سورة الهمزة
مكية بإجماع. وهي تسع آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
قد تقدم القول في "الويل" في غير موضع ، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة. وقيل : واد في جهنم. {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال ابن عباس : هم المشّاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب ؛ فعلى هذا هما بمعنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب" . وعن ابن عباس أن الهمزة : الذي يغتاب اللمزة : العياب. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح : الهمزة : الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة : الذي يغتابه من خلفه إذا غاب ؛ ومنه قول حسان :
همزتك فاختضعت بذل نفس ... بقافية تأجج كالشواظ
(20/181)
واختار هذا القول النحاس ، قال : ومنه قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه. وقال قتادة ومجاهد : الهمزة : الطعان في الناس ، واللمزة : الطعان في أنسابهم. وقال ابن زيد الهامز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري يهمز بلسانه ، ويلمز بعينيه. وقال ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ، واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه. وقال مرة : هما سواء ؛ وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. وقال زياد الأعجم :
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة
وقال آخر :
إذا لقيتك عن سخط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
الشحط : البعد. والهمزة : اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى ؛ كما يقال : سخرة وضحكة : للذي يسخر ويضحك بالناس. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج {همْزة لمْزة} بسكون الميم فيهما. فإن صح ذلك عنهما ، فهي معنى المفعول ، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه ، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبدالله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والأعمش : {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} وأصل الهمز : الكسر ، والعض على الشيء بعنف ؛ ومنه همز الحرف. ويقال : همزت رأسه. وهمزت الجوز يكفي كسرته. وقيل لأعرابي : أتهمزون (الفارة) ؟ فقال : إنما تهمزها الهرة. الذي في الصحاح : وقيل لأعرابي أتهمز الفارة ؟ فقال السنور يهمزها. والأول قاله الثعلبي ، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة. قال العجاج :
ومن همزنا رأسه تهشما
وقيل : أصل الهمز واللمز : الدفع والضرب. لمزه يلمزا : إذا ضربه ودفعه. وكذلك همزه : أي دفعه وضربه. قال الراجز :
ومن همزنا عزه تبركعا ... على أسته زوبعة أو زوبعا
(20/182)
البركعة : القيام على أربع. وبركعه فتبركع ؛ أي صرعه فوقع على أسته ؛ قاله في الصحاح. والآية نزلت في الأخنس بن شريق ، فيما روى الضحاك عن ابن عباس. وكان يلمز الناس ويعيبهم : مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج : في الوليد بن المغيرة ، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ، ويقدح فيه في وجهه. وقيل : نزلت في أبي بن خلف. وقيل : في جميل بن عامر الثقفي. وقيل : إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص ؛ وهو قول الأكثرين. قال مجاهد : ليست بخاصة لأحد ، بل لكل من كانت هذه صفته. وقال الفراء : بجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاص ، قصد الواحد إذا قال : لا أزورك أبدا. فتقول : من لم يزرني فلست بزائره ؛ يعني ذلك القائل.
2- {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}
أي أعده - زعم - لنوائب الدهر ؛ مثل كرم وأكرم. وقيل : أحصى عدده ؛ قال السدي. وقال الضحاك : أي أعد مال لمن يرثه من أولاده. وقيل : أي فاخر بعدده وكثرته. والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة. كما قال : "مناع للخير" [ق : 25] ، وقال : {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} . وقراءة الجماعة {وَجَمَعَ} مخفف الميم. وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير. واختاره أبو عبيد ؛ لقوله : {وَعَدَّدَهُ} . وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية {جمع} مخففا ، {وعدده} مخففا أيضا ؛ فأظهروا التضعيف ، لأن أصله عده وهو بعيد ؛ لأنه وقع في المصحف بدالين. وقد جاء مثله في الشعر ؛ لما أبرزوا التضعيف خففوه. قال :
مهلا أمامة قد جريت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضَنِنوا
(20/183)
أراد : ضنوا وبخلوا ، فأظهر التضعيف ؛ لكن الشعر موضع ضرورة. قال المهدوي : من خفف {وَعَدَّدَهُ} فهو معطوف على المال ؛ أي وجمع عدده فلا يكون فعلا على إظهار التضعيف ؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.
3- {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}
4- {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}
5- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}
6- {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}
7- {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}
قوله تعالى : {يَحْسَبُ} أي يظن {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يبقيه حيا لا يموت ؛ قاله السدي. وقال عكرمة : أي يزيد في عمره. وقيل : أحياه فيما مضى ، وهو ماض بمعنى المستقبل. يقال : هلك والله فلان ودخل النار ؛ أي يدخل. {كَلَّا} رد لما توهمه الكافر ؛ أي لا يخلد ولا يبقى له مال. وقد مضى القول في {كَلَّا} مستوفى. وقال عمر بن عبدالله مولى غفرة : إذا سمعت الله عز وجل يقول {كَلَّا} فإنه يقول كذبت. {لَيُنْبَذَنَّ} أي ليطرحن وليلقين. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن : لينبذان بالتثنية ، أي هو وماله. وعن الحسن أيضا {لينبذنه} على معنى لينبذن ما له. وعنه أيضا بالنون {لينبذنه} على إخبار الله تعالى عن نفسه ، وأنه ينبذ صاحب المال. وعنه أيضا {لينبذن} بضم الذال ؛ على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه.
قوله تعالى : {فِي الْحُطَمَةِ} وهي نار الله ؛ سميت بذلك لأنها تكسر كل ما يلقي فيها وتحطمه وتهشمه. قال الراجز :
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا ... يوم كسرنا أنفه ليغضبنا
وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي. وحكى القشيري عنه : {الْحُطَمَةِ} الدركة الثانية من درك النار. وقال الضحاك : وهي الدرك الرابع. ابن زيد : اسم من أسماء جهنم.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} على التعظيم لشأنها ، والتفخيم لأمرها.
(20/184)
ثم فسرها ما هي فقال : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} أي التي أوقد عليها ألف عام ، وألف عام ، وألف عام ؛ فهي غير خامدة ؛ أعدها الله للعصاة. {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال محمد بن كعب : تأكل النار جميع ما في أجسادهم ، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد ، خلقوا خلقا جديدا ، فرجعت تأكلهم. وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن النار تأكل أهلها ، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ، ثم إذا صدروا تعود ، فذلك قوله تعالى : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ.الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} " . وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون ؛ كما قال الله تعالى : {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فهم إذاً أحياء في معنى الأموات. وقيل : معنى {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} أي تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب ؛ وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه. ويقال : أطلع فلان على كذا : أي علمه. وقد قال الله تعالى : {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} . وقال تعالى : {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فوصفها بهذا ، فلا يبعد أن توصف بالعلم.
8- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ}
9- {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}
أي مطبقة ؛ قال الحسن والضحاك. وقد تقدم في سورة "البلد" القول فيه. وقيل : مغلقة ؛ بلغة قريش. يقولون : آصدت الباب إذا أغلقته ؛ قال مجاهد. ومنه قول عبيدالله بن قيس الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا ... مصفقا موصدا عليه الحجاب
{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} الفاء بمعنى الباء ؛ أي موصدة بعمد بعمد ممددة ؛ قاله ابن مسعود. وهي في قراءته {بعمد ممددة} في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثم إن الله يبعث إليهم
(20/185)
ملائكة بأطباق من نار ، ومسامير من نار وعمد من نار ، فتطبق عليهم بتلك الأطباق ، وتشد عليهم بتلك المسامير ، وتمد بتلك العبد ، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ، ولا يخرج منه غم ، وينساهم الرحمن على عرشه ، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ، ولا يستغيثون بعدها أبدا ، وينقطع الكلام ، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا ؛ فذلك قوله تعالى : {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} " وقال قتادة : {عَمَدٍ} يعذبون بها. واختاره الطبري. وقال ابن عباس : إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم. وقيل : قيود في أرجلهم ؛ قاله أبو صالح. وقال القشيري : والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وتشد تلك الأطباق بالأوتاد ، حتى يرجع عليهم غمها وحرها ، فلا يدخل عليهم روح. وقيل : أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد ؛ أي في سلاسل وأغلال مطولة ، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة. وقيل : هم في عمد ممددة ؛ أي في عذابها وآلامها يضربون بها. وقيل : المعنى في دهر ممدود ؛ أي لا انقطاع له. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {في عمد} بضم العين والميم : جمع عمود. وكذلك {عَمَدٍ} أيضا. قال الفراء : والعمد : جمعان صحيحان لعمود ؛ مثل أديم أدم وأدم ، وأفيق وأفق وأفق. أبو عبيدة : عمد : جمع عماد ؛ مثل إهاب. واختار أبو عبيد {عَمَدٍ} بفتحتين. وكذلك أبو حاتم ؛ أعتبارا بقوله تعالى : {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وأجمعوا على فتحها. قال الجوهري : العمود : عمود البيت ، وجمع القلة : أعمدة ، وجمع الكثرة عمد ، وعمد ؛ وقرئ بهما قوله تعالى : {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} وقال أبو عبيدة : العمود ، كل مستطيل من خشب أو حديد ، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد ؛ أي أقمته بعماد يعتمد عليه. وأعمدته جعلت تحته عمدا. والله أعلم.
(20/186)