[/right]
________________________________________
فضيلة : روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" أخرجه مسلم والترمذي وقال : لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال : "صيام يوم عاشوراء كفارة سنة" إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة. وقد قيل : إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل : المعنى "وأنتم تنظرون" أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل : المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا : يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت : ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا قال : فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال : أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة : 21] إلى قول "قاعدون" حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين. فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام - على ما يأتي بيانه - ثم سار موسى إلى طور سيناء
(1/392)
________________________________________
ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه - ثم قيل لهم : قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - على ما يأتي - وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول : يا حجر ثوبي فذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب : 69] - على ما يأتي بيانه - ثم لما مات هارون قالوا له : أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة - ثم سألوه أن يعلموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب "عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك" يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى وقال الطبري : وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بن إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الآية : 51 {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
فيه ست مسائل :
(1/393)
________________________________________
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو "وعدنا" بغير ألف ، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر "واعدنا" قال : لأن المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن ، كقوله عز وجل : {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} "إبراهيم : 22" وقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "الفتح : 29" وقوله : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال : 7] قال مكي : وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى ، وليس فيه وعد من موسى ، فوجب حمله على الواحد ، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر ، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم : قراءة العامة عندنا "وعدنا" بغير ألف ، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين ، كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال الجوهري : الميعاد : المواعدة والوقت والموضع. قال مكي : المواعدة أصلها من اثنين ، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب ، قالوا : طارقت النعل ، وداويت العليل ، وعاقبت اللص ، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا ، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار "واعدنا" بالألف لأنه بمعنى "وعدنا" في أحد معنييه ، ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس : وقراءة "واعدنا" بالألف أجود وأحسن ، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي ، وليس قوله عز وجل : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من هذا في شيء ، لأن "واعدنا موسى" إنما هو من باب الموافاة ، وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء ، وإنما هو من قولك : موعدك يوم الجمعة ، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال : واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج : "واعدنا" ههنا بالألف جيد ، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة ، فمن الله جل وعز وعد ، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة "وعدنا" وليس بصحيح ، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
(1/394)
________________________________________
الثانية : قوله تعالى : {مُوسَى} اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف والقبط على - ما يروى - يقولون للماء : مو ، وللشجر : شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى. قال السدي : لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه ، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره : أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق : وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
الثالثة : قوله تعالى : {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني ، وفي الكلام حذف قال الأخفش : التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} والأربعون كلها داخلة في الميعاد.
والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال : {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه : 90] فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة
(1/395)
________________________________________
وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى : {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة : 54] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا : يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.
الرابعة : إن قيل : لم خص الليالي بالذكر دون الأيام ؟ قيل له : لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.
الخامسة- قال النقاش : في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية : سمعت أبي يقول : سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول : ابن حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف : 62]
قلت : وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في "الأعراف" زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف : 142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره هناك وفي "طه" إن شاء الله تعالى.
السادسة : قوله تعالى : {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ
(1/396)
________________________________________
فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة : 80] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر :
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا ... أم راجع القلب من أطرابه طرب
ونحوه في القرآن {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم : 78] {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} [الصافات : 153] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ} [ص : 75] ومذهب أبي علي الفارسي أن "اتخذتم" من تخذ لا من أخذ.
قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم والحمد لله.
الآية 52 {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف 95]
الثانية : قوله تعالى : {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح.
الثالثة : قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تشكروا عفو الله عنكم وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم
(1/397)
________________________________________
في الفاتحة. قال الجوهري : الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال : شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" قال الخطابي : هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
الرابعة : في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبدالله الشكر : الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى : الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ : 13] فقال داود : كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال : يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال : يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام : كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد : حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال : كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي : يا غلام ما الشكر ؟ فقلت : ألا يعصى الله بنعمه فقال لي : أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر : التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
(1/398)
________________________________________
3 الآية 53 {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} "إذا" اسم للوقت الماضي و"إذا" اسم للوقت المستقبل و"آتينا" أعطينا وقد تقدم جميع هذا والكتاب : التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب : المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس : هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} قال أبو إسحاق الزجاج : يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر :
وقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا
وقال آخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
قال النحاس : وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد : فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا وقيل : الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال : 29] أي فرجا ومخرجا وقيل : إنه الحجة والبيان قال ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد :
إلى الملك القرم وبن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
(1/399)
________________________________________
أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل : {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام : 154] أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك. وقيل : الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره : {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه.
قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم.
الآية 54 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} القوم : الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى : {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات : 11] ثم قال : {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات : 11] وقال زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى : {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف : 80] أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح : 1] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا.
قوله تعالى : {يَا قَوْمِ} منادى مضاف وحذفت الياء في "يا قوم" لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول : يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت : يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت : يا قوما وإن شئت قلت : يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول : قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
(1/400)
________________________________________
قوله تعالى : {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى : {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} "البقرة : 228] وقال {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف : 71] ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره : إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.ثم قوله تعالى : {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} قال بعض أرباب المعاني : عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله
قوله تعالى : {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف ؟ قال {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل : إماتة الحركة وقتلت الخمر : كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري : لما قيل لهم : {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم : كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل : وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبدالعجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال : ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه. بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم - يعني من قتل - وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم - على القول الأول - لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من قوم يعمل فيهم
(1/401)
________________________________________
بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب" أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم - من الإقالة - أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى : {بَارِئِكُمْ} البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية : الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو "بارئكم" - بسكون الهمزة - ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره : وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا :
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... بالدو أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقال آخر :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
وقال الآخر
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
(1/402)
________________________________________
محالا وقد سألها موسى عليه السلام. وسيأتي الكلام في الرؤية في "الأنعام" و"الأعراف" إن شاء الله تعالى.
الثانية : قوله تعالى : {جَهْرَةً} مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي : المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس "جهرة" بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان :
أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وإذ قلتم جهرة يا موسى.الثاني - أنه صفة لما سألوه من روية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام.
الثالثة : قوله تعالى : {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي "الصعقة" وهي قراءة ابن محيصين في جميع القرآن. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ويقال : كيف يموتون وهم ينظرون ؟ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل : المعنى "تنظرون" أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.
الرابعة : قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم. قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس : وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش ، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل : ماتوا موت همود يعتبر به الغير ، ثم أرسلوا وأصل البعث الإرسال. وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محله ، يقال : بعثت الناقة : أثرتها ، أي حركتها ، قال امرؤ القيس :
(1/404)
________________________________________
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين ونشوان
وقال عنترة :
وصحابة شم الأنوف بعثتهم ... ليلا وقد مال الكرى بطلاها
وقال بعضهم : {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة : 56] علمناكم من بعد جهلكم.
قلت : والأول أصح ، لأن الأصل الحقيقة ، وكان موت عقوبة ، ومنه قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} على ما يأتي [البقرة : 243]
الخامسة : قال الماوردي : واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين : أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد. الثاني : سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت : والأول أصح ، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان ، وبقاء التكليف ثابت عليهم ، ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم.
الآية : 57 {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
فيه ثماني مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء : ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم المساء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال
(1/405)
________________________________________
إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قول عليه السلام : "إنه ليغان على قلبي" قال صاحب العين : غين عليه غطى عليه والغين شجر ملتف وقال السدي : الغمام السحاب الأبيض وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيؤوا بالقمر ليلا وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى : {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة : 24] فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى : من لنا بالطعام فأنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا من لنا من حر الشمس فظلل عليهم الغمام. قالوا : فبم نستصبح فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي : عمود من نار قالوا : من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر قالوا : من لنا باللباس فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان والله أعلم.
الثانية : قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل : الترنجبين - بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال : الطرنجبين بالطاء - وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل : صمغة حلوة وقيل عسل : وقيل شراب حلو. وقيل : خبز الرقاق عن وهب بن منبه وقيل : "المن" مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : "الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين" في رواية "من المن الذي أنزل الله على موسى" . رواه مسلم قال علماؤنا : وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في الآية قال أبو عبيد : إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس مَن
(1/406)
________________________________________
بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.
الثالثة : لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب : أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة "النحل" إن شاء الله تعالى وقال أهل اللغة : الكمء واحد وكمآن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا كمأة - بالتاء - على عكس شجرة وشجر والمن اسم جنس لا واحد له لفظه مثل الخير والشر قاله الأخفش.
الرابعة : قوله تعالى : {وَالسَّلْوَى} اختلف في السلوى فقيل : هو السماني بعينه قاله الضحاك قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
قلت : ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير : إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمي به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان ، وأنشد :
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنى عنك وإن غنيت
(1/407)
________________________________________
وقال الجوهري : والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي :
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ولم يذكر غلطا والسلوانة "بالضم" : خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال :
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش ياميّ ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح يقال : سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد.
الخامسة : واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش : جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته كما قالوا : دفلى للواحد والجماعة وسمانى وشكاعى في الواحد والجميع. وقال الخليل : واحده سلواة وأنشد :
وإني لتعروني لذكرك هزة ... كما أنتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوى
السادسة : {السَّلْوَى} عطف على "المن" ولم يظهر فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل : والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته وقال الفراء : لو حركت الألف صارت همزة.
السابعة : قوله تعالى : {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} "كلوا" فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
(1/408)