : هم الذين ، والنصب بإضمار أعني. وقد مضى الكلام في هذه الآية والتي بعدها في {البقرة} وغيرها.
(14/50)
- الآية : [6] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} {من} في موضع رفع بالابتداء. و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} : الغناء ؛ في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وهو ممنوع بالكتاب والسنة ؛ والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو.
قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ؛ اسمدي لنا ؛ أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال مجاهد : الغناء والمزامير. وقد مضى في {سبحان} الكلام فيه. وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعلّي ابن يزيد يضعّف في الحديث ؛ قاله محمد بن إسماعيل. قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعّي.
(14/51)
قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء. روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ؛ يرددها ثلاث مرات. وعن ابن عمر أنه الغناء ؛ وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبدالله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ؛ وقاله مجاهد ، وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار. وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري "باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك" ، وقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} فقوله : "إذا شغل عن طاعة الله" مأخوذ من قوله تعالى : {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك. وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب. وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار ؛ فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد ؛ حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ؛ ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وهذا القول والأول ظاهر في الشراء. وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل. قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات
(14/52)
"من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين" . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : "قراء أهل الجنة" خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : "فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". إلى غير ذلك. وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك. ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه". ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء.
الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ؛ فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربّي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو. وفي اليراعة تردد. والدف مباح. الجوهريّ : وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة. قال القشيريّ : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح" فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار. وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث
(14/53)
الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد. وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبريّ قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ؛ وهو مذهب سائر أهل المدينة ؛ إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها. وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بنّي! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فطلب العلوم الدينية ؛ فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا. قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك. وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ؛ إلا ما روي عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال : وأما مذهب الشافعّي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبدالعزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ؛ قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ؛ ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية. فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ؛ ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة. قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق.
(14/54)
وهذا دليل على أن الغناء محظور ؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم. وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : "أرِقْها". فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى. قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيدالله العنبري ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالسواد الأعظم. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. وقد مضى في الأنعام عند قوله : {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وحسبك
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها. أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله. وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة. قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ؛ ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها.
الخامسة- قوله تعالى : {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قراءة العامة بضم الياء ؛ أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق "بفتح الياء" على اللازم ؛ أي ليضل هو نفسه.
(14/55)
{وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على {مَنْ يَشْتَرِي} ويجوز أن يكون مستأنفا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : {وَيَتَّخِذَهَا} بالنصب عطفا على {لِيُضِلَّ}. ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : {بِغَيْرِ عِلْمٍ} والوقف على قوله : {هُزُواً} ، والهاء في {وَيَتَّخِذَهَا} كناية عن الآيات. ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي شديد يهينهم قال الشاعر :
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
الآية : [7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} يعني القرآن. {وَلَّى} أي أعرض. {مُسْتَكْبِراً} نصب على الحال. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} ثقلا وصمما. وقد تقدم. {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تقدم.أيضا
الآية : [8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}
الآية : [9] {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين .{خَالِدِينَ فِيهَا} أي دائمين. {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم.
(14/56)
الآية : [10] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
الآية : [11] {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} تكون {تَرَوْنَهَا} في موضع خفض على النعت لـ {عَمَدٍ} فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من {السَّمَاوَاتِ} ولا عمد ثم البتة. النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا ، ولا عمد ثم ؛ قاله مكي. ويكون {غَيْرِ عَمَدٍ} التمام. وقد مضى في {الرعد} الكلام في هذه الآية. {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} أي جبالا ثوابت. {أَنْ تَمِيدَ} في موضع نصب ؛ أي كراهية أن تميد. والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد. {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} عن ابن عباس : من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس ؛ لأنهم مخلوقون من الأرض ؛ قال : من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم. وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب ، وظاهر القرآن يدل على ذلك.
قوله تعالى : {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر. والخلق بمعنى المخلوق ؛ أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون {خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله ، أي خلقها من غير شريك. {فَأَرُونِي} معاشر المشركين {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني الأصنام. {بَلِ الظَّالِمُونَ} أي المشركون {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي خسران ظاهر. {وما} استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره {ذا} وذا بمعنى الذي. و {خلق} واقع على هاء محذوفة ؛ تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه ؛ والجملة في موضع نصب بـ {أروني} وتضمر الهاء مع {خلق}
(14/57)
تعود على الذين ؛ أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وعلى هذا القول تقول : ماذا تعلمت ، أنحو أم شعر. ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب بـ {أروني} و {ذا} زائد ؛ وعلى هذا القول يقول : ماذا تعلمت ، أنحوا أم شعرا.
الآية : [12] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} مفعولان. ولم ينصرف {لُقْمَانَ} لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين ؛ فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان ، وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين قد زال ؛ قاله النحاس. وهو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح ، وهو آزر أبو إبراهيم ؛ كذا نسبه محمد بن إسحاق. وقيل : هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة ؛ ذكره السهيلي. قال وهب : كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. الزمخشري : وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، وقيل كان من أولاد آزر ، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له ، فقال : ألا أكتفي إذ كفيت. وقال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل. وقال سعيد ابن المسيب : كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر ، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة ؛ وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليا ولم يكن نبيا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي ؛ وعلى هذا تكون الحكمة النبوة. والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى - وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل - قاضيا في بني إسرائيل ، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر ، أي عظيم الشفتين ؛ قاله ابن عباس وغيره. وروي من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر
(14/58)
حسن اليقين ، أحب الله تعالى فأحبه ، فمّن عليه بالحكمة ، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ؛ فقال : رب ، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ، وإن عزمت علّي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني ؛ ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي : فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه المظلوم من كل مكان ، إن يعن فبالحرى أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه ؛ فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها. ثم نودي داود بعده فقبلها - يعني الخلافة - ولم يشترط ما اشترطه لقمان ، فهوى في الخطيئة غير مرة ، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يوازره بحكمته ؛ فقال له داود : طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء ، وأعطى داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة. وقال قتادة : خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة ؛ فاختار الحكمة على النبوة ؛ فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها ؛ فقيل كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه ، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة ، فكانت الحكمة أحب إلي.
واختلف في صنعته ؛ فقيل : كان خياطا ؛ قاله سعيد بن المسيب ، وقال لرجل أسود : لا تحزن من أنك أسود ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر ولقمان. وقيل : كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب. وقال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وقيل : كان راعيا ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قدر الله ، وأدائي الأمانة ، وصدق الحديث ،
(14/59)
وترك ما لا يعنيني ؛ قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال خالد الربعي : كان نجارا ؛ فقال له سيده : اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين ؛ فأتاه باللسان والقلب ؛ فقال له : ما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ فسكت ، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له : ألق أخبثها مضغتين ؛ فألقى اللسان والقلب ؛ فقال له : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب ، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب ؟ ! فقال له : إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
قلت : هذا معناه مرفوع في غير ما حديث ؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" . وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة ؛ منها قوله عليه السلام : "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة : ما بين لحييه ورجليه..." الحديث. وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها. وقيل له : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا.
قلت : وهذا أيضا مرفوع معنى ، قال صلى الله عليه وسلم : "كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" . رواه أبو هريرة خرجه البخاري. وقال وهب بن منبه : قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع ، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأل ، فأدركته الحكمة فسكت ؛ فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال : الصمت حكمة ، وقليل فاعله. فقال له داود : بحق ما سميت حكيما.
قوله تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فيه تقديران : أحدهما أن تكون {أن} بمعنى أي مفسرة ؛ أي قلنا له اشكر. والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها ؛ كما حكى سيبويه : كتبت إليه أن قم ؛ إلا أن هذا الوجه عنده بعيد. وقال الزجاج : المعنى ولقد آتينا لقمان
(14/60)
الحكمة لأن يشكر الله تعالى. وقيل : أي بأن اشكر لله تعالى فشكر ؛ فكان حكيما بشكره لنا. والشكر لله : طاعته فيما أمر به. وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في {البقرة} وغيرها. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه ؛ لأن نفع الثواب عائد إليه. {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر النعم فلم يوحد الله {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن عبادة خلقه {حَمِيدٌ} عند الخلق ؛ أي محمود. وقال يحيى بن سلام : {غَنِيٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} في فعله.
الآية : [13] {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} قال السهيلي : اسم ابنه ثاران ؛ في قول الطبري والقتبي. وقال الكلبي : مشكم. وقيل أنعم ؛ حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما.
قلت : ودل على هذا قوله : {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال : لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم" . واختلف في قوله : {إن الشرك لظلم عظيم" فقيل : إنه من كلام لقمان. وقيل : هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى ؛ ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم ؛ فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فسكن إشفاقهم ، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى ؛ وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و {إذ} في موضع نصب بمعنى اذكر. وقال الزجاج
(14/61)
في كتابه في القرآن : إن {إذ} في موضع نصب بـ {آتينا} والمعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس : وأحسبه غلطا ؛ لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال : {يا بُنيِّ} بكسر الياء ؛ لأنها دالة على الياء المحذوفة ، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده ؛ وقد مضى في {هود} القول في هذا. وقوله : {يا بني} ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه ، وإنما هو على وجه الترقيق ؛ كما يقال للرجل : يا أخي ، وللصبي هو كويس.
الآية : [14] {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
الآية : [15] {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
فيه ثماني مسائل :
الأولى قوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان. وقيل : إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه ؛ أخبر الله به عنه ؛ أي قال لقمان لابنه : لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك ، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى. وقيل : أي وإذ قال لقمان لابنه ؛ فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه ؛ أي قلنا له اشكر لله ، وقلنا له ووصينا الإنسان. وقيل : وإذ قال لقمان لابنه ، لا تشرك ، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا ، وأمرنا الناس بهذا ، وأمر لقمان به ابنه ؛ ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص ؛ كما تقدم في {العنكبوت} وعليه جماعة المفسرين.
(14/62)
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات ، ويستحسن في ترك الطاعات الندب ؛ ومنه أمر الجهاد الكفاية ، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ؛ على أن هذا أقوى من الندب ؛ لكن يعلل بخوف هلكة عليها ، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال : إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.
الثانية- قوله تعالي : لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب ، وللأب واحدة ؛ وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبّر ؟ قال : "أمك" قال ثم من ؟ قال : "أمك" قال ثم من ؟ قال : "أمك" قال ثم من ؟ قال : "أبوك" فجعل له الّربع من المبرة كما في هذه الآية ؛ وقد مضى هذا كله في {سبحان}.
الثالثة قوله تعالى : {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف. وقيل : المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفّي : {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما ؛ ورويت عن أبي عمرو ، وهما بمعنى واحد. قال قعنب بن أم صاحب :
هل للعواذل من ناه فيزجرها ... إن العواذل فيها الأين والوهن
يقال : وه ن يهن ، ووهن يوهن ووهن ، يهن ؛ مثل ورم يرم. وانتصب {وَهْناً} على المصدر ؛ ذكره القشيري. النحاس : على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر ؛ أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور : {وَفِصَالُهُ} وقرأ الحسن ويعقوب : {وَفِصَلُهُ} وهما لغتان ، أي وفصاله في انقضاء عامين ؛ والمقصود من الفصال الفطام ، فعبّر بغايته ونهايته. ويقال : انفصل عن كذا أي تميّز ؛ وبه سمي الفصيل.
(14/63)
الرابعة- الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة : العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة : إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم ؛ وقد مضى هذا في {البقرة} مستوفى.
الخامسة- قوله تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِي} {أن} في موضع نصب في قول الزجاج ، وأن المعنى : ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس : وأجود منه أن تكون {أن} مفسرة ، والمعنى : قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل : الشكر لله على نعمة الإيمان ، وللوالدين على نعمة التربية. وقال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
قوله تعالى : {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم ، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل ؛ كما تقدم في الآية قبلها.
السابعة- قوله تعالى : {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} نعت لمصدر محذوف ؛ أي مصاحبا معروفا ؛ يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و {مَعْرُوفاً} أي ما يحسن.
والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقير ، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبّي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت علّي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : "نعم". وراغبة قيل معناه : عن الإسلام. قال ابن عطية : والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة ، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العّزى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبدالرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
الثامنة- قوله تعالى : {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} وصية لجميع العالم ؛ كأن المأمور الإنسان. و {أَنَابَ} معناه مال ورجع إلى الشيء ؛ وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وحكى النقاش أن المأمور سعد ، والذي أناب أبو بكر ؛ وقال : إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبدالرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا : آمنت! قال نعم ؛ فنزلت فيه : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} فلما سمعها الستة آمنوا ؛ فأنزل الله تعالى فيهم : {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} . قيل : الذي أناب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر ؛ فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.
(14/64)