سورة الكافرون
وهي مكية ؛ في قول ابن عباس وعكرمة. ومدنية ؛ في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. وهي ست آيات.
وفي الترمذي من حديث أنس : أنها تعدل ثلث القرآن. وفي كتاب (الرد لأبي بكر الأنباري) : أخبرنا عبدالله بن ناجية قال : حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن" . ورواه موقوفا عن أنس. وخرج الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد عن ابن عمر قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الفجر في سفر ، فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثم قال : "قرأت بكم ثلث القرآن وربعه" . وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا" ؟ قلت : نعم. قال : "فاقرأ هذه السور الخمس من أول {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} -إلى- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وأفتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم" .قال : فوالله لقد كنت غير كثير المال ، إذا سافرت أكون أبذهم هيئة ، وأقلهم زادا ، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة ، وأكثرهم زادا ، حتى أرجع من سفري ذلك.
(20/224)
وقال فروة بن نوفل الأشجعي : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني قال : "أقرأ عند منامك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك" . خرجه أبو بكر الأنباري وغيره. وقال ابن عباس : ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها ؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك. وقال الأصمعي : كان يقال? {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المقشقشتان ؛ أي أنهما تبرئان من النفاق. وقال أبو عبيدة : كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه. وقال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف ، وللجرب في الإبل إذا قفل : قد توسف جلده ، وتوسف جلده ، وتقشقش جلده.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
2- {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
3- {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
4- {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}
5- {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس : أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبدالمطلب ، وأمية بن خلف ؛ لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ؛ فأنزل الله عز وجل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ؛ فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه ، وآذوه ، وآذوا أصحابه. والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود
(20/225)
وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لأي ؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. ونحوه عن الماوردي : نزلت جوابا ، وعني بالكافرين قوما معينين. لا جميع الكافرين ؛ لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات أو قتل على كفره. ، وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون. قال أبو بكر بن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن : قل للذين كفروا {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على رب العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا. وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم. فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا : يأيها الكافرون ؛ دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه قل لزيد أقبل إلينا ، فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا. فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى ؛ إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم ، فيقول لهم : {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد ، أو تقع به من جهتهم أذية. فمن لم يقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها.
وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم ؛ كما تقول : والله لا أفعل كذا ، ثم والله لا أفعله. قال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام ، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز ؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد ؛ قال الله تعالى : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } . {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} . و {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . كل هذا على التأكيد.
(20/226)
وقد يقول القائل : إرم إرم ، اعجل اعجل ؛ ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح : "فلا آذن ، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني" . خرجه مسلم. وقال الشاعر :
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا
وقال آخر :
يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار
وقال آخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمة ... خير تميم كلها وأكرمه
وقال آخر :
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقال آخر :
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمَّت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
ومثله كثير. وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة. فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ؛ أي إن هذا لا يكون أبدا. قال ابن عباس : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ، ونزوجك من شئت ، ونطأ عقبك ؛ أي نمشي خلفك ، وتكف عن شتم آلهتنا ، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح ، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ،
(20/227)
ونحن نعبد إلهك سنة ؛ فنزلت السورة. فكان التكرار في {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة. والله أعلم. وقيل : إنما كرر بمعنى التغليظ. وقيل : أي {لا أَعْبُدُ} الساعة {مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} الساعة {مَا أَعْبُدُ} . ثم قال : {وَلا أَنَا عَابِدٌ} في المستقبل {مَا عَبَدْتُمْ.وَلا أَنْتُمْ} في المستقبل {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} . قاله الأخفش والمبرد. وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملوا وثنا ، وسئموا العبادة له ، رفضوه ، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك ، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها ؛ فأمر عليه السلام أن يقول لهم : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم. ثم قال : {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي وإنما أنتم تعبدون الوثن الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن. {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها ، وأقبلتم على هذه. {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فإني أعبد إلهي. وقيل : إن قوله تعالى : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} . {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الاستقبال. وقوله : {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي. ثم قال : {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} على التكرير في اللفظ دون المعنى ، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون : ولا أنتم عابدون ما عبدت ، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد ، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل ، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل. وقال : {مَا أَعْبُدُ} ، ولم يقل : من أعبد ؛ ليقابل به {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} وهي أصنام وأوثان ، ولا يصلح فيها إلا {ما} دون {من} فحمل الأول على الثاني ، ليتقابل الكلام ولا يتنافى. وقد جاءت {ما} لمن يعقل. ومنه قولهم : سبحان ما سخركن لنا. وقيل : إن معنى الآيات وتقديرها : قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ، ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده ؛ لإشراككم به ، واتخاذكم الأصنام ، فإن زعمتم أنكم تعبدونه ، فأنتم كاذبون ؛ لأنكم تعبدونه مشركين. فأنا لا أعبد ما عبدتم ، أي مثل عبادتكم ؛ {فما} مصدرية. وكذلك
(20/228)
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مصدرية أيضا ؛ معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي ، التي هي توحيد.
6- {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
فيه معنى التهديد ؛ وهو كقوله تعالى : {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي إن رضيتم بدينكم ، فقد رضينا بديننا. وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، فنسخ بآية السيف. وقيل : السورة كلها منسوخة. وقيل : ما نسخ منها شيء لأنها خبر. ومعنى {لَكُمْ دِينُكُمْ} أي جزاء دينكم ، ولي جزاء ديني. وسمى دينهم دينا ، لأنهم اعتقدوه وتولوه. وقيل : المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي ؛ لأن الدين الجزاء. وفتح الياء من {وَلِيَ دِينِ} نافع ، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه ، وهشام عن ابن عامر ، وحفص عن عاصم. وأثبت الياء في{ديني} في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب ؛ قالوا : لأنها اسم مثل الكاف في قمت. الباقون بغير ياء ، مثل قوله تعالى : " {فَهُوَ يَهْدِينِ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ونحوه ، اكتفاء بالكسرة ، واتباعا لخط المصحف ، فإنه وقع فيه بغير ياء.
(20/229)