سورة هود عليه السلام
...بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 114 {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة ؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان ، وإليها يفزع في النوائب ؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وقال شيوخ الصوفية : إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا ؛ قال ابن العربي : وهذا ضعيف ، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا ، فإن الأوراد معلومة ، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة ، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم ، وليس ذلك في قوة بشر.
الثانية : - قوله تعالى : {طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال مجاهد : الطرف الأول ، صلاة الصبح ، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر ؛ واختاره ابن عطية. وقيل : الطرفان الصبح والمغرب ؛ قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده ؛ وقال قتادة والضحاك. وقيل : الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح ؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق.
قلت : وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب ، وأنه ظاهر ؛ قال ابن عطية : ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي : والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب ، وهما طرفا الليل! فقلب القوس ركوة ، وحاد عن البرجاس غلوة ؛ قال الطبري : والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح ، فدل على أن الطرف الآخر المغرب ، ولم يجمع معه على ذلك أحد.
(9/109)
قلت : هذا تحامل من ابن العربي في الرد ؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد ؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح ، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر ، وعليه القضاء والكفارة ، وما ذلك ، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار ؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح ، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم.
الثالثة : - قوله تعالى : {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} أي في زلف من الليل ، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض ؛ ومنه سميت المزدلفة ؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما "وزلفا" بضم اللام جمع زليف ؛ لأنه قد نطق بزليف ، ويجوز أن يكون واحده "زلفة" لغة ؛ كبسرة وبسر ، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن "وزلفا" من الليل بإسكان اللام ؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا "زلفى" مثل قربى. وقرأ الباقون "وزلفا" بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي : الزلف الساعات ، واحدها زلفة. وقال قوم : الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس ؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة ؛ قاله ابن عباس. وقال الحسن : المغرب والعشاء. وقيل : المغرب والعشاء والصبح ؛ وقد تقدم. وقال الأخفش : يعني صلاة الليل ولم يعين.
الرابعة : - قوله تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس ، وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قال ابن عطية : وهذا على جهة المثال في الحسنات ، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "ما اجتنبت الكبائر" .
قلت : سبب النزول يعضد قول الجمهور ؛ نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو. وقيل : اسمه عباد ؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى
(9/110)
الترمذي عن عبدالله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله! لو سترت على نفسك ؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه ، فتلا عليه : {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} إلى آخر الآية ؛ فقال رجل من القوم : هذا له خاصة ؟ قال : "لا بل للناس كافة" . قال الترمذي : حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت : { أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال الرجل : ألي هذه يا رسول الله ؟ فقال : "لك ولمن عمل بها من أمتي" . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر. قال : أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت : إن في البيت تمرا أطيب من هذا ، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر ، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : " أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا" ؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة ، حتى ظن أنه من أهل النار. قال : وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} . قال أبو اليسر : فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه : يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال : "بل للناس عامة" . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره ؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له : "أشهدت معنا
(9/111)
الصلاة" ؟ قال نعم ؛ قال : " اذهب فإنها كفارة لما فعلت" . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له : "قم فصل أربع ركعات" . والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم ، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .
الخامسة : -دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب ، فيهما الحد ، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد ، وهو اختيار ابن المنذر ؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء ، وسيأتي ما للعلماء في هذا في "النور" إن شاء الله تعالى.
السادسة : -ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال : {أَقِمِ الصَّلاةَ} الآية. وقال : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء : 78] الآية. وقال : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم : 17 - 18]. وقال : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه : 130]. وقال : {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج : 77]. وقال : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : 238]. وقال : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف : 204] على ما تقدم. وقال : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء : 110] أي بقراءتك ؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه ، وأحال على نبيه في بيانه ؛ فقال جل ذكره : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل : 44] فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة ، وعدد الركعات والسجدات ، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها ، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل ؛ فقال في صحيح البخاري : " صلوا كما رأيتموني أصلي" . ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة ، على ما هو معلوم ، ولم
(9/112)
يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه ؛ فكمل الدين ، وأوضح السبيل ؛ قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة : 3].
قوله تعالى : {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر ؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث.
الآية : 115 { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
الآية : 116 {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}
قوله تعالى : {وَاصْبِرْ} أي على الصلاة ؛ كقوله : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه : 132]. وقيل : المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى. {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يعني المصلين.
قوله تعالى : {فَلَوْلا كَانَ} أي فهلا كان. {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي من الأمم التي قبلكم. {أُولُو بَقِيَّةٍ} أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر. {يَنْهَوْنَ} قومهم. {عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات ؛ وهذا توبيخ للكفار. وقيل : ولولا ههنا للنفي ؛ أي ما كان من قبلكم ؛ كقوله : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس : 98] أي ما كانت. {إِلاَّ قَلِيلاً}استثناء منقطع ؛ أي لكن قليلا. {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} نهوا عن الفساد في الأرض. قيل : هم قوم يونس ؛ لقوله : {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} . وقيل : هم أتباع الأنبياء وأهل الحق. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أشركوا وعصوا. {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي من الاشتغال بالمال واللذات ، وإيثار ذلك على الآخرة .{وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}
(9/113)
الآية : 117 {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
الآية : 118 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}
الآية : 119 {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} أي أهل القرى. {بِظُلْمٍ} أي بشرك وكفر. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق ؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد ، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان ، وقوم لوط باللواط ؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك ، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" . وقد تقدم.
وقيل : المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون ، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم ، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح ؛ لأنه تصرف في ملكه ؛ دليله قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس : 44]. وقيل : المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون ؛ أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا.
قوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال سعيد بن جبير : على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك : أهل دين واحد ، أهل ضلالة أو أهل هدى. {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي على أديان شتى ؛ قاله مجاهد وقتادة. {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} استثناء منقطع ؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل : مختلفين في الرزق ، فهذا
(9/114)
غني وهذا فقير. {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} بالقناعة ؛ قاله الحسن. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال الحسن ومقاتل ، وعطاء ويمان : الإشارة للاختلاف ، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : ولرحمته خلقهم ؛ وإنما قال : "ولذلك" ولم يقل ولتلك ، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر ؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة ، وقد يشارك بـ "ذلك" إلى شيئين متضادين ؛ كقوله تعالى : {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة : 68] ولم يقل بين ذينك ولا تينك ، وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان : 67] وقال : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء : 110] وكذلك قوله : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس : 58] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى ؛ لأنه يعم ، أي ولما ذكر خلقهم ؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب ؛ قال أشهب : سألت مالكا عن هذه الآية قال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير ؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال : خلقهم فريقين ، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي : وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير ؛ المعنى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ؛ ولذلك ، خلقهم. وقيل : هو. متعلق بقوله {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود : 103] والمعنى : ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل : هو متعلق بقوله : {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود : 105] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.
قوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} معنى "تمت" ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله ؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} "من" لبيان الجنس ؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. "أجمعين" تأكيد ؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله : "ولكل واحدة منكما ملؤها" . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
(9/115)
الآية : 120 {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ} "كلا" نصب بـ "نقص" معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش : "كلا" حال مقدمة ، كقولك : كلا ضربت القوم. { أَنْبَاءِ الرُّسُلِ } أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي على أداء الرسالة ، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل : نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس : ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج : نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني : نطيب ، والمعنى متقارب. و"ما" بدل من "كلا" المعنى : نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. { وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي في هذه السورة ؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما ؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل : خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن : المعنى في هذه الدنيا ، يريد النبوة. {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية ، والقرون الخالية المكذبة ؛ وهذا تشريف لهذه السورة ؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون ؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
الآية : 121 {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ}
الآية : 122 {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}
الآية : 123 {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(9/116)
قوله تعالى : {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} تهديد ووعيد. {إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} تهديد آخر ، وقد تقدم معناه.
قوله تعالى : - {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي غيبهما وشهادتهما ؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس : خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك : جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون : غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي علم ما غاب فيهما ؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا ؛ لأنه حذف حرف الجر ؛ تقول : غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} أي يوم القيامة ، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص "يرجع" بضم الياء وبفتح الجيم ؛ أي يرد. {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} أي الجأ إليه وثق به. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد : {تَعْمَلُونَ} إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم ؛ قال : بعضهم وقال : {تَعْمَلُونَ} بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : قل لهم {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقال كعب الأحبار : خاتمة التوراة خاتمة "هود" من قوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى آخر السورة.
(9/117)