فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 28 فبراير - 22:47 | |
|
________________________________________ فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل. وقال آخرون : أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون. وهذا هو الصحيح من الأقوال ؛ لأن ما صح به النقل فهو الواقع. وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف. وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم. وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة". والحمد لله. وقد ذكرنا هناك كم الشهداء ، وأنهم مختلفو الحال. وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة ؛ فإن قوله تعالى : {بَلْ أَحْيَاءٌ} دليل على حياتهم ، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حّي. وقد قيل : إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ؛ ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة ؛ لأنهم سنوا أمر الجهاد. نظيرة قوله تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً} " [المائدة : 32]. على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة ، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء. وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض. وقد ذكرنا هذا المعنى في "التذكرة" وأن الأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن. الثانية : -إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه ، كالحّي حسا. وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم ؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم ؛ إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة ؛ لحديث جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أدفنوهم بدمائهم" يعني يوم أحد ولم يغسلهم ، رواه البخاري. وروى أبو داود عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علّي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية. وقال سعيد بن المسيب والحسن : يغسلون. قال أحدهما : إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك. قال أبو عمر : ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيدالله بن الحسن العنبري ، وليس (4/270) ________________________________________ ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة ؛ لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره. والعلة في ذلك - والله أعلم - ما جاء في الحديث في دمائهم "أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك" فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك ، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر ، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا. وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد. "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" . قال : وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم. قال أبو عمر : وهذا يشبه الشذوذ ، والقول بترك غسلهم أولى ؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد وغيرهم. وروى أبو داود عن جابر قال : رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو. قال : ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالثة : -وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا ؛ فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم ؛ لحديث جابر قال : كان النبّي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : "أيهما أكثر أخذا للقرآن" ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال : "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام : يصلى عليهم. ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد. الرابعة : -وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه ؛ كما قد صنع بعمر رضي الله عنه. واختلفوا فيمن قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك ؛ فقال أبو حنيفة والثوري : كل من قتل مظلوما لم يغسل ، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد ؛ وهو قول سائر أهل العراق. ورووا من طرق كثير صحاح عن زيد بن صوحان ، وكان قتل يوم الجمل : لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما. وثبت عن عمار بن ياسر أنه قال مثل قول زيد (4/271) ________________________________________ بن صوحان. وقتل عمار بن ياسر بصفين ولم يغسله علّي. وللشافعي قولان : أحدهما - يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب ؛ وهذا قول مالك. قال مالك : لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مقتول غير قتيل المعترك - قتيل الكفار - فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والقول الآخر للشافعّي - لا يغسل قتيل البغاة. وقول مالك أصح ؛ فإن غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونقل الكافة. فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة. وبالله التوفيق. الخامسة : -العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك ، أو حكم سائر الموتى ؛ وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله : أغار العدو - قصمه الله - صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة ، فقتل وأسر ، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله ؛ فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال ؛ غسله وصلى عليه ، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين. ثم سألت شيخنا ربيع بن عبدالرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبّي فقال : إن حكمه حكم القتلى في المعترك. ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علّي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا : غسله وكفنه وصلى عليه ؛ ففعلت. ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في "التبصرة" لأبي الحسن اللخمّي وغيرها. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته ، وكنت دفنته بدمه في ثيابه. السادسة : -هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفا" . قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم ، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد ، والقصاص في هذا (4/272) ________________________________________ كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. روى عبدالله بن أنيس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله العباد - أو قال الناس ، شك همام ، وأومأ بيده إلى الشام - عراة غرلا بهما. قلنا : ما بهم ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة. قال قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا. قال : بالحسنات والسيئات" . أخرجه الحارث بن أبي أسامة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتدرون من المفلس" ؟ . قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثم طرح في النار". وقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه" . وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين" . وقال أحمد بن زهير : سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال : هو صحيح. فإن قيل : فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل ، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم ، ولا يكونون في قبورهم ، فأين يكونون ؟ قلنا : قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" فلعلهم هؤلاء. والله أعلم. ولهذا قال الإمام أبو محمد بن عطية : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم {يُرْزَقُونَ} . وقد أخرج الإمام أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه عن (4/273) ________________________________________ سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائدة في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين" . السابعة : -الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة - والله أعلم - هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به. أو قدر على الأداء فلم يؤده ، أو أدانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه. وأما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه ، إما من جملة الصدقات ، أو من سهم الغارمين ، أو من الفيء الراجع على المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم : " من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله ومن ترك مالا فلورثته" . وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب "التذكرة" والحمد لله. الثامنة : -قوله تعالى : {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم. و"عند" هنا تقتضي غاية القرب ، فهي كـ "لدى" ولذلك لم تصغر فيقال! عنيد ؛ قال سيبويه. فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب." يرزقون" هو الرزق المعروف في العادات. ومن قال : هي حياة الذكر قال : يرزقون الثناء الجميل. والأول الحقيقة. وقد قيل : إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعيمها وسرورها ما يليق بالأرواح ؛ مما ترتزق وتنتعش به. وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها. وهذا قول حسن ، وإن كان فيه نوع من المجاز ، فهو الموافق لما اخترناه. والموفق الإله. و {فَرِحِينَ} نصب في موضع الحال (4/274) ________________________________________ من المضمر في "يرزقون" ويجوز في الكلام "فرحون" على النعت لأحياء. وهو من الفرح بمعنى السرور. والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور. وقرأ ابن السميقع "فارحين" بالألف وهما لغتان ، كالفره والفاره ، والحذر والحاذر ، والطمع والطامع ، والبخل والباخل. قال النحاس : ويجوز في غير القرآن رفعه ، يكون نعتا لأحياء. قوله تعالى : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل ، وإن كان لهم فضل. وأصله من البشرة ؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه. وقال السدي. : يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه ، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريح والربيع وغيرهم : استبشارهم بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم ، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه ؛ فيسرون ويفرحون لهم بذلك. وقيل : إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا ، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليهم ؛ فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك. الآية : 171 {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بجنة من الله. ويقال : بمغفرة من الله. "وفضل" هذا لزيادة البيان. والفضل داخل في النعمة ، وفيه دليل على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل : جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد ؛ روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للشهيد عند الله ست خصال - كذا في الترمذي وابن ماجه "ست" ، (4/275) ________________________________________ وهي في العدد سبع - يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه" قال : هذا حديث حسن صحيح غريب. وهذا تفسير للنعمة والفضل. والآثار في هذا المعنى كثيرة. وروي عن مجاهد أنه قال : السيوف مفاتيح الجنة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحدأ من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت ، والثاني أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا ، والثالث أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم ، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سموا أمواتا وإذا مت يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى ، والخامس أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون" . قوله تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ} قرأه الكسائي بكسر الألف ، والباقون بالنصب ؛ فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. ومن قرأ بالكسر فعلى الابتداء. ودليله قراءة ابن مسعود {وَاللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} . الآية : 172 {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (4/276) ________________________________________ قوله : {الَّذِينَ} في موضع رفع على الابتداء ، وخبره {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} . ويجوز أن يكون في موضع خفض ، بدل من المؤمنين ، أو من {الذين لم يلحقوا} . {اسْتَجَابُوا} بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان. ومنه قوله : فلم يستجبه عند ذاك مجيب وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير قال : قالت لي عائشة رضي الله عنها : كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. لفظ مسلم. وعنه عائشة : يا ابن أختي كان أبواك - تعني الزبير وأبا بكر - من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقالت : لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال : "من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة" قال فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين ؛ فخرجوا في آثار القوم ، فسمعوا بهم وانصرفوا بنعمة من الله وفضل. وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد ، وهي على نحو ثمانية أميال من المدينة ؛ وذلك أنه لما كان في يوم الأحد ، وهو الثاني من يوم أحد ، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بإتباع المشركين ، وقال : "لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس" فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين. في البخاري فقال : "من يذهب في إثرهم" فانتدب منهم سبعون رجلا. قال : كان فيهم أبو بكر والزبير على ما تقّدم ، حتى بلغ حمراء الأسد ، مرهبا للعدو ؛ فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا ، فربما يحمل على الأعناق ؛ وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد. وقيل : إن الآية نزلت في رجلين من بني عبدالأشهل كانا مثخنين بالجراح ؛ يتوكأ أحدهما على صاحبه ، وخرجا مع النبّي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما وصلوا حمراء الأسد ، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم ، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا إلى المدينة (4/277) ________________________________________ فيستأصلوا أهلها ؛ فقالوا ما أخبرنا الله عنهم : {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعّي ، وكانت خزاعة حلفاء النبّي صلى الله عليه وسلم وعيبة نصحه ، وكان قد رأى حال أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم وما هم عليه ؛ ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك ، وخالص نصحه للنبّي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم : قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم ، قد اجتمع له من كان تخلف عنه ، وهم قد تحرقوا عليكم ؛ فالنجاء النجاء! فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال : وما قلت ؟ قال : قلت : كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمت البطحاء بالخيل إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين ، ورجع النبّي صلى الله عليه وسلم في أصحابه إلى المدينة منصورا ؛ كما قال الله تعالى : {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران : 174] أي قتال ورعب. واستأذن (4/278) ________________________________________ جابر بن عبدالله إلى النبّي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له. وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها غزوة" . هذا تفسير الجمهور لهذه الآية. وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا : إن هذه الآية من قوله : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} إلى قوله : {عظيم} [آل عمران : 173 - 174] إنما نزلت في خروج النبّي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى. وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد ، إذ قال : موعدنا بدر من العام المقبل. فقال النبّي صلى الله عليه وسلم : "قولوا نعم" فخرج النبّي صلى الله عليه وسلم قبل بدر ، وكان بها سوق عظيم ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم ؛ وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعّي ، فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها ، فأشفق المسلمون من ذلك ، لكنهم قالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل" فصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا أحدا ، ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة ، وانقلبوا ولم يلقوا كيدا ، وربحوا في تجارتهم ؛ فلذلك قوله تعالى : {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} أي وفضل في تلك التجارات. والله أعلم. الآية : 173 {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} اختلف في قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} فقال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبّي : هو نعيم بن مسعود الأشجعّي. واللفظ عام ومعناه خاص ؛ كقوله : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء : 54] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. السدي : هو أعرابي جعل له جعل على ذلك. وقال ابن إسحاق وجماعة : يريد الناس ركب عبد القيس ، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم. وقيل : الناس هنا المنافقون. قال السدي : لما تجهز النبّي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا : نحن أصحابكم الذين (4/279) ________________________________________ نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا ، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا ؛ فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد. فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقال أبو معشر : دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة ، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا : "قد جمعوا لكم" جموعا كثيرة "فاخشوهم" أي فخافوهم واحذروهم ؛ فإنه لا طاقة لكم بهم. فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع. والله أعلم. قوله تعالى : {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي فزادهم قول الناس إيمانا ، أي تصديقا ويقينا في دينهم ، وإقامة على نصرتهم ، وقوة وجراءة واستعدادا. فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال. والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاج واحد ، وتصديق واحد بشيء مّا ، إنما هو معنى فرد ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ؛ فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه ، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أخرجه الترمذي ، وزاد مسلم "والحياء شعبة من الإيمان" وفي حديث علّي رضي الله عنه : إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب ، كلما أزداد الإيمان ازدادت اللمظة. وقوله "لمظة" قال الأصمعّي : اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض ؛ ومنه قيل : فرس ألمظ ، إذا كان بجحفلته شيء من بياض. والمحدثون يقولون "لمظة" بالفتح. وأما كلام العرب فبالضم ؛ مثل شبهة ودهمة وخمرة. وفيه حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص. ألا تراه يقول : كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله. وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق أسود القلب حتى يسود القلب كله. ومنهم من قال : إن الإيمان عرض ، وهو لا يثبت زمانين ؛ فهو للنبّي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب ، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره. (4/280) ________________________________________ وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن. أشار إلى هذا أبو المعالي. وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة ، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفيه : " فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه" وذكر الحديث. وقد قيل : إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمال القلوب ؛ كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك. وسّماها إيمانا لكونها في محل الإيمان أو عني بالإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب. دليل هذا التأويل قول الشافعي بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير : "لم نذر فيها خيرا" مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله ، وهم مؤمنون قطعا ؛ ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم. ثم إن عدم الوجود الأول الذي يركب عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان. وقدر ذلك في الحركة. فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه ؛ فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص ، أي زالت الزيادة. وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هو طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد فيقال في ذلك : إنها زيادة في الإيمان ؛ وبهذا المعنى - على أحد الأقوال - فضل الأنبياء على الخلق ، فإنهم علموه من وجوه كثيرة ، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها. وهذا القول خارج عن مقتضى الآية ؛ إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة. وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدة النبّي صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر. (4/281) ________________________________________ وهذا إنما هو زيادة إيمان ؛ فالقول فيه إن الإيمان يزيد قول مجازي ، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحّد ، وإنما يتصور بالإضافة إلى من علم. فاعلم. قوله تعالى : {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي كافينا الله. وحسب مأخوذ من الإحساب ، وهو الكفاية. قال الشاعر : فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} - إلى قوله : - {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} " قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم. الآية : 174 {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قال علماؤنا : لما فوضوا أمورهم إليه ، واعتمدوا بقلوبهم عليه ، أعطاهم من الجزاء أربعة معان : النعمة ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع الرضا. فرضاهم عنه ، ورضي عنهم. الآية : 175 {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس وغيره : المعنى يخوفكم أولياءه ؛ أي بأوليائه ، أو من أوليائه ؛ فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب. كما قال تعالى : {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف : 2] أي لينذركم ببأس شديد ؛ أي يخوف المؤمن بالكافر. وقال الحسن والسدي : المعنى يخوف أولياءه المنافقين ؛ ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم. وقد (4/282) ________________________________________ قيل : إن المراد هذا الذي يخوفكم بجمع الكفار شيطان من شياطين الإنس ؛ إما نعيم بن مسعود أو غيره ، على الخلاف في ذلك كما تقّدم. {فَلا تَخَافُوهُمْ} أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله : {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} . أو يرجع إلى الأولياء إن قلت : إن المعنى يخوف بأوليائه أي يخوفكم أولياءه. قوله تعالى : {وَخَافُونِ} أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. وخاوفني فلان فخفته ، أي كنت أشد خوفا منه. والخوفاء المفازة لا ماء بها. ويقال : ناقة خوفاء وهي الجرباء. والخافة كالخريطة من الأدم يشتار فيها العسل. قال سهل بن عبدالله : اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا : ما الخوف ؟ فقال : لا تأمن حتى تبلغ المأمن. قال سهل : وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير يغشى عليه ؛ فقيل لعلّي بن أبي طالب ذلك ؛ فقال : إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه ، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال : أشهد أن هذا أخوف أهل زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة ؛ ولهذا قيل : ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه ، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال : {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال : {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . ومدح المؤمنين بالخوف فقال : {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل : 50]. ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا. قال الأستاذ أبو علّي الدقاق : دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدا ، فلما رأني دمعت عيناه ، فقلت له : إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي : أترى أني أخاف من الموت ؟ إنما أخاف مما وراء الموت. وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذر قال (4/283) ________________________________________ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد" . خّرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال : "لوددت أني كنت شجرة تعضد". والله أعلم. الآية : 176 {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قوله تعالى : {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين ؛ فاغتم النبّي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} . وقال الكلبّي : يعني به المنافقين ورؤساء اليهود ؛ كتموا صفة النبّي صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزلت. ويقال : إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل كتاب ؛ فلو كان قوله حقا لاتبعوه ، فنزلت {وَلا يَحْزُنْكَ} . قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلا في - الأنبياء – {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} فإنه بفتح الياء وبضم الزاي. وضده أبو جعفر. وقرأ ابن محيض كلها بضم الياء وكسر الزاي. والباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي. (4/284) ________________________________________ وهما لغتان : حزنني الأمر يحزنني ، وأحزنني أيضا وهي لغة قليلة ؛ والأولى أفصح اللغتين ؛ قاله النحاس. وقال الشاعر في أحزن : مضى صحبي وأحزنني الديار وقراءة العامة "يسارعون". وقرأ طلحة "يسرعون في الكفر". قال الضحاك : هم كفار قريش. وقال غيره : هم المنافقون. وقيل : هو ما ذكرناه قبل. وقيل : هو عام في جميع الكفار. ومسارعتهم في الكفر المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال القشيري : والحزن على كفر الكافر طاعة ؛ ولكن النبّي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه ، فنهي عن ذلك ؛ كما قال : {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8] وقال : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف : 6]. قوله تعالى : {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا ؛ يعني لا ينقص بكفرهم. وكما روي عن أبي ذر عن النبّي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" . خرجه مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما ، وهو حديث عظيم فيه طول (4/285) ________________________________________ يكتب كله. وقيل : معنى {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} أي لن يضروا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله عز وجل ناصرهم. قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي نصيبا. والحظ النصيب والجد. يقال : فلان أحظ من فلان ، وهو محظوظ. وجمع الحظ أحاظ على غير قياس. قال أبو زيد : يقال رجل حظيظ ، أي جديد إذا كان ذا حظ من الرزق. وحظظت في الأمر أحظ. وربما جمع الحظ أحظا. أي لا يجعل لهم نصيبا في الجنة. وهو نص في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى. الآية : 177 {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ} تقدم في البقرة. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} كرر للتأكيد. وقيل : أي من سوء تدبيره استبدال الإيمان بالكفر وبيعه به ؛ فلا يخاف جانبه ولا تدبير. وانتصب "شيئا" في الموضعين لوقوعه موقع المصدر ؛ كأنه قال : لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا. ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء ؛ كأنه قال : لن يضروا الله بشيء. الآية : 178 {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} قوله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} الإملاء طول العمر ورغد العيش. والمعنى : لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين ؛ فإن الله قادر (4/286) ________________________________________ على إهلاكهم ، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي ، لا لأنه خير لهم. ويقال : "أنما نملي لهم" بما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم ؛ وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة. وروي عن ابن مسعود أنه قال : ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له ؛ لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى : {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران : 198] وإن كان فاجرا فقد قال الله : {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وقرأ ابن عامر وعاصم "لا يحسبن" بالياء ونصب السين. وقرأ حمزة : بالتاء ونصب السين. والباقون : بالياء وكسر السين. فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون. أي فلا يحسبن الكفار. و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} تسد مسد المفعولين. و"ما" بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، و"خير" خبر "أن". ويجوز أن تقدر "ما" والفعل مصدرا ؛ والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفعل هو المخاطب ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. و"الذين" نصب على المفعول الأول لتحسب. وأن وما بعدها بدل من الذين ، وهي تسد مسد المفعولين ، كما تسد لو لم تكن بدلا. ولا يصلح أن تكون "أن" وما بعدها مفعولا ثانيا لتحسب ؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى ؛ لأن حسب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر ؛ فيكون التقدير ؛ ولا تحسبن أنما نملي لهم خير. هذا قول الزجاج. وقال أبو علّي : لو صح هذا لقال "خيرا" بالنصب ؛ لأن "أن" تصير بدلا من "الذين كفروا" ؛ فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا ؛ فقوله "خيرا" هو المفعول الثاني لحسب. فإذا لا يجوز أن يقرأ "لا تحسبن" بالتاء إلا أن تكسر "إن في "أنما" وتنصب خيرا ، ولم يرو ذلك عن حمزة ، والقراءة عن حمزة بالتاء ؛ فلا تصح هذه القراءة إذا. وقال الفراء والكسائي : قراءة حمزة جائزة على التكرير ؛ تقديره ولا تحسبن الذي كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم خيرا ، فسدت "أن" مسد المفعولين لتحسب الثاني ، وهي وما عملت مفعول ثان لتحسب الأول. قال القشيري : وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل ، والقراءة صحيحة. فإذا غرض أبي علّي تغليط الزجاج. قال النحاس : وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا ، وقوله : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران : 180] لحن لا يجوز. وتبعه على ذلك جماعة. (4/287)
| |
|