والنهار إذا جلاهـــــا
( الجزء الثاني )
الدلالة العلمية للآية الكريمةفي الآيات الأربع الأولي من سورة الشمس يقول ربنا( تبارك وتعالى):والشمس وضحاها* والقمر إذا تلاها* والنهار إذا جلاها* والليل إذا يغشاها*
وضمير الغائب في هذه الآيات يعود إلى الشمس كما هو واضح من سياق السورة الكريمة، ومن قواعد اللغة العربية، ومن شروح المفسرين الذين لم تختلف شروحهم إلا في تفسير قول الله( تعالى): والنهار إذا جلاها فأعادوا ضمير الغائب هنا مرة إلي الشمس، ومرة إلي الظلمة، وثالثة إلي البسيطة أي الأرض، وذلك لأن الناس قد درجوا عبر التاريخ على فهم أن طلوع الشمس هو الذي يجلي ظلمة الليل وينير وضح النهار.فكيف يمكن أن يكون النهار هو الذي يجلي الشمس؟ولكن في مطلع الستينيات من القرن العشرين بدأ نشاط ريادة الفضاء، وفوجيء هؤلاء الرواد بحقيقة مذهلة مؤداها أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن طبقة النهار المنيرة عبارة عن حزام رقيق جدا لا يتعدى سمكه مائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر، يغلف نصف الأرض المواجه للشمس ويتحرك على سطحها بمعدل دورانها حول محورها أمام الشمس، وأنه بمجرد تجاوز تلك الطبقة الرقيقة من نور النهار تبدو الشمس قرصا أزرق باهتا في صفحة سوداء حالكة السواد، وكذلك تتضح مواقع النجوم بنقاط زرقاء باهتة لا تكاد ترى.وبدراسة هذه الظاهرة المبهرة والتي سبق للقرآن الكريم أن أشار إليها من قبل ألف وأربعمائة سنة بقول الحق( تبارك وتعالى): - ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون* لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون
( الحجر:15،14).- وبقوله(سبحانه): وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون* ( يس:37).- وبقوله(عز من قائل): أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها* رفع سمكها فسواها* وأغطش ليلها وأخرج ضحاها*( النازعات:27 -29).
وفي محاولة لتفسير السبب في ظلمة الكون ونور طبقة النهار المحدودة بحدود نصف الأرض المواجه للشمس وبسمك لا يتعدى المائتي كيلومتر، اتضح أن الغالبية العظمي من أشعة الشمس هي أشعة غير مرئية، وأن الجزء المرئي منها لا يري إلا بعد انعكاسه وتشتته لمرات عديدة على عدد من الأجسام مثل جزيئات العناصر والمركبات المكونة للطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وما بها من هباءات الغبار، وقطيرات الماء، وبخاره.ولما كان الغلاف الغازي للأرض تتضاءل كثافته بالارتفاع حتى لا تكاد أن تدرك، كما يتضاءل محتواه من هباءات الغبار والرطوبة بصفة عامة، توقفت عمليات تشتيت ضوء الشمس وعكسه على المائتي كيلو متر السفلي من هذا الغلاف الغازي فقط والتي يري فيها نور النهار، وبقي الكون في ظلام دامس، وبقي موقع الشمس على هيئة قرص أزرق وسط هذا الظلام، كما بقيت مواقع النجوم نقاطاً زرقاء باهتة في بحر غامر من ظلمة الكون الشاملة. ويؤكد ذلك تناقص ضغط الغلاف الغازي للأرض من نحو الكيلو جرام على السنتيمتر المربع عند مستوى سطح البحر إلى أقل من واحد من المليون من هذا الضغط في الأجزاء العليا من غلاف الأرض الغازي، وتحت مثل هذه الضغوط التي لا تكاد أن تدرك تبدأ مكونات الجزئيات في هذا الغلاف الغازي في التفكك إلى ذراتها وأيوناتها بفعل الأشعة الكونية القادمة من الشمس ومن غيرها من نجوم السماء، ويساعد على قلة الضغط سيادة الغازات الخفيفة مثل الإيدروجين والهيليوم على حساب الغازات الأثقل نسبياً مثل الأوكسجين والنيتروجين، ويعين على تخلخل الهواء الارتفاع الشديد في درجات الحرارة التي تصل إلي أكثر من ألفي درجة مئوية في الجزء المسمي بالنطاق الحراري، وفي النطاق الخارجي من الغلاف الغازي للأرض، وعلى ذلك فإن الجزء المرئي من موجات الإشعاع الشمسي لا تكاد تجد ما تنعكس أو تتشتت عليه فلا ترى إلا في المائتي كيلومتر السفلي من الغلاف الغازي للأرض حيث تتوفر جسيمات الانعكاس والتشتت فيتضح هذا النور الأبيض الجميل الذي يميز فترة النهار على الأرض والذي يعطي بتقدير من الله الخالق لكل شيء لونه من مثل السماء، والشمس، والسحاب، وماء البحر وغيره وذلك بسبب تحلل هذا النور الأبيض إلي أطيافه السبعة وامتصاص بعضها، وعكس البعض الآخر، ومعني ذلك أن النهار هو الذي يجلي لنا الشمس، أي يجعلها واضحة جلية لأحاسيس المشاهدين من أهل الأرض، وليس العكس كما ظل الناس يعتقدون عبر التاريخ، فلولا طبقة النهار( وهي المائتي كيلو متر السفلي من الغلاف الغازي الملاصق لنصف الأرض المواجه للشمس) وما به من كثافة غازية، ورطوبة، وهباءات غبارية ما تجلت لنا الشمس أبدا. وهذه حقيقة علمية لم يدركها الإنسان إلا بعد ريادة الفضاء.ولذلك يصف القرآن الكريم النهار بأنه مبصر في أكثر من آية وذلك من مثل قوله( تعالى):(ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) (النمل:86).ويصف الصبح بأنه هو الذي يسفر أي ينير وينكشف فيقول( سبحانه):(والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر)(المدثر:33).ويصف النهار بأنه هو الذي يتجلى فيقول ( عز من قائل):والليل إذا يغشي* والنهار إذا تجلى*( الليل:2،1)وإلى لقاء قريب في الجزء الثالث والأخير