فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الخميس 30 يونيو - 17:12 | |
|
2- سورة الأنفال
سورة الأنفال : مدنية بدرية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس : هي مدنية إلا سبع آيات ، من قوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخر السبع آيات. الآية : 1 {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فيه سبع مسائل : - الأولى : روى عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقوا العدو ؛ فلما هزمهم الله اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستولت طائفة على العسكر والنهب ؛ فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا : لنا النفل ، نحن الذين طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنتم أحق به منا ، بل هو لنا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة. وقال الذين استلووا على العسكر والنهب : ما أنتم بأحق منا ، هو لنا ، نحن حويناه واستولينا عليه ؛ فأنزل الله عز وجل : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فواق بينهم. قال أبو عمر : قال أهل العلم بلسان العرب : استلووا أطافوا وأحاطوا ؛ يقال : الموت مستلو على العباد. وقوله : "فقسمه عن فواق" يعني عن سرعة. قالوا : والفواق ما بين حلبتي الناقة. يقال : انتظره فواق ناقة ، أي هذا(7/360)
المقدار. ويقولونها بالضم والفتح : فواق وفواق. وكان هذا قبل أن ينزل : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال : 41] الآية. وكأن المعنى عند العلماء : أي إلى الله وإلى الرسول الحكم فيها والعمل بها بما يقرب من الله تعالى. وذكر محمد بن إسحاق قال : حدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى الأشدق عن مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بواء. يقول : على السواء. فكان ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين وروي في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال : اغتنم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة ، فإذا فيها سيف ، فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نفلني هذا السيف ، فأنا من قد علمت حاله. قال : "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت : أعطنيه. قال : فشد لي صوته "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت : أعطنيه ، قال : فشد لي صوته "رده من حيث أخذته" فأنزل الله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . لفظ مسلم. والروايات كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية. الثانية : الأنفال واحدها نفل بتحريك الفاء ؛ قال : إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل أي خير غنيمة. والنفل : اليمين ؛ ومنه الحديث "فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم". والنفل الانتفاء ؛ ومنه الحديث "فانتفل من ولدها". والنفل : نبت معروف. والنفل : الزيادة على الواجب ، وهو التطوع. وولد الولد نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد. والغنيمة نافلة ؛ لأنها(7/361)
زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها. قال صلى الله عليه وسلم : "فضلت على الأنبياء بست - وفيها - وأحلت لي الغنائم" . والأنفال : الغنائم أنفسها. قال عنترة : إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال أي الغنائم. الثالثة : واختلف العلماء في محل الأنفال على أربعة أقوال : الأول : محلها فيما شد عن الكافرين إلى المسلمين أو أخذ بغير حرب. الثاني : محلها الخمس. الثالث : خمس الخمس. الرابع : رأس الغنيمة ؛ حسب ما يراه الإمام. ومذهب مالك رحمه الله أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس ، على ما يرى من الاجتهاد ، وليس في الأربعة الأخماس نفل ، وإنما لم ير النفل من رأس الغنيمة لأن أهلها معينون وهم الموجفون ، والخمس مردود قسمه إلى اجتهاد الإمام. وأهله غير معينين. قال صلى الله عليه وسلم : "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" . فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حق أحد ، وإنما يكون من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخمس. هذا هو المعروف من مذهبه وقد روي عنه أن ذلك من خمس الخمس. وهو قول ابن المسيب والشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف حديث ابن عمر ، رواه مالك قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة ، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ؛ ونفلوا بعيرا بعيرا. هكذا رواه مالك على الشك في رواية يحيى عنه ، وتابعه على ذلك جماعة رواة الموطأ إلا الوليد بن مسلم فإنه رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، فقال فيه : فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا. ولم يشك. وذكر الوليد بن مسلم والحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد - في رواية الوليد : أربعة آلاف - وانبعثت سرية من الجيش - في رواية الوليد : فكنت ممن خرج فيها - فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ، اثني عشر بعيرا ؛ ونقل أهل السرية بعيرا بعيرا ؛ فكان سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا ؛ ذكره أبو داود. فاحتج بهذا من(7/362)
يقول : إن النفل إنما يكون من جملة الخمس. وبيانه أن هذه السرية لو نزلت على أن أهلها كانوا عشرة مثلا أصابوا في غنيمتهم مائة وخمسين ، أخرج منها خمسها ثلاثين وصار لهم مائة وعشرون ، قسمت على عشرة وجب لكل واحد اثنا عشر بعيرا ، اثنا عشر بعيرا ، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرا بعيرا ؛ لأن خمس الثلاثين لا يكون فيه عشرة أبعرة. فإذا عرفت ما للعشرة عرفت ما للمائة والألف وأزيد. واحتج من قال : إن ذلك كان من خمس الخمس بأن قال : جائز أن يكون هناك ثياب تباع ومتاع غير الإبل ، فأعطى من لم يبلغه البعير قيمة البعير من تلك العروض. ومما يعضد هذا ما روى مسلم في بعض طرق هذا الحديث : فأصبنا إبلا وغنما ؛ الحديث. وذكر محمد بن إسحاق في هذا الحديث أن الأمير نفلهم قبل القسم ، وهذا يوجب أن يكون النفل من رأس الغنيمة ، وهو خلاف قول مالك. وقول من روى خلافه أولى لأنهم حفاظ ؛ قاله أبو عمر رحمه الله. وقال مكحول والأوزاعي : لا ينفل بأكثر من الثلث ؛ وهو قول الجمهور من العلماء. قال الأوزاعي : فإن زادهم فليف لهم ويجعل ذلك من الخمس. وقال الشافعي : ليس في النفل حد لا يتجاوزه الإمام. الرابعة : ودل حديث ابن عمر على ما ذكره الوليد والحكم عن شعيب عن نافع أن السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أن العسكر شركاؤهم. وهذه مسألة وحكم لم يذكره في الحديث غير شعيب عن نافع ، ولم يختلف العلماء فيه ، والحمد لله. الخامسة : واختلف العلماء في الإمام يقول قبل القتال : من هدم كذا من الحصن فله كذا ، ومن بلغ إلى موضع كذا فله كذا ، ومن جاء برأس فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا ؛ يضريهم. فروي عن مالك أنه كرهه. وقال : هو قتال على الدنيا. وكان لا يجيزه. قال الثوري : ذلك جائز ولا بأس به. قلت : وقد جاء هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا" . الحديث بطوله.(7/363)
وفي رواية عكرمة عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من فعل كذا وكذا وأتى مكان كذا وكذا فله كذا" . فتسارع الشبان وثبت الشيوخ مع الرايات ؛ فلما فتح لهم جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم فقال لهم الأشياخ : لا تذهبون به دوننا ، فقد كنا ردءا لكم ؛ فأنزل الله تعالى : {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ذكره إسماعيل بن إسحاق أيضا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبدالله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشأم : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وسبي ؟ . وقال بهذا جماعة فقهاء الشأم : الأوزاعي ومكحول وابن حيوة وغيرهم. ورأوا الخمس من جملة الغنيمة ، والنفل بعد الخمس ثم الغنيمة بين أهل العسكر ؛ وبه قال إسحاق وأحمد وأبو عبيد. قال أبو عبيد : والناس اليوم على أن لا نفل من جهة الغنيمة حتى تخمس. وقال مالك : لا يجوز أن يقول الإمام لسرية : ما أخذتم فلكم ثلثه. قال سحنون : يريد ابتداء. فإن نزل مضى ، ولهم أنصباؤهم في الباقي. وقال سحنون : إذا قال الإمام لسرية ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه ؛ فهذا لا يجوز ، فإن نزل رددته ؛ لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى. السادسة : واستحب مالك رحمه الله ألا ينفل الإمام إلا ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف. ومنع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحوه. وقال بعضهم : النفل جائز من كل شيء. وهو الصحيح لقول عمر ومقتضى الآية ، والله أعلم. السابعة : قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أم بالتقوى والإصلاح ، أي كونوا مجتمعين على أمر الله في الدعاء : اللهم أصلح ذات البين ، أي الحال التي يقع بها الاجتماع. فدل هذا على التصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ، أو مالت النفوس إلى التشاح ؛ كما هو منصوص في الحديث. وتقدم معنى التقوى ، أي اتقوا الله في أقوالكم ، وأفعالكم ، وأصلحوا ذات بينكم. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الغنائم ونحوها. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن سبيل المؤمن أن يمتثل ما ذكرنا. وقيل : {إِنْ} بمعنى {إذْ}.(7/364)
الآيتان : 2 - 3 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الآية : 4 {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فيه ثلاث مسائل : - الأولى : قال العلماء : هذه الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة. والوجل : الخوف. وفي مستقبله أربع لغات : وجل يوجل وياجل وييجل وييجل ، حكاه سيبويه. والمصدر وجل جلا وموجلا ؛ بالفتح. وهذا موجله "بالكسر" للموضع والاسم. فمن قال : ياجل في المستقبل جعل الواو ألفا لفتحة ما قبلها. ولغة القرآن الواو {قَالُوا لا تَوْجَلْ} [الحجر : 53]. ومن قال : {يَيجل} بكسر الياء فهي على لغة بني أسد ، فإنهم يقولون : أنا إيجل ، ونحن نيجل ، وأنت تيجل ؛ كلها بالكسر. ومن قال : {يَيْجل} بناه على هذه اللغة ، ولكنه فتح الياء كما فتحوها في يعلم ، ولم تكسر الياء في يعلم لاستثقالهم الكسر على الياء. وكسرت في {ييجل} لتقوي إحدى الياءين بالأخرى. والأمر منه {إيجَلْ} صارت الواو ياء الكسرة ما قبلها. وتقول : إني منه لأوجل. ولا يقال في المؤنث : وجلاء : ولكن وجلة. وروى سفيان عن السدي في قوله جل وعز : {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قال : إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له : اتق الله ، ووجل قلبه. الثانية : وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج : 34 ، 35]. وقال : {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد : 28]. فهذا يرجع إلى كمال(7/365)
المعرفة وثقة القلب. والوجل : الفزع من عذاب الله ؛ فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر : 23]. أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله. فهذه حالة العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير. فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة : 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم. ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ؛ فمن كان مستنا فليستن ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا ؛ والجنون فنون. روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال : "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا" . فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل : زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا ولا قمنا.(7/366)
الثالثة : قوله تعالى : {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي تصديقا. فإن إيمان هذه الساعة زيادة على إيمان أمس ؛ فمن صدق ثانيا وثالثا فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدم. وقيل : هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة ؛ وقد مضى هذا المعنى في "آل عمران". {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} تقدم معنى التوكل في "آل عمران" أيضا. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} تقدم في سورة "البقرة". قوله تعالى : {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة ؛ وقد قال عليه السلام لحارثة : "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك" ؟ الحديث. وسأل رجل الحسن فقال : يا أبا سعيد ؛ أمؤمن أنت ؟ فقال له : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ - إلى قوله - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسطي : من قال أنا مؤمن بالله حقا ؛ قيل له : الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة ؛ فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة : إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة ، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيح. الآية : 5 {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} قوله تعالى : {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ؛ أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. أي مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق. والمعنى : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا ؛ لأن بعض(7/367)
الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال : يبقى أكثر الناس بغير شيء. فموضع الكاف في {كَمَا} نصب كما ذكرنا. وقال الفراء أيضا. قال أبو عبيدة : هو قسم ، أي والذي أخرجك ؛ فالكاف بمعنى الواو ، وما بمعنى الذي. وقال سعيد بن مسعدة : المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال وقال بعض العلماء {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم. وقال عكرمة : المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك. وقيل : {كَمَا أَخْرَجَكَ} متعلق بقوله {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} المعنى : لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له ؛ فأنجزك وعدك. وأظفرك بعدوك وأوفى لك ؛ لأنه قال عز وجل : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال : 7]. فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة. وهذا قول حسن ذكره النحاس واختاره. وقيل : الكاف في {كَمَا} كاف التشبيه ، ومخرجه على سبيل ، المجازاة ؛ كقول القائل لعبده : كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وقويتك وأزحت علتك ، فخذهم الآن فعاقبهم بكذا. وكما كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكذا. وكما أحسنت إليك فاشكرني عليه. فقال : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنة منه - يعني به إياه ومن معه - وأنزل من السماء ماء ليطهركم به ، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين ؛ فاضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان. كأنه يقول : قد أزحت عللكم ، وأمددتكم" بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع ، وهو المقتل ؛ لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. والله أعلم. {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي لكارهون ترك مكة وترك أموالهم وديارهم. الآية : 6 {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}(7/368)
قوله تعالى : {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} مجادلتهم : قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة. ومعنى {فِي الْحَقِّ} أي في القتال . {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله. وقيل : بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة ، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم. فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم. {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} كراهة للقاء القوم. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي يعلمون أن ذلك واقع بهم ؛ قال الله تعالى : {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ : 40] أي يعلم. الآيتان : 7 - 8 {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} قوله تعالى : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}{ إِحْدَى}في موضع نصب مفعول ثان. {أَنَّهَا لَكُمْ} في موضع نصب أيضا بدلا من {إِحْدَى}. {وَتَوَدُّونَ} أي تحبون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} قال أبو عبيدة : أي غير ذات الحد. والشوكة : السلاح. والشوك : النبت الذي له حد ؛ ومنه رجل شائك السلاح ، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال : شاكي السلاح. أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب ؛ عن الزجاج. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي أن يظهر الإسلام. والحق حق أبدا ، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. {بِكَلِمَاتِهِ} أي بوعده ؛ فإنه وعد نبيه ذلك في سورة "الدخان" فقال : {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان : 16] أي من أبي جهل وأصحابه. وقال : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. [التوبة : 33]. وقيل : {بِكَلِمَاتِهِ} أي(7/369)
بأمره ؛ إياكم أن تجاهدوهم. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي يستأصلهم بالهلاك. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يظهر دين الإسلام ويعزه. {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي الكفر. وإبطاله إعدامه ؛ كما أن إحقاق الحق إظهاره {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء : 18]. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} . الآيتان : 9 - 10 {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قوله تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الاستغاثة : طلب الغوث والنصر. غوث الرجل قال : واغوثاه. والاسم الغوث والغواث والغواث. واستغاثني فلان فأغثته ؛ والاسم الغياث ؛ عن الجوهري. وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، فجعل يهتف بربه : "اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم ائتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" . فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة. وذكر الحديث. {مُرْدَفيِنَ} بفتح الدال قراءة نافع. والباقون بالكسر اسم فاعل ، أي متتابعين ، تأتي فرقة بعد فرقة ، وذلك أهيب في العيون. و{مُرْدَفين} بفتح الدال على ما لم يسم فاعله ؛ لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة ، أي أنزلوا إليهم لمعونتهم على(7/370)
الكفار. فمردفين بفتح الدال نعت لألف. وقيل : هو حال من الضمير المنصوب في {مُمِدُّكُمْ} . أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة ؛ وهذا مذهب مجاهد. وحكى أبو عبيدة أن ردفني وأردفني واحد. وأنكر أبو عبيد أن يكون أردف بمعنى ردف ؛ قال لقول الله عز وجل : {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات : 7] ولم يقل المردفة. قال النحاس ومكي وغيرهما : وقراءة كسر الدال أولى ؛ لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسرون. أي أردف بعضهم بعضا ، ولأن فيها معنى الفتح على ما حكى أبو عبيدة ، ولأن عليه أكثر القراء. قال سيبويه : وقرأ بعضهم {مُرَدَّفين} بفتح الراء وشد الدال. وبعضهم {مُرِدَّفين} بكسر الراء. وبعضهم {مُرُدَّفين} بضم الراء. والدال مكسورة مشددة في القراءات الثلاث. فالقراءة الأولى تقديرها عند سيبويه مرتدفين ، ثم أدغم التاء في الدال ، وألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان. والثانية كسرت فيها الراء لالتقاء الساكنين. وضمت الراء في الثالثة إتباعا لضمة الميم ؛ كما تقول : رد ورد ورد يا هذا. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري : {بآلف} جمع ألف ؛ مثل فلس وأفلس. وعنهما أيضا {بألف}. وقد مضى في "آل عمران" ذكر نزول الملائكة وسيماهم وقتالهم. وتقدم فيها القول في معنى قوله : {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} [آل عمران : 126]. والمراد الإمداد. ويجوز أن يكون الإرداف .{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نبه على أن النصر من عنده جل وعز لا من الملائكة ؛ أي لولا نصره لما انتفع بكثرة العدد بالملائكة. والنصر من عند الله يكون بالسيف ويكون بالحجة. الآية : 11 {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} قوله تعالى : {إِذْ يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ} مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة ، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله : {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.(7/371)
ولأن بعده {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ} فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يَغْشَاكُمُ النعاسُ} بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله {أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى} [آل عمران : 154] في قراءة من قرأ بالياء أو بالتاء ؛ فأضاف الفعل إلى النعاس أو إلى الأمنة. والأمنة هي النعاس ؛ فأخبر أن النعاس هو الذي يغشى القوم. وقرأ الباقون {يُغَشَّيكُم} بفتح الغين وشد الشين. {النعاسَ} بالنصب على معنى قراءة نافع ، لغتان بمعنى غشى وأغشى ؛ قال الله تعالى : {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} [يس : 9]. وقال : {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم : 54]. وقال : {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} [يونس : 27]. قال مكي : والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس ؛ لأن بعده {أَمَنَةً مِنْهُ} والهاء في {مِنْهُ} لله ، فهو الذي يغشيهم النعاس ، ولأن الأكثر عليه. وقيل : أمنة من العدو و{أَمَنَةً} مفعول من أجله أو مصدر ؛ يقال : أمن أمنة وأمنا وأمانا ؛ كلها سواء. والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف. وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ؛ فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم. وعن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح ؛ ذكره البيهقي. الماوردي : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني : أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم ؛ كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر. وقيل : غشاهم في حال التقاء الصفين. وقد مضى مثل هذا في يوم أحد في "آل عمران". قوله تعالى : {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر. وقال ابن أبي نجيح : كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وبقى المؤمنون لا ماء لهم ، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا(7/372)
كذلك ؛ فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية ؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل : إن هذه الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر ؛ وهو أصح ، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره : قال ابن عباس لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أنه مقبل من الشأم ندب المسلمين إليهم وقال : "هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها" قال : فانبعث معه من خف ؛ وثقل قوم وكرهوا الخروج ، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ، ولا ينتظر من غاب ظهره ، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري. وفي البخاري عن البراء بن عازب قال : كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين ، وكان الأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وخرج أيضا عنه قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، وما جاوز معه إلا مؤمن. وذكر البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري قال : فخرجنا - يعني إلى بدر - فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد ، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا ، فسر بذلك وحمد الله وقال : "عدة أصحاب طالوت " . قال ابن إسحاق : وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر لكم الناس ؛ فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا(7/373)
يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرض لها في أصحابه ؛ ففعل ضمضم. فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم ؛ فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، وقام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة : 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه ؛ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. ثم قال : "أشيروا علي أيها الناس" يريد الأنصار. وذلك أنهم عدد الناس ، وكانوا حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا ، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى أن عليها نصرته إلا بالمدينة ، وأنه ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بغير بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه سعد بن معاذ - وقيل سعد بن عبادة ، ويمكن أنهما تكلما جميعا في ذلك اليوم - فقال : يا رسول الله ، كأنك تريدنا معشر الأنصار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أجل" فقال : إنا قد آمنا بك واتبعناك ، فامض لما أمرك الله ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق قريشا إلى ماء بدر. ومنع قريشا من السبق إليه مطر عظيم أنزله الله عليهم ، ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير. والدهس : الرمل اللين الذي تسوخ فيه الأرجل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فأشار عليه الحباب(7/374)
ابن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال له : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه السلام : "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فقال : يا رسول الله ، إن هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه ، وفعله. ثم التقوا فنصر الله نبيه. والمسلمين ، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين ، وانتقم منهم للمؤمنين ، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم. وفي ذلك يقول حسان : عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب تداولها الرياح وكل جون ... من الوسمي منهمر سكوب فأمسى ربعها خلقا وأمست ... يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم ... ورد حرارة الصدر الكئيب وخبر بالذي لا عيب فيه ... بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع الإله غداة بدر ... لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء ... بدت أركانه جنح الغروب فلاقيناهم منا بجمع ... كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه ... على الأعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات ... وكل مجرب خاظي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها ... بنو النجار في الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا ... وعتبة قد تركنا بالجبوب وشيبة قد تركنا في رجال ... ذوي نسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا كلامي كان حقا ... وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ، ولو نطقوا لقالوا ... أصبت وكنت ذا رأي مصيب(7/375) | |
|