فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الثلاثاء 19 يوليو - 1:26 | |
| المجلد الثامن تابع سورة الأنفال الآية : 34 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فيه إحدى عشرة مسألة : - الأولى : قوله تعالى : {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} دخلت اللام على يفعل ، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة. {بِالْبَاطِلِ} قيل : إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك ، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى ، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال ، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه ، ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل : كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع. وقيل : كانوا يرتشون في الأحكام ، كما يفعله اليوم (8/122) كثير من الولاة والحكام. وقوله : {بِالْبَاطِلِ} يجمع ذلك كله. {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام : "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة". أي يضمه لنفسه ويجمعه. قال : ولم تزود من جميع الكنز ... غير خيوط ورثيث بز وقال آخر : لا درَّ درّي إن أطعمت جائعهم ... قِرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز قرف الحتي هو سويق المقل. يقول : إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل ، وهو الحتي ، فلما نزلوا به قال هو : لا در دري... البيت. وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه ، بخلاف سائر الأموال. قال الطبري : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وسمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ، والفضة لأنها تنفض فتتفرق ، ومنه قوله تعالى : {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة : 11] – {انْفَضُّواإليها - لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] وقد مضى هذا المعنى في "آل عمران". الثالثة : واختلف الصحابة في المراد بهذه الآية ، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وإليه ذهب الأصم لأن قوله : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} مذكور بعد قوله : {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} . وقال أبو ذر وغيره : المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. وهو الصحيح ، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال : ويكنزون ، بغير والذين. فلما قال : {وَالَّذِينَ} فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة. فالذين يكنزون كلام مستأنف ، وهو رفع على الابتداء. قال السدي : عنى أهل القبلة. فهذه ثلاثة أقوال. وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم (8/123) مخاطبون بفروع الشريعة. روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب. فقلت : نزلت فينا وفيهم ، وكان بيني وبينه في ذلك. فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريبا ، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت. الرابعة : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية زكاة العين ، وهي تجب بأربعة شروط : حرية ، وإسلام ، وحول ، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا. أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا. وإنما قلنا إن الحرية شرط ، فلأن العبد ناقص الملك. وإنما قلنا إن الإسلام شرط ، فلأن الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة ، ولأن الله تعالى قال : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة : 43] فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة. وإنما قلنا إن الحول شرط ، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول". وإنما قلنا إن النصاب شرط ، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة" . ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول ، وإنما يراعى عند آخر الحول ، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل. يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الألف ، ولا يستأنف للربح حولا. فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح ، كان صادرا عن نصاب أو دونه. وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم ، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها ، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها. (8/124) الخامسة : واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا ؟ فقال قوم : نعم. ورواه أبو الضحاك عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه ، قال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته ، ولا يصح. وقال قوم : ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز. قال ابن عمر : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله عن جابر ، وهو الصحيح. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا – {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران : 180] الآية. وفيه أيضا عن أبي ذر ، قال : انتهيت إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس". فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى ، قال له أعرابي : أخبرني عن قول الله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال. وقيل : الكنز ما فضل عن الحاجة. روى عن أبي ذر ، وهو مما نقل من مذهبه ، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه. قلت : ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا ، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم ، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم ، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم ، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. (8/125) فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء ، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم. وقيل : الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة ، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك. وقيل : الكنز لغة المجموع من النقدين ، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس. وقيل : المجموع منهما ما لم يكن حليا ، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه. والصحيح ما بدأنا بذكره ، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا. والله أعلم. السادسة : واختلف العلماء في زكاة الحلي ، فذهب مالك وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراق ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال : أستخير الله فيه. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي : في ذلك كله الزكاة. احتج الأولون فقالوا : قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لإيجاب الزكاة ، كذلك قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا للقنية يسقط الزكاة. احتج أبو حنيفة بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلي وغيره. وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حليا ليفر به من الزكاة وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار وفي المذهب في الحلي تفصيل بيانه في كتب الفروع. السابعة : روى أبو داود عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال : كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق فقال : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال : "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث - وذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم" قال : فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته" . وروى (8/126) الترمذي وغيره عن ثوبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه. فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فقال : "لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه" . قال حديث حسن. الثامنة : قوله تعالى : {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقل ينفقونهما ، ففيه أجوبة ستة : الأول : قال ابن الأنباري : قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة : 45] رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم. ومثله {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة : 11] فأعاد الهاء إلى التجارة لأنها الأهم وترك اللهو قاله كثير من المفسرين. وأباه بعضهم وقال : لا يشبهها ، لأن {أَوْ} قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحدهما. الثاني : العكس وهو أن يكون "ينفقونها" للذهب والثاني معطوفا عليه. والذهب تؤنثه العرب تقول : هي الذهب الحمراء. وقد تذكر والتأنيث أشهر. الثالث : أن يكون الضمير للكنوز. الرابع : للأموال المكنوزة. الخامس : للزكاة التقدير ولا ينفقون زكاة الأموال المكنوزة. السادس : الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى ، وهذا كثير في كلام العرب. أنشد سيبويه : نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ولم يقل راضون. وقال آخر. رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني ولم يقل بريئين. ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه : (8/127) إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يعاص كان جنونا ولم يقل يعاصيا. التاسعة : إن قيل : من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي ، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله. قيل له : إن ذلك أشد ، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول ، كشراء الخمر وشربها. بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى ، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك. والكانز عصى من جهتين ، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير. وقد لا يراعى حبس المال ، والله أعلم. العاشرة : قوله تعالى : {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قد تقدم معناه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله : "بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم" الحديث. أخرجه مسلم. رواه أبو ذر في رواية : "بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل" الحديث. قال علماؤنا : فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرج بالكثرة في المال والسرور في الدنيا ، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب. الحادية عشرة : قال علماؤنا : ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره ، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة ، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك ، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا ، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم. (8/128) الآية : 35 {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} فيه أربع مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} {يَوْمَ} ظرف ، والتقدير يعذبون يوم يحمى. ولا يصح أن يكون على تقدير : فبشرهم يوم يحمى عليها ، لأن البشارة لا تكون حينئذ. يقال : أحميت الحديدة في النار ، أي أوقدت عليها. ويقال : أحميته ، ولا يقال : أحميت عليه. وههنا قال عليها ، لأنه جعل "على" من صلة معنى الإحماء ، ومعنى الإحماء الإيقاد. أي يوقد عليها فتكوى. الكي : إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد. والجباه جمع الجبهة ، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية. وجبهت فلانا بكذا ، أي استقبلته به وضربت جبهته. والجنوب جمع الجنب. والكي في الوجه أشهر وأشنع ، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع ، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء. وقال علماء الصوفية : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم ، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم. وقال علماء الظاهر : إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه. كما قال : يزيد يغض الطرف عني كأنما ... زوى بين عينيه علي المحاجم فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم وإذا سأله طوى كشحه ، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره. فرتب الله العقوبة على حال المعصية. (8/129) الثانية : واختلفت الآثار في كيفية الكي بذلك ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر ما ذكرنا من ذكر الرضف. وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار...". الحديث. وفي البخاري : أنه يمثل له كنزه شجاعا أقرع. وقد تقدم في غير الصحيح عن عبدالله بن مسعود أنه قال : "من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينفر رأسه..." قلت : ولعل هذا يكون في مواطن : موطن يمثل المال فيه ثعبانا ، وموطن يكون صفائح وموطن يكون رضفا. فتتغير الصفات والجسمية واحدة ، فالشجاع جسم والمال جسم. وهذا التمثيل حقيقة ، بخلاف قوله : "يؤتى بالموت كأنه كبش أملح" فإن تلك طريقة أخرى ، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء. وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للخلق. والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل ، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس ، ويكون في الصحارى. وقيل : هو الثعبان. قال اللحياني : يقال للحية شجاع ، وثلاثة أشجعة ، ثم شجعان. والأقرع من الحيات هو الذي تمعط رأسه وابيض من السم. في الموطأ : له زبيبتان ، أي نقطتان منتفختان في شدقيه كالرغوتين. ويكون ذلك في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام. قالت أم غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى يتزبب شدقاي. ضرب مثلا للشجاع الذي كثر سمه فيمثل المال بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان. وقال ابن دريد : نقطتان سوداوان فوق عينيه. في رواية : مثل له شجاع يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل. وقال ابن مسعود : "والله لا يعذب الله أحدا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا ، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته" وهذا إنما يصح في الكافر - كما ورد في الحديث - لا في المؤمن. والله أعلم. (8/130) الثالثة : أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كية" . ثم مات آخر فوجد له ديناران. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيتان" . وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما البر ، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه. ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله ، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم رضوان الله عليهم. وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له ، رضي الله عنه. وقد روى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة". قلت : هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به ، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله. وقال أبو أمامة : من خلف بيضا أوصفرا كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له ، ألا إن حلية السيف من ذلك. وروى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه إلى قدمه مغفورا له بعد ذلك أو معذبا". قلت : وهذا محمول على ما لم تؤد زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا. فيكون التقدير : وعنده أحمر أو أبيض لم يؤد زكاته. وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة. أي إن لم يؤد زكاتها ، لئلا تتناقض الأحاديث. والله أعلم. الرابعة : قوله تعالى : {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ} أي يقال لهم هذا ما كنزتم ، فحذف. {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي عذاب ما كنتم تكنزون. (8/131) الآية : 36 {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} قوله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فيه ثمان مسائل : - الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا ، قاله بعض العلماء. وقيل : لا يكلمه أبدا. ابن العربي : وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل. {عِنْدَ اللَّهِ} أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ. {اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} أعربت {اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} دون نظائرها ، لأن فيها حرف الإعراب ودليله. وقرأ العامة {عَشَر} بفتح العين والشين. وقرأ أبو جعفر {عَشْر} بجزم الشين. {فِي كِتَابِ اللَّهِ} يريد اللوح المحفوظ. وأعاده بعد أن قال {عِنْدَ اللَّهِ} لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان : 34]. الثانية : قوله تعالى : {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إنما قال {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك ، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} . وحكمها باق (8/132) على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه ، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع : "أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض..." على ما يأتي بيانه. وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى. والعامل في {يَوْمَ} المصدر الذي هو {فِي كِتَابِ اللَّهِ} وليس يعنى به واحد الكتب ، لأن الأعيان لا تعمل في الظروف. والتقدير : فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض. و{عِنْدَ} متعلق بالمصدر الذي هو العدة ، وهو العامل فيه. و{فِي} من قوله : {فِي كِتَابِ اللَّهِ} متعلقة بمحذوف ، هو صفة لقوله : {اثْنَا عَشَرَ} . والتقدير : اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله. ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن. الثالثة : هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب ، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا ، لأنها مختلفة الأعداد ، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص ، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص ، والذي ينقص ليس يتعين له شهر ، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج. الرابعة : قوله تعالى : {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان ، وهو رجب مضر ، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا. وكانت مضر تحرم رجبا نفسه ، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : "الذي بين جمادى وشعبان" ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. وكانت العرب أيضا تسميه منصل الأسنة ، (8/133) روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة ، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه. الخامسة : قوله تعالى : {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : {ذَلِكَ الدِّينُ} أي ذلك القضاء. مقاتل : الحق. ابن عطية : والأصوب عندي أن يكون الدين ههنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة. {الْقَيِّمُ} أي القائم المستقيم ، من قام يقوم. بمنزلة سيد ، من ساد يسود. أصله قيوم. السادسة : قوله تعالى : {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور. وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة ، لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم ، لقوله تعالى : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة : 197] لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه. ثم قيل : في الظلم قولان : - أحدهما : لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال ، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور ، قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. وقال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت. والصحيح الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. الثاني - لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب ، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح. فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس (8/134) ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام. ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب : 30]. السابعة : وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ ، هل تغلظ عليه الدية أم لا ، فقال الأوزاعي : القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا. ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل. قال الشافعي : تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله وابن شهاب وأبان بن عثمان : من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها. وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى : القتل في الحل والحرم سواء ، وفي الشهر الحرام وغيره سواء ، وهو قول جماعة من التابعين. وهو الصحيح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء. فالقياس أن تكون الدية كذلك. والله أعلم. الثامنة : خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر ، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان. كما قال : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة : 197] على هذا أكثر أهل التأويل. أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر. وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال : فيهن كلهن. فإن قيل على القول الأول : لم قال فيهن ولم يقل فيها ؟ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة : هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا : هي وهذه ، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير. وروي عن الكسائي أنه قال : إني لأتعجب من فعل (8/135) العرب هذا. وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي : خلون. وفيما فوقها خلت. لا يقال : كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض ، فإنا نقول : للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ، ليس لعمله علة ولا عليه حجر ، بل يفعل ما يريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى. قوله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} فيه مسألة واحدة. قوله تعالى : {قَاتِلُوا} أمر بالقتال. و{كَافَّةً} معناه جميعا ، وهو مصدر في موضع الحال. أي محيطين بهم ومجتمعين. قال الزجاج : مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة. ولا يثنى ولا يجمع ، وكذا عامة وخاصة. قال بعض العلماء : كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية. قال ابن عطية : وهذا الذي قال لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر ، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة. ثم قيدها بقول : {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم. والله أعلم. الآية : 37 {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} قوله تعالى : قوله تعالى : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} هكذا يقرأ أكثر الأئمة. قال النحاس : ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه {إنما النَسِيُّ} بلا همز إلا ورش وحده. وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره ، حكى اللغتين الكسائي. الجوهري : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته. ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة. قال الطبري : النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد. قال : ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان ، كما قال تعالى : (8/136) {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة : 67] ، ورد على نافع قراءته ، واحتج بأن قال : إنه يتعدى بحرف الجر يقال : نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" . قال الأزهري : أنسأت الشيء إنساء ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي. وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم. وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها ، وقالوا : لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن. فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة ، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس ، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون : أنسئنا شهرا ، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم. فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. وهذا معنى قوله عليه السلام : "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وقال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة ، فذلك قوله في خطبته : "إن الزمان قد استدار..." الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. وقول ثالث. قال إياس بن معاوية : كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما ، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة ، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة ، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة (8/137) في العشر ، ووافق ذلك الأهلة. وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الزمان قد استدار..." أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه ، ونفذ بها حكمه. ثم قال : السنة اثنا عشر شهرا. ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم ، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي. وحكى الإمام المازري عن الخوارزمي أنه قال : أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل ، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل. وهذا يحتاج إلى توقيف ، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء ، ولا نقل صحيحا عنهم بذلك ، ومن ادعاه فليسنده. ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال ، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج ، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام : "إن الزمان قد استدار..." بينها وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال عشر درجات. والله أعلم. واختلف أهل التأويل في أول من نسأ ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك : بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، ثم كان بعده رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري : حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية : مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم : ومنا ناسئ الشهر القلمَّس وقال الكميت : ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما (8/138) قوله تعالى : {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت : {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان : 60] في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت : {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس : 78]. وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر : 24]. وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله. ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون. قوله تعالى : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فيه ثلاث قراءات. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {يَضِل} وقرأ الكوفيون {يُضَل} على الفعل المجهول. وقرأ الحسن وأبو رجاء {يُضِل} والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى ، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول. والتقدير : ويضل به الذين كفروا من يقبل منهم. و{الَّذِينَ} في محل رفع. ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الله عز وجل. التقدير : يضل الله به الذين كفروا ، كقوله تعالى : {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد : 27] ، وكقوله في آخر الآية : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . والقراءة الثانية {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المحسوب لهم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، لقوله تعالى : {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} . والقراءة الأولى اختارها أبو حاتم ؛ لأنهم كانوا ضالين به أي بالنسيء لأنهم كانوا يحسبونه فيضلون به. والهاء في {يُحِلُّونَهُ} ترجع إلى النسيء. وروي عن أبي رجاء {يَضَل} بفتح الياء والضاد. وهي لغة ، يقال : ضللت أضل ، وضللت أضل.{لِيُوَاطِئُوا} نصب بلام كي أي ليوافقوا. تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه ، أي لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة. وهذا هو الصحيح ، لا ما يذكر أنهم جعلوا الأشهر خمسة. قال قتادة : إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم ، وقرنوه بالمحرم في التحريم ، وقاله عنه قطرب والطبري. وعليه يكون النسيء بمعنى الزيادة. والله أعلم. (8/139) | |
|