فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الإثنين 14 فبراير - 15:12 | |
|
________________________________________ قال هشام : أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين ؛ ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول. وقال المازني : الألف واللام مثلها في الرجل. وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله : {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة : 130]. الآية : 86 {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس : إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ؛ فأرسل إلى قومه : سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل له من توبة ؟ فنزلت {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله : {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران : 89]0 فأرسل إليه فأسلم. أخرجه النسائي. وفي رواية : أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، فأنزل الله {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} إلى قوله : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [آل عمران : 89] فبعث بها قومه إليه ، فلما قرئت عليه قال : والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله ، والله عز وجل أصدق الثلاثة ؛ فرجع تائبا ، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال الحسن : نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون على الذين كفروا ؛ فلما بعث عاندوا وكفروا ، فأنزل الله عز وجل : {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران : 87]. ثم قيل : "كيف" لفظة استفهام ومعناه الجحد ، أي لا يهدي الله. ونظيره قوله : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} [التوبة : 7] أي لا يكون لهم عهد ؛ وقال الشاعر : كيف نومي على الفراش ولما ... يشمل القوم غارة شعواء أي لا نوم لي. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يقال : ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما ، لا يهديه الله ؛ وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا (4/129) ________________________________________ وهداهم الله ، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم. قيل له : معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ؛ فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله تعالى أعلم. الآية : 87 {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الآية : 88 : - {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} الآية : 89 : - {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إن داموا على كفرهم. وقد تقدم معنى لعنة الله والناس في "البقرة" فلا معنى لإعادته. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يؤخرون ولا يؤجلون ، ثم استثنى التائبين فقال : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} هو الحارث بن سويد كما تقدم. ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص. الآية : 90 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته "ثم ازدادوا كفرا" بإقامتهم على كفرهم. وقيل : "ازدادوا كفرا" بالذنوب التي اكتسبوها. وهذا اختيار الطبري ، وهي عنده في اليهود. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مشكل لقوله : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى : 25] فقيل : المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس : وهذا قول حسن ؛ كما قال عز وجل : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء : 18]. وروي عن الحسن وقتادة وعطاء. وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله (4/130) ________________________________________ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" . وسيأتي في "النساء" بيان هذا المعنى. وقيل : {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ؛ لأن الكفر قد أحبطها. وقيل : {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ؛ وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام. وقال قطرب : هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا. فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر ؛ فسماها توبة غير مقبولة ؛ لأنه لم يصح من القوم عزم ، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم. الآية : 91 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الملء "بالكسر" مقدار ما يملأ الشيء ، والملء "بالفتح" مصدر ملأت الشيء ؛ ويقال : أعطني مِلأَه ومِلأيه وثلاثة أملائه. والواو في "لو افتدى به" قيل : هي مقحمة زائدة ؛ المعنى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به. وقال أهل النظر من النحويين : لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى. ومعنى الآية : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به. و"ذهبا" نصب على التفسير في قول الفراء. قال المفضل : شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم ؛ كقولك عندي عشرون ؛ فالعدد معلوم والمعدود مبهم ؛ فإذا قلت درهما فسرت. وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه ، وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه. وقال الكسائي : نصب على إضمار من ، أي من ذهب ؛ كقوله : {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة : 95] أي من صيام. وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجاء بالكافر (4/131) ________________________________________ يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك" . لفظ البخاري. وقال مسلم بدل "قد كنت ؛ كذبت ، قد سئلت". الآية : 92 {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فيه مسألتان : - الأولى : -روى الأئمة واللفظ للنسائي عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة : إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعلها في قرابتك في حسان بن ثابت وأبي بن كعب" . وفي الموطأ "وكانت أحب أمواله إليه بئر حاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". وذكر الحديث. ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه ؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك. ألا ترى أبا طلحة حين سمع {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا} الآية ، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة. وكذلك فعل زيد بن حارثة ، عمد مما يحب إلى فرس يقال له "سَبَل" وقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه ؛ فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا في سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد "اقبضه" . فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قد قبلها منك" . ذكره أسد بن موسى. وأعتق ابن عمر نافعا مولاه ، وكان أعطاه فيه عبدالله بن جعفر ألف دينار. قالت صفية بنت أبي عبيدة : أظنه تأول قول الله عز وجل : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وروى شبل عن أبي نجيح (4/132) ________________________________________ عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى ؛ فقال سعد بن أبي وقاص : فدعا بها عمر فأعجبته ، فقال إن الله عز وجل يقول : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها عمر رضي الله عنه. وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خيثم قالت : كان إذا جاءه السائل يقول لي : يا فلانة أعطي السائل سكرا ، فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان : يتأول قوله جل وعز : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها. فقيل له : هلا تصدقت بقيمتها ؟ فقال : لأن السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب. وقال الحسن : إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ، ولا تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. الثانية : - اختلفوا في تأويل "البر" فقيل الجنة ؛ عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي. والتقدير لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون. والنوال العطاء ، من قولك نولته تنويلا أعطيته. ونالني من فلان معروف ينالني ، أو وصل إلي. فالمعنى لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون. وقيل : البر العمل الصالح. وفي الحديث الصحيح : "عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ". وقد مضى في البقرة. قال عطية العوفي : يعني الطاعة. عطاء : لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر. وعن الحسن ، "حتى تنفقوا" هي الزكاة المفروضة. مجاهد والكلبي : هي منسوخة ، نسختها آية الزكاة. وقيل : المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات ، وهذا جامع. وروى النسائي عن صعصعة بن معاوية قال : لقيت أبا ذر قال : قلت : حدثني قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من عبد مسلم ينفق من كل ماله زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده". قلت : وكيف ذلك ؟ قال : إن كانت إبلا فبعيرين ، (4/133) ________________________________________ وإن كانت بقرا فبقرتين. وقال أبو بكر الوراق : دلهم بهذه الآية على الفتوة. أي لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم ؛ فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي. قال مجاهد : وهو مثل قوله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} [الإنسان : 8]. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي وإذا علم جازى عليه. الآية : 93 {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية : 94 {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فيه أربع مسائل : - الاولى : -قوله تعالى : {حِلاًّ} أي حلالا ، ثم استثنى فقال : {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} وهو يعقوب عليه السلام. في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا ، ما حرم إسرائيل عل نفسه ؟ قال : "كان يسكن البدو فاشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها" . قالوا : صدقت. وذكر الحديث. ويقال : إنه نذر إن برأ منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلا بطشا قويا ، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه ، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام ، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه عرق النسا ، ولقي من (4/134) ________________________________________ ذلك بلاء شديدا ، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء أي صياح ، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله جل وعز ألا يأكل عرقا ، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه ؛ فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم. وكان سبب غمز الملك ليعقوب أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم. فكان ذلك للمخرج من نذره ؛ عن الضحاك. الثانية : -واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى ؟ والصحيح الأول ؛ لأن الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى : {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه ، كذلك يؤذن له ويجتهد ، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه ، ولولا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسور على التحليل والتحريم. وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة ، أو خادمه مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل : {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم : 1] على ما يأتي بيانه في "التحريم". قال الكيا الطبري : فيمكن أن يقال : مطلق قوله تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} يقتضي ألا يختص بمارية ؛ وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى ، فجعلها مخصوصا بموضع النص ، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين. الثالثة : -قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال ابن عباس : لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه. فقالت اليهود : إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل ؛ لأن يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة ؛ فأنزل الله هذه الآية. قال الضحاك : فكذبهم الله ورد عليهم فقال : يا محمد {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فلم يأتوا. فقال عز وجل : {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال الزجاج : في هذه الآية (4/135) ________________________________________ أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، أخبرهم أنه ليس في كتابهم ، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا ؛ يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. وقال عطية العوفي : إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم. وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ؛ ولم يكن ذلك محرما عليهم. وقال الكلبي : لم يحرمه الله عز وجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم ، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا ، أو صب عليهم رجزا وهو الموت ؛ فذلك قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء : 160] الآية. وقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية - إلى قوله : {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام : 146]. الرابعة : -ترجم ابن ماجة في سننه "دواء عرق النسا" حدثنا هشام بن عمار وراشد بن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء" . وأخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا : "تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا" قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى. شعبة : حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا : أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينك بنار أو لأحلقنك بموسى. قال شعبة : قد جربته ، تقوله ، وتمسح على ذلك الموضع. الآية : 95 {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4/136) ________________________________________ أي قل يا محمد صدق الله. إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما. {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أمر باتباع دينه. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم. الآيتان : 96 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} ، 97 : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فيه خمس مسائل : - الأولى : - ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال : "المسجد الحرام". قلت : ثم أي ؟ قال : "المسجد الأقصى". قلت : كم بينهما ؟ قال : "أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل" . قال مجاهد وقتادة : لم يوضع قبله بيت. قال علي رضي الله عنه : كان قبل البيت بيوت كثيرة ، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة. وعن مجاهد قال : تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ؛ لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ؛ فأنزل الله هذه الآية. وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأول من بناه. قال مجاهد : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام ؛ كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله عز وجل ملكا (4/137) ________________________________________ لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه" . فجاء إشكال بين الحديثين ؛ لأن بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة. قال أهل التواريخ : أكثر من ألف سنة. فقيل : إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما. وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم. فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما ، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله ؛ وكل محتمل. والله أعلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به ؛ وكان هذا قبل خلق آدم ، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به ، ثم الأنبياء بعده ، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام. الثانية : -قوله تعالى : {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} خبر "إن" واللام توكيد. و"بكة" موضع البيت ، ومكة سائر البلد ؛ عن مالك بن أنس. وقال محمد بن شهاب : بكة المسجد ، ومكة الحرم كله ، تدخل فيه البيوت. قال مجاهد : بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء ؛ كما قالوا : طين لازب ولازم. وقاله الضحاك والمؤرج. ثم قيل : بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك : دق العنق. وقيل : سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. قال عبدالله بن الزبير : لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وَقَصَه الله عز وجل. وأما مكة فقيل : إنها سميت بذلك لقلة مائها وقيل : سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة ؛ من قولهم : مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومك الفصيل ضرع أمه وامتكَّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه ؛ قال الشاعر : مكت فلم تُبْقِ في أجوافها دِرَرا وقيل : سميت بذلك لأنها تمك من ظَلَم فيها ، أي تهلكه وتنقصه. وقيل : سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها ؛ من قوله : {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً (4/138) ________________________________________ وَتَصْدِيَةً} [الأنفال : 35] أي تصفيقا وتصفيرا. وهذا لا يوجبه التصريف ؛ لأن "مكة" ثنائي مضاعف و"مُكاء" ثلاثي معتل. الثالثة : -قوله تعالى : {مُبَارَكاً} جعله مباركا لتضاعف العمل فيه ؛ فالبركة كثرة الخير ، ونصب على الحال من المضمر في "وضع" أو بالظرف من "بكة" ، المعنى الذي استقر "ببكة مباركا" ويجوز في غير القرآن "مبارك" ؛ على أن يكون خبرا ثانيا ، أو على البدل من الذي ، أو على إضمار مبتدأ. {وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} عطف عليه ، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين. ويجوز في غير القرآن "مبارك" بالخفض يكون نعتا للبيت. الرابعة : -قوله تعالى : {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير "آية بينة" على التوحيد ، يعني مقام إبراهيم وحده. قالوا : أثر قدميه في المقام آية بينة. وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله ؛ فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام. والباقون بالجمع. أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها. قال : أبو جعفر النحاس : من قرأ "آيات بينات" فقراءته أبين ؛ لأن الصفا والمروة من الآيات ، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا ، ومنها أن الجارح يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه ، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخِصب باليمن ، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد. والمقام من قولهم : قمت مقاما ، وهو الموضع الذي يقام فيه. والمقام من قولك : أقمت مُقاما. وقد مضى هذا في البقرة ، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه. وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف ؛ والتقدير منها مقام إبراهيم ؛ قاله الأخفش. وحكى عن محمد بن يزيد أنه قال : "مقام" بدل من "آيات". وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم. وقول الأخفش معروف في كلام العرب. كما قال زهير : (4/139) ________________________________________ لها متاع وأعوان غدون به ... قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا أي مضى وبَعُد سيلانه. وقول أبي العباس : إن مقاما بمعنى مقامات ؛ لأنه مصدر. قال الله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} " [البقرة : 7]. وقال الشاعر : إن العيون التي في طرفها مرض أي في أطرافها. ويقوّي هذا الحديث المرويّ "الحج كله مقام إبراهيم". الخامسة : -قوله تعالى : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قال قتادة : ذلك أيضا من آيات الحرم. قال النحاس : وهو قول حسن ؛ لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه ، ولا يصل إليه جبار ، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب ، ولم يوصل إلى الحرم. قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل : 1]. وقال بعض أهل المعاني : صورة الآية خبر ومعناها أمر ، تقديرها ومن دخله فأمنوه ؛ كقوله : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة : 197] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت : من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه ، لقوله تعالى : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ؛ فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله. وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس قال ابن العربي : "وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين : إحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى ، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل ، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها ، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره ؛ فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا. وقد ناقض أبو حنيفة فقال ، إذا لجأ إلى الحرم لا يُطعم ولا يُسقى ولا يعامل ولا يُكلَّم حتى يخرج ، فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن. وروي عنه أنه قال : يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا". (4/140)
| |
|