فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 19 يوليو - 14:30 | |
| المجلد الأول
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" . وقال الترمذي في هذا الحديث : ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : " يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" أبو هريرة اسمه عبد لله وقيل : عبد الرحمن وقال : كنيت أبا هريرة لأني حملت هرة في كمي فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما هذه قلت هرة فقال : يا أبا هريرة" قال ابن عبد البر وهذا الحديث فيمن لم يرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" . وخرج ابن المبارك في رقائقه عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه فقال هل ترون في أولئكم من خير قالوا لا قال أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار" .وروي أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها" . قال الترمذي : حديث(1/18) حسن وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن ؟ قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم مائة مرة قيل يا رسول الله ومن يدخله قال القراء المراءون بأعمالهم" . قال هذا حديث غريب وفي كتاب أسد بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم وذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب وإن في الجب لحية وإن جهنم والوادي والجب ليتعوذون بالله من شر تلك الحية سبع مرات أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن الذين يعصون الله" . فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره روى الترمذي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الله في بعض الكتب _ أو أوحى _ إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران" . وخرج الطبري في كتاب ((آداب النفوس)) حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا المحاربي عن عمرو بن عامر البجلي عن ابن صدقة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من حدثه قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : " لاتخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر" قالوا يا رسول الله وكيف يخادع الله قال : " تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره واتقوا الرياء فإنه الشرك وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رءوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها يا كافر يا خاسر ياغادر يا فاجر ضل عملك وبطل(1/19) أجرك فلا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع". وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم الكبير وتتخذ سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وقال سفيان بن عيينة بلغنا عن ابن عباس أنه قال : ((لو أن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس)) وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قال : قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى. باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل كما ذكرنا وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره في الصلاة أو في غير الصلاة لئلا ينساه روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه" . وينبغي له أن يكون لله حامدا ولنعمه شاكرا وله ذاكرا وعليه متوكلا وبه مستعينا وإليه راغبا وبه معتصما وللموت ذاكرا وله مستعدا وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه راجيا عفو ربه ويكون الخوف في صحته أغلب عليه إذ لا يعلم بما يختم له ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه لحسن الظن بالله قال رسول الله صلى عليه وسلم : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن". أي أنه يرحمه ويغفر له. وينبغي له أن يكون عالما بأهل زمانه متحفظا من سلطانه ساعيا في خلاص نفسه ونجاة مهجته مقدما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده الورع في دينه واستعمال تقوى الله ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه.(1/20) وقال ابن مسعود : ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مستيقظون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخضوعه إذا الناس يختالون وبحزنه إذا الناس يفرحون. وقال عبدالله بن عمرو : لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض ولا يجهل مع من يجهل ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن لأن في جوفه كلام الله تعالى وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه ويأخذ نفسه بالحلم والوقار وينبغي له أن يتواضع للفقراء ويتجنب التكبر والإعجاب ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة ويترك الجدال والمراء ويأخذ نفسه بالرفق والأدب وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره ويرجى خيره ويسلم من ضره وألا يسمع ممن نم عنده ويصاحب من يعاونه على الخير ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق ويزينه ولا يشينه وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو فكيف يعمل بما لا يفهم معناه ؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلو ولا يدريه فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا وينبغي لهو أن يعرف المكي من المدني ليفرق بذلك بين ماخاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام وما افترض الله في أول الإسلام وما زاد عليه من الفرائض في آخره فالمدني هو محمود للمكي في أكثر القرآن ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل محمود له ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ ويزيل عنه الشك فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبري سمعت الجرمي يقول : أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه قال محمد بن يزيد وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (1/21) فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا وقد قال الضحاك في قوله تعالى : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} قال : حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها. وذكر ابن أبي الحواري قال : أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول فقال بعض القوم إن كان خارجا لشيء فسيخرج لتلاوة القرآن فأمرنا قارئا فقرأ فاطلع علينا من كوة ؛ فقلنا : السلام عليك ورحمة الله ؛ فقال وعليكم السلام ؛ فقلنا كيف أنت يا أبا علي وكيف حالك ؟ فقال : أنا من الله في عافية ومنكم في أذى وإن ما أنتم فيه حدث في الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كنا نطلب العلم ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم فنجلس فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه وأنتم تطلبون العلم بالجهل وقد ضيعتم كتاب الله ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون قال قلنا قد تعلمنا القرآن قال إن في تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم قلنا كيف يا أبا علي قال لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة ثم قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . قلت : فإذا حصلت هذه المراتب لقاريء القرآن كان ماهرا بالقرآن وعالما بالفرقان وهو قريب على من قربه عليه ولا ينتفع بشيء مما ذكرنا حتى يخلص النية فيه لله جل ذكره عند طلبه أو بعد طلبه كما تقدم فقد يبتديء الطالب للعلم يريد به المباهاة والشرف في الدنيا فلا يزال به فهم العلم حتى يتبين أنه على خطأ في اعتقاده فيتوب من ذلك ويخلص النية لله تعالى فينتفع بذلك ويحسن حاله. قال الحسن : كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وقاله سفيان الثوري وقال حبيب بن أبي ثابت : طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد .(1/22) باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه ، وثواب من قرأ القرآن مُعْربا قال أبو بكر بن الأنباري : جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - من تفضيل إعراب القرآن والحض على تعليمه وذم اللحن وكراهيته - ما وجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه. من ذلك ما حدثنا يحيى بن سليمان الضبي قال حدثنا محمد : - يعني ابن سعيد - قال حدثنا أبو معاوية عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" . حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم بن الهيثم قال حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس قال حدنا أبو الطيب المرزوي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة فإن أعربه وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة" وروى جويبر عن الضحاك قال قال عبدالله بن مسعود : جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به. وعن مجاهد عن ابن عمر قال : أعربوا القرآن. وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه. وعن الشعبي قال قال عمر رحمه الله : من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر شهيد. وقال مكحول : بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي" . وروى سفيان عن أبي حمزة قال : قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية قال أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقيل للحسن : إن لنا إماما يلحن قال : أخروه.(1/23) وعن ابن أبي ملكية قال : قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : من يقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال : فأقرأه رجل براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله بالجر فقال الأعرابي أو قد برئ الله من رسوله فإن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله فقلت أو قد بريء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابي قال فكيف هي يا أمير المؤمنين قال {إن الله بريء من المشرِكين ورسولُه} فقال الأعرابي وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقريء الناس إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو. وعن علي بن الجعد قال سمعت شعبة يقول : مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها وقال حماد بن سلمة من طلب الحديث ولم يتعلم النحو - أو قال العربية - فهو كمثل الحمار تعلق عليه مخلاة ليس فيها شعير قال ابن عطية : إعراب القرآن أصل في الشريعة لأن بذلك تقوم معانيه التي هي في الشرع . قال ابن الأنباري : وجاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك وأوضح فساد مذهب من أنكر ذلك عليهم من ذلك ما حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز قال حدثنا ابن أبي مريم قال أنبأنا ابن فروخ قال أخبرني أسامة قال أخبرني عكرمة ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب وحدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت سعيد بن جبير ويوسف بن مهران يقولان : سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء بالقرآن فيقول فيه هكذا وهكذا أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا وعن عكرمة(1/24) عن ابن عباس وسأله رجل عن قول الله جلّ وعزّ : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال : لا تلبس ثيابك على غدر ؛ وتمثل بقول غيلان الثقفيّ : فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من سوءة أتقنع وسال رجل عكرمة عن الزنيم قال : هو ولد الزنى ؛ وتمثل ببيت شعر : زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم وعنه أيضا الزنيم : الدعي الفاحش اللئيم ثم قال : زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعنه في قوله تعالى : {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} قال : ذواتا ظل وأغصان الم تسمع إلى قول الشاعر : ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طائرا ... ذا مخلبين من الصقور قطاما وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال : الأرض قاله ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت : (عندهم لحم بحر ولحم ساهرة) قال ابن الأنباري والرواة يروون هذا البيت : وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم وقال نافع بن الأزرق لابن عباس : أخبرني عن قول الله جل وعز : {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ما السنة ؟ قال : النعاس ؛ قال زهير بن أبي سلمى : لا سنة في طوال الليل تأخذه ... ولا ينام ولا في أمره فند(1/25) باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم فقال له رجل : جعلت فداءك! تصف جابرا بالعلم وأنت أنت! فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . وقال مجاهد : أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن : والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعني بها. وقال الشعبي : رحل المسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة : في قوله عز وجل : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} طلبت اسم هذا الرجل الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله أربع عشرة سنة حتى وجدته. وقال ابن عبد البر : هو ضمرة بن حبيب وسيأتي. وقال ابن عباس : مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته فسألته فقال هي حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب. باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو وفيمن عاداه قال أبو عمر : روى من وجوه فيها لين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة الإمام المقسط وذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه" وقال أبو عمر : وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه والعاملون بما فيه وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القرآن أفضل من كل شيء فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله تعالى حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله الملبسون نور الله فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى" .(1/26) باب ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في (نوادر الأصول) : فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلا طاهرا ومن حرمته أن يقرأه وهو على طهارة ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فيطيب فاه إذ هو طريقه. قال يزيد بن أبي مالك : إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم ومن حرمته أن يتلبس كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج ومن حرمته أن يستقبل القبلة لقراءته. -وكان أبو العالية إذا قرأ اعتم ولبس وارتدى واستقبل القبلة- ومن حرمته أن يتمضمض كلما تنخع. روى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس : أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر وكان كلما تنخع مضمض ومن حرمته إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان. قال مجاهد : إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيما حتى يذهب تثاؤبك. وقاله عكرمة. يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقرآن ومن حرمته أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إن كان ابتدأ قراءته من أول السورة أو من حيث بلغ ومن حرمته إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة ومن حرمته أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء ومن حرمته أن يقرأه على تؤدة وترسيل وترتيل ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها ومن حرمته أن يلتمس غرائبه ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما فإن له بكل حرف عشر حسنات ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ويشهد بالبلاغ(1/27) لرسوله صلى الله عليه وسلم ويشهد على ذلك أنه حق فيقول : صدقت ربنا وبلغت رسلك ونحن على ذلك من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ثم يدعو بدعوات ومن حرمته إذا قرأه ألا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأها فإنه روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه مر ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا فأمره أن يقرأ السورة كلها" أو كما قال عليه السلام. ومن حرمته إذا وضع المصحف ألا يتركه منشورا وألا يضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا لسائر الكتب علما كان أو غيره. ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض. ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته إذا غسله بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع والمواقع التي توطأ فإن لتلك الغسالة حرمة وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته. ومن حرمته ألا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب فإن ذلك جفاء عظيم ولكن يمحوها بالماء. ومن حرمته ألا يخلى يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة وكان أبو موسى يقول : إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة. ومن حرمته أن يعطي عينيه حظهما منه فإن العين تؤدي إلى النفس وبين النفس والصدر حجاب والقرآن في الصدر فإذا قرأه عن ظهر قلب فإنما يسمع أذنه فتؤدي إلى النفس فإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء وكان قد أخذت العين حظها كالأذن. روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا : يا رسول الله وما حظها من العبادة ؟ قال النظر في المصحف والتفكير فيه والاعتبار عند عجائبه" . وروى مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظرا" . ومن حرمته ألا يتأوله عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا حدثنا عمرو بن زياد الحنظلي قال حدثنا هشيم بن بشير عن المغيرة عن إبراهيم قال : كان يكره أن يتأول شيء من القرآن عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا والتأويل مثل قولك للرجل إذا جاءك جئت على قدر(1/28) يا موسى ؛ ومثل قوله تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} هذا عند حضور الطعام وأشباه هذا. ومن حرمته ألا يقال : سورة كذا ؛ كقولك : سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء ولكن يقال : السورة التي يذكر فيها كذا. قلت : هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم : " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه" خرجه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود. - ومن حرمته ألا يتلى منكوسا كفعل معلمي الصبيان يلتمس أحدهم بذلك أن يرى الحذق من نفسه والمهارة فإن تلك مخالفة. ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه. ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق ولا بترجيع النصارى ولا نوح الرهبانية فإن ذلك كله زيغ وقد تقدم. ومن حرمته أن يجلل تخطيطه إذا خطه. وعن أبي حكيمة أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة فمر علي رضي الله عنه فنظر إلى كتابته فقال له : أجل قلمك ؛ فأخذت القلم فقططته من طرفه قطا ثم كتبت وعلي رضي الله عنه قائم ينظر إلى كتابتي ؛ فقال هكذا نوره كما نوره الله عز وجل. ومن حرمته ألا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة. ومن حرمته ألا يماري ولا يجادل فيه في القراءات ولا يقول لصاحبه : ليس هكذا هو ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن فيكون قد جحد كتاب الله. ومن حرمته ألا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم {إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} هذا لمروره بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء. ومن حرمته ألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله. ومن حرمته ألا يصغر المصحف ؛ روى الأعمش عن إبراهيم عن علي رضي الله عنه قال : لا يصغر المصحف. قلت : وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال : من كتبه ؟ قال أ نا فضربه بالدرة وقال : عظموا القرآن وروي عن رسول(1/29) الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال : مسيجد أو مصيحف. ومن حرمته ألا يخلط فيه ما ليس منه. ومن حرمته ألا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنيا ؛ وروى مغيرة عن إبراهيم : أنه كان يكره أن يحلى المصحف أو يكتب بالذهب أو يعلم عند رءوس الآي أو يصغر. وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" . وقال ابن عباس وقد رأى مصحفا زين بفضة : تغرون به السارق وزينته في جوفه. ومن حرمته ألا يكتب على الأرض ولا على حائط كما يفعل به في المساجد المحدثة. حدثنا محمد بن علي الشقيقي عن أبيه عن عبدالله بن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال : سمعت عمر بن عبدالعزيز يحدث قال مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في أرض فقال لشاب من هذيل : "ماهذا قال من كتاب الله كتبه يهودي فقال لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه" . قال محمد بن الزبير : رأى عمر بن عبدالعزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه. ومن حرمته أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس أو يحفر حفيرة في موضع طاهر حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يكبسها أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حرمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات لئلا يكون في هيئة المهجور ؛ وروى ابن عباس قال جاء رجل فقال : "يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال عليك بالحال المرتحل قال وما الحال المرتحل ؟ قال صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ثم يضرب في أوله كلما حل ارتحل" . قلت : ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله ذكر أبو بكر الأنباري أنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا وكيع عن مسعر عن قتادة أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع(1/30) أهله ودعا . وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا جرير عن منصور عن الحكم قال كان مجاهد وعبدة بن أبي لبابة وقوم يعرضون المصاحف فإذا أرادوا أن يختموا وجهوا إلينا أحضرونا فإن الرحمة تنزل عند ختم القرآن. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال : من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يسمى ومن ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح قال فكانوا يستحبون أن يختموا أول الليل وأول النهار. ومن حرمته ألا يكتب التعاويذ منه ثم يدخل به في الخلاء إلا أن يكون في غلاف من أدم أو فضة أو غيره فيكون كأنه في صدرك. ومن حرمته إذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وعظم النية فيه فإن الله يؤتيه على قدر نيته روى ليث عن مجاهد قال : لا بأس أن تكتب القرآن ثم تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال من وجد في قلبه قساوة فليكتب يس في جام بزعفران ثم يشربه . قلت : ومن حرمته ألا يقال : سورة صغيرة. وكره أبو العالية أن يقال : سورة صغيرة أو كبيرة ؛ وقال لمن سمعه قالها أنت أصغر منها ؛ وأما القرآن فكله عظيم ؛ ذكره مكي رحمه الله. قلت : وقد روي أبو داود ما يعارض هذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة . باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي ، والجرأة على ذلك ، ومراتب المفسرين روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علمه إياهن جبريل. قال ابن عطية : ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقري من ألفاظه كعدد(1/31) النفخات في الصور وكرتبة خلق السموات والأرض. روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" . وروي أيضا عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " قال هذا حديث غريب وأخرجه أبو داود وتكلم في أحد رواته . وزاد رزين ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد فسر حديث ابن عباس تفسيرين : أحدهما- من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله . والجواب الآخر- وهو أثبت القولين وأصحهما معنى - : من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. ومعنى يتبوأ ينزل ويحل ؛ قال الشاعر : وبوئت في صميم معشرها ... فتم في قومها مبوؤها وقال في حديث جندب : فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى من قال في القرآن قولا يوافق هواه لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه. وقال ابن عطية : ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول ؛ وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر ؛ فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه .(1/32) قلت : هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطيء وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح . وقال بعض العلماء : إن التفسير موقوف على السماع لقوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وهذا فاسد ؛ لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط أو المراد به أمر آخر وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال : " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " . فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك! وهذا بيّن لا إشكال فيه وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى. وإنما النهي يحمل على أحد وجهين : أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل في طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه ؛ وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتمله فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسره برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . ويشير إلى قلبه ويوميء إلى أنه المراد بفرعون ؛ وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة ، وذلك غير جائز. وقد تستعمله(1/33) الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة ، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون مرادة فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي. الوجه الثاني- أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ؛ فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة القرآن بالرأي والنقل والسماع لابد له منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ألا ترى أن قوله تعالى : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} . معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولا يدري بماذا ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم فهذا من الحذف والإضمار ؛ وأمثال هذا في القرآن كثير وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه والله أعلم. قال ابن عطية : وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبني على مذهبه ويقتفي طريقه فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطيء فيه ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي ملكية قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال : "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى ".(1/34) قال ابن عطية : وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمّله وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي. وقال ابن عباس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب. وكان علي رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه وكان ابن عباس يقول نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عباس وقال عنه على رضي الله عنه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ويتلوه عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمرو بن العاص وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم وعن عامر بن واثلة قال شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته : سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ وذكر الحديث وعن المنهال بن عمرو قال قال عبدالله بن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطي لأتيته فقال له رجل : أما لقيت علي بن أبي طالب ؟ فقال : بلى ، قد لقيته. وعن مسروق قال : وجدت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد والإخاذ يروي الاثنين والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم وإن عبدالله بن مسعود من تلك الآخاذ. ذكر هذه المناقب أبو بكر الأنباري في كتاب الرد وقال الإخاذ عند العرب : الموضع الذي يحبس الماء كالغدير قال أبو بكر : حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا سلام عن(1/35) زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وأبو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء - أو قال البطحاء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر" . قال ابن عطية : ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس وإنما أخذ عن ابن جبير. وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر . قلت : وقال يحيى بن معين : الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح : كل ما حدثتك كذب وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسميه الدروغ زن : يعني أبا صالح مولى أم هانىء والدروغ زن هو الكتاب بلغة الفرس ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف كما قال صلى الله عليه وسلم : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" . خرجه أبو عمرو وغيره قال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي البغدادي وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف والانتحال للباطل ورد تأويل الأبله الجاهل وأنه يجب الرجوع إليهم والمعول في أمر الدين عليهم رضي الله عنهم.(1/36) قال ابن عطية : وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة والبخاري وغيرهم ثم إن محمد بن جرير رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير وقرب البعيد منها وشفي في الإسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو العباس المهدوي متقن التأليف وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله ونضر وجوههم. باب تبيين الكتاب بالسنة ، وما جاء في ذلك قال الله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفرض طاعته في غير آية من كتابه وقرنها بطاعته عز وجل وقال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} . ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهى المحرم فقال ايتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي قال فقرأ عليه {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وعن هشام بن حجير قال : كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر فقال ابن عباس : اتركهما ؛ فقال إنما نهي عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس : قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر لأن الله تعالى قال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه(1/37) ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه". قال الخطابي : قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من التأويل : أحدهما- أن معناه أنه أوتي من الوحي غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو. والثاني- أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن وقوله يوشك رجل شبعان الحديث يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد تضمنت بيان الكتاب قال فتحيروا وضلوا قال والأريكة السرير ويقال : إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة قال : وإنما أراد بالأريكة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لم يطلبوا العلم من مظانه وقوله إلا أن يستغنى عنها صاحبها معناه أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها كقوله : {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} معناه تركهم الله استغناء عنهم. وقوله : فله أن يعقبهم بمثل قراه هذا هو حال المضطر الذي لا يجد طعاما ويخاف التلف على نفسه فله أن يأخذ من ما لهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه ويعقبهم يروى مشددا ومخففا من المعاقبة ومنه قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي فكانت الغلبة لكم فغنمتم م | |
|