سورة هود عليه السلام
...بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 91 {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
الآية : 92 {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
الآيتان : 93 {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}
الآية : 94 {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
الآية : 95 {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}
قوله تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} أي وأرسلنا إلى مدين ، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان : أحدهما : أنهم بنو مدين بن إبراهيم ؛ فقيل : مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني : أنه اسم مدينتهم ، فنسبوا إليها. قال النحاس : لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة ؛ وقد تقدم في "الأعراف" هذا المعنى وزيادة. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدم. { وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف ؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد ، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا ؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص ، وشحوا له بغاية ما يقدرون ؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك ، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي في سعة من الرزق ، وكثرة من النعم. وقال الحسن : كان سعرهم رخيصا. {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} وصف اليوم بالإحاطة ، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم ؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم ، وهو كقولك : يوم شديد ؛ أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب ؛ فقيل : هو عذاب النار في الآخرة.
(9/85)
وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل : غلاء السعر ؛ روي معناه عن ابن عباس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء" . وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. {بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والحق ، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه ؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل : أوفوا بالمكيال وبالميزان ؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود ، وكذا الصنجات. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض ، وقد مضى في "الأعراف" زيادة لهذا ، والحمد لله.
قوله تعالى : {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة ، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم ؛ قال معناه الطبري ، وغيره. وقال مجاهد : {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} يريد طاعته. وقال الربيع : وصية الله. وقال الفراء : مراقبة الله. ابن زيد : رحمة الله. قتادة والحسن : حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس : رزق الله خير لكم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل : يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم ؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل : أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم.
قوله تعالى : {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ} وقرئ {أَصَلاتُكَ} من غير جمع. {تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} "أن" في موضع نصب ؛ قال الكسائي : موضعها خفض على إضمار الباء.
(9/86)
وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة ، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة ، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل : إن الصلاة هنا بمعنى القراءة ؛ قاله سفيان عن الأعمش ، أي قراءتك تأمرك ؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن : لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} زعم الفراء أن التقدير : أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} بالتاء في الفعلين ، والمعنى : ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس : "أو أن" على هذه القراءة معطوفة على "أن" الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم. وقيل : معنى. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه ؟ !. {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان : 49] أي عند نفسك بزعمك. وقيل : قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية ، قاله قتادة. ومنه قولهم للحبشي : أبو البيضاء ، وللأبيض أبو الجون ؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . وقال سفيان بن عيينة : العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل ؛ كما قيل للديغ سليم ، وللفلاة مفازة. وقيل : هو تعريض أرادوا به السب ؛ وأحسن من هذا كله ، ويدل ما قبله على صحته ؛ أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا ، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا! ويدل عليه. {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته ، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم ، وبعده أيضا ما يدل عليه.
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي أفلا أنهاكم عن الضلال ؟ ! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة ، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم : "يا إخوة القردة" فقالوا : يا محمد ما علمناك جهولا!.
(9/87)
مسألة : قال أهل التفسير : كان مما ينهاهم عنه ، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم ؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة ، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا ، وعلى المقروضة وزنا ، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك : كانوا يكسرون الدنانير والدراهم ، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم وغيرهما ؛ وكسرهما ذنب عظيم. وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبدالله عن أبيه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ؛ فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها ؛ وظهرت فائدتها ، وإذا كسرت صارت سلعة ، وبطلت منها الفائدة ؛ فأضر ذلك ، بالناس ؛ ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى : {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل : 48] أنهم كانوا يكسرون الدراهم ؛ قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر : زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي.
مسألة : قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي : من كسرها لم تقبل شهادته ، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر ، وليس هذا بموضع عذر ؛ قال ابن العربي : أما قوله : لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة ، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر ؛ وأما قوله : لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد ، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه ، أو خفي وجه الصدق فيه ، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.
مسألة : إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك ، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال : ما هذا ؟ قال رجل : يقطع الدنانير والدراهم ؛ قال ابن المسيب : هذا من الفساد في الأرض ؛ ولم ينكر جلده ؛ ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبدالرحمن النجيبي : كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه ، وأمر فطيف به ، وأمره أن يقول : هذا جزاء من يقطع
(9/88)
لدراهم ؛ ثم أمر أن يرد إليه ؛ فقال : إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم ، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي : أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه ، وأما حلقه فقد فعله عمر ؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق ، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية ، وطريقا إلى التجمل به في الفساد ، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية ، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن ، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة ؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها ، فإن الكسر إفساد الوصف ، والقرض تنقيص للقدر ، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء ؛ فإن قيل : أليس الحرز أصلا في القطع ؟ قلنا : يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها ، وحرز كل شيء على قدر حاله ؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير ، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية : إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه ؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك ، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب ، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي : وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها ، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم ، إلا أني كنت محفوفا بالجهال ، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى.
قوله تعالى : {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي واسعا حلالا ، وكان شعيب عليه السلام كثير المال ، قاله ابن عباس وغيره. وقيل : أراد به. الهدى والتوفيق ، والعلم والمعرفة ، وفي الكلام حذف ، وهو ما ذكرناه ؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل : المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أتبع الضلال ؟ وقيل : المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف ، وقد أغناني الله عنه. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} في موضع نصب بـ "أريد". {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه ، كما لا أترك ما أمرتكم به. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الأِصْلاحَ
(9/89)
مَا اسْتَطَعْتُ} أي ما أريد إلا فعل الصلاح ؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل ، وآخرتكم بالعبادة ، وقال : "ما استطعت" لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و"ما" مصدرية ؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. {وَمَا تَوْفِيقِي} أي رشدي ، والتوفيق الرشد. {إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت. "وإليه أنيب" أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل : إليه أرجع في الآخرة. وقيل : إن الإنابة الدعاء ، ومعناه وله أدعو.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} وقرأ يحيى بن وثاب {يُجْرِمَنَّكُمْ} لا يدخلنكم في الجرم ؛ كما تقول : آثمني أي أدخلني في الإثم. {شِقَاقِي} في موضع رفع. {أَنْ يُصِيبَكُمُ} في موضع نصب ، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم ، قاله الحسن وقتادة. وقيل : لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب ، كما أصاب من كان قبلكم ، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى "يجرمنكم" في "المائدة" و"الشقاق" في "البقرة" وهو هنا بمعنى العداوة ، قاله السدي ، ومنه قول الأخطل :
ألا من مبلغ عني رسولا ... فكيف وجدتم طعم الشقاق
وقال الحسن البصري : إضراري. وقال قتادة : فراقي. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل : وما ديار قوم لوط منكم ببعيد ؛ أي بمكان بعيد ، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي : أي دورهم في دوركم.
قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} تقدم. {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} اسمان من أسمائه سبحانه ، وقد بيناهما في كتاب "الأسنى في شرح الأسماء الحسنى". قال الجوهري : وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته ، والودود المحب ، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال : "ذاك خطيب الأنبياء" .
(9/90)
قوله تعالى : {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} أي ما نفهم ؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور ، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل : قالوا ذلك إعراضا عن سماعه ، واحتقارا لكلامه ؛ يقال : فقه يفقه إذا فهم فقها ؛ وحكى الكسائي : فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} قيل : إنه كان مصابا ببصره ؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل : كان ضعيف البصر ؛ قاله الثوري ، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس : وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا ؛ أي قد ضعف بذهاب بصره ؛ كما يقال ، له ضرير ؛ أي قد ضر بذهاب بصره ؛ كما يقال له : مكفوف ؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن : معناه مهين. وقيل : المعنى ضعيف البدن ؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي : وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل : قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و"ضعيفا" نصب على الحال. {وَلَوْلا رَهْطُكَ} رفع بالابتداء ، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم ؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع ؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى {لَرَجَمْنَاكَ} لقتلناك بالرجم ، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة ، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل : معنى "لرجمناك" لشتمناك ؛ ومنه قول الجعدي :
تراجمنا بمر القول حتى ... نصير كأننا فرسا رهان
والرجم أيضا اللعن ؛ ومنه الشيطان الرجيم. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي} "أرهطي" رفع بالابتداء ؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم {أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} وأعظم وأجل وهو يملككم. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا ؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم ، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي ؛
(9/91)
يقال : جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه ، وقد مضى في "البقرة" ، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من الكفر والمعصية. {مُحِيطٌ} أي عليم. وقيل : حفيظ.
قوله تعالى : {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد ؛ وقد تقدم في "الأنعام". {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي يهلكه. و"من" في موضع نصب ، مثل {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة : 220]. {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف عليها. وقيل : أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل : في محل رفع ؛ تقديره : ويخزي من هو كاذب. وقيل : تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه ، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ "هو" في {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} لأنهم لا يقولون من قائم ؛ إنما يقولون : من قام ، ومن يقوم ، ومن القائم ؛ فزادوا "هو" ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس : ويدل على خلاف هذا قوله :
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
{وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا العذاب والسخطة ؛ فإني منتظر النصر والرحمة.
قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} قيل : صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم {جَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة ، وقال في قصة صالح : {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس : ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب ، أهلكهم الله بالصيحة ؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ "كما بعدت ثمود" بضم العين. قال النحاس : المعروف في اللغة إنما يقال بعد
(9/92)
يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي : من ضم العين من "بعدت" فهي لغة تستعمل في الخير والشر ، ومصدرها البعد ؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة ؛ يقال : بعد يبعد بعدا ؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة ، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى ؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.
الآية : 96 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية : 97 {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}
الآية : 98 {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}
الآية : 99 {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا} بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة ، وإزاحة كل علة "بآياتنا" أي بالتوراة. وقيل : بالمعجزات. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي حجة بينة ؛ يعني العصا. وقد مضى في "آل عمران" معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي شأنه وحاله ، حتى اتخذوه إلها ، وخالفوا أمر الله تعالى. {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي بسديد يؤدي إلى صواب : وقيل : {بِرَشِيدٍ} أي بمرشد إلى خير.
قوله تعالى : {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال : قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي ؛ والمعنى فيوردهم النار ؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن ؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي بئس المدخل المدخول ؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود ، وهو كما تقول : نعم المنزل دارك ، ونعمت المنزل دارك. والمورود الماء الذي يورد ، والموضع الذي يورد ؛ وهو بمعنى المفعول.
(9/93)