سورة الإخلاص
مكية ؛ في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ومدنية ؛ في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. وهي أربع آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
2- {اللَّهُ الصَّمَدُ}
3- {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}
4- {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ، ولا نظير ولا صاحبة ، ولا ولد ولا شريك. وأصل{أَحَدٌ} : وحد ؛ قلبت الواو همزة. ومنه قول النابغة :
بذي الجليل على مستأنس وحد
وقد تقدم في سورة "البقرة" الفرق بين واحد وأحد ، وفي كتاب "الأسنى ، في شرح أسماء الله الحسي" أيضا مستوفى. والحمد لله. و {أَحَدٌ} مرفوع ، على معنى : هو أحد. وقيل : المعنى : قل : الأمر والشأن : الله أحد. وقيل : "{أَحَدٌ} بدل من قوله : {اللَّهُ} وقرأ جماعة {أحد الله} بلا تنوين ، طلبا للخفة ، وفرارا من التقاء الساكنين ؛ ومنه قول الشاعر :
ولا ذاكر الله إلا قليلا
(20/244)
{اللَّهُ الصَّمَدُ} أي الذي يصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : الذي يصمد إليه في الحاجات ؛ كما قال عز وجل : {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . قال أهل اللغة : الصمد : السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج. قال :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال قوم : الصمد : الدائم الباقي ، الذي لم يزل ولا يزال. وقيل : تفسيره ما بعده "لم يلد ولم يولد". قال أبي بن كعب : الصمد : الذي لا يلد ولا يولد ؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا يورث. وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان : الصمد : هو السيد الذي قد أنتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد ؛ ومنه قول الشاعر :
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقال أبو هريرة : إنه المستغني عن كل أحدا ، والمحتاج إليه كل أحد. وقال السدي : إنه : المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب. وقال الحسين بن الفضل : إنه : الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مقاتل : إنه : الكامل الذي لا عيب فيه ؛ ومنه قول الزبرقان :
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلا سيد صمد
وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير : الصمد : المصمت الذي لا جوف له ؛ قال الشاعر :
شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
قلت : قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد ، في (كتاب الأسنى) وأن الصحيح منها. ما شهد له الاشتقاق ؛ وهو القول الأول ، ذكره الخطابي. وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه ، وجعل النار مقامة ومثواه ، وقرأ {الله الواحد الصمد} في الصلاة ، والناس يستمعون ، فاسقط : {قل هو} ، وزعم أنه ليس من القرآن. وغير لفظ {أحد} ، وأدعى أن هذا
(20/245)
هو الصواب ، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال ، فأبطل معنى الآية ؛ لأن أهل التفسير قالوا : نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى : صف لنا ربك ، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر ؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " ففي {هُوَ} دلالة على موضع الرد ، ومكان الجواب ؛ فإذا سقط بطل معنى الآية ، وصح الافتراء على الله عز وجل ، والتكذيب لرسول صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي عن أبي بن كعب : أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ؛ فأنزل الله عز وجل : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} . والصمد : الذي لم يلد ولم يولد ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال : لم يكن له شبيه ولا عدل ، وليس كمثله شيء. وروي عن أبي العالية : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا : انسب لنا ربك. قال : فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فذكر نحوه ، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب ، وهذا صحيح ؛ قاله الترمذي.
قلت : ففي هذا الحديث إثبات لفظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وتفسير الصمد ، وقد تقدم. وعن عكرمة نحوه. وقال ابن عباس : "لم يلد" كما ولدت مريم ، ولم يولد كما ولد عيس وعزير. وهو رد على النصارى ، وعلى من قال : عزير ابن الله.
قوله تعالى : {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لم يكن له مثلا أحد. وفيه تقدم وتأخير ؛ تقديره : ولم يكن له كفوا أحد ؛ فقدم خبر كان على اسمها ، لينساق أو آخر الآي على نظم واحد. وقرئ {كفوا} بضم الفاء وسكونها ، وقد تقدم في "البقرة" أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان ؛ إلا قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} لعلة تقدمت. وقرأ حفص {كفوا} مضموم الفاء غير مهموز. وكلها لغات فصيحة.
(20/246)
القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة ؛ وفيه ثلاث مسائل :
الأولى : ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا سمع رجلا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها ؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" . وعنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة" فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن" ، فحشد من حشد ؛ ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء ، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال : "إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ألا إنها تعدل ثلث القرآن" قال بعض العلماء : إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم ، الذي هو {الصَّمَدُ} ، فإنه لا يوجد في غيرها من السور. وكذلك {أَحَدٌ}. وقيل : إن القرآن أنزل أثلاثا ، ثلثا منه أحكام ، وثلثا منه وعد ووعيد ، وثلثا منه أسماء وصفات ، وقد جمعت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم ، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من أجزاء القرآن" . وهذا نص ؛ وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص ، والله أعلم.
الثانية : روى مسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي
(20/247)
صلى الله عليه وسلم فقال : "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخبروه أن الله عز وجل يحبه" . وروى الترمزي عن أنس بن مالك قال : كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، وكان كلما أفتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها ، أفتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ بسورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمه أصحابه ، فقالوا : إنك تقرأ بهذه السورة ، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى ، فإما أن تقرأ بها ، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى ؟ قال : ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت ، وإن كرهتم تركتكم ؛ وكانوا يرونه أفضلهم ، وكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم اخبروه الخبر ، فقال : "يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك ؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة" ؟ فقال : يا رسول الله ، إني أحبها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن حبها أدخلك الجنة" . قال : حديث حسن غريب صحيح. قال ابن العربي : فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة. وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه ، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما ، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك ؛ فيقرأ في كل ركعة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يتم التراويح ؛ تخفيفا عليه ، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان.
قلت : هذا نص قول مالك ، قال مالك : وليس ختم القرآن في المساجد بسنة.
الثالثة : روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ "قل هو الله أحد" ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وجبت" . قلت : وما وجبت ؟ قال : "الجنة" . قال : هذا حديث حسن صحيح. قال الترمذي :
(20/248)
حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد ، محي عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين" . وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أراد أن ينام على فراشه ، فنام على يمينه ، ثم قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب : يا عبدي ، ادخل على يمينك الجنة" . قال : هذا حديث غريب من حديث ، ثابت عن أنس. وفي مسند أبي محمد الدارمي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة ، غفرت له ذنوب خمسين سنة" قال : وحدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال : أخبرني أبو عقيل : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشرة مرات بني له قصر في الجنة. ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنه. ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة" . فقال عمر بن الخطاب : والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أوسع من ذلك" قال أبو محمد : أبو عقيل زهرة بن معبد ، وزعموا أنه كان من الأبدال. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير عن أبيه ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في مرضه الذي يموت فيه ، لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها ، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة" . قال : هذا حديث غريب من حديث يزيد ، تفرد به نصر بن حماد البجلي.
وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال : سمعت مالك بن أنس يقول : إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن ، فتنزل الملائكة ، فيأخذون بأقطار الأرض ، فلا يزالون يقرؤون {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يسكن غضبه جل وعز. وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من دخل يوم الجمعة
(20/249)
المسجد ، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات ، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له" . وقال أبو عمر مولى جرير بن عبدالله البجلي ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حين يدخل منزله ، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران" وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة بورك عليه ، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله ، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه ، ومن قرأها اثنتي عشرة بني الله له اثني عشر قصرا في الجنة ، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا ، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة ، ما خلا الدماء والأموال ، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة ، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له". وعن سهل بن سعد الساعدي قال : شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد ، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي ، واقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة واحدة" ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق ، حتى أفاض عليه جيرانه. وقال أنس : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك ، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور ، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك ، فأتى جبريل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا جبريل ، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط" ؟ فقال : "ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم ، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه". قال "ومم ذلك" ؟ قال : "كان يكثر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} آناء الليل وآناء النهار ، وفي ممشاه وقيامه وقعوده ، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض. فتصلي عليه" ؟ قال "نعم" فصلى عليه ثم رجع. ذكره الثعلبي ، والله أعلم.
(20/250)