سورة عَبَس
مكية في قول الجميع ، وهي إحدى وأربعون آية
بَسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}.
2- {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}.
3- {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}.
4- {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}
فيه ست مسائل :
الأولى- {عَبَسَ} أي كلح بوجهه ؛ يقال : عبس وبسر. وقد تقدم. {وَتَوَلَّى} أي أعرض بوجهه {أَنْ جَاءَهُ} "أن" في موضع نصب لأنه مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى ، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبدالله عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك : إن هشام بن عروة حدثه عن عروة ، أنه قال : نزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم ؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنني ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : "يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا" ؟ فيقول : "لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا" ؛ فأنزل الله : "عبس وتولى". وفي الترمذي مسندا قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدثني أبي ، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : نزلت "عبس وتولى" في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(19/211)
فجعل ، يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : "أترى بما أقول بأسا" فيقول : لا ؛ ففي هذا نزلت ؛ قال : هذا حديث غريب.
الثانية- الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبدالله بن أم مكتوم. ويقال : عمرو بن أم مكتوم ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، وعمرو هذا : هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين ، يقال كان الوليد بن المغيرة. قال ابن العربي : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد.
الثالثة- أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العميان والسفلة
(19/212)
والعبيد ؛ فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية. قال الثوري : فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول : "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي" . ويقول : "هل من حاجة" ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.
الرابعة- قال علماؤنا : ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة ؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية على ما تقدم. وقيل : إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان ؛ كما قال : "إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" .
الخامسة- قال ابن زيد : إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه ؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم : {عَبَسَ وَتَوَلَّى} بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيما له ولم يقل : عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال : {وَمَا يُدْرِيكَ} أي يعلمك {لَعَلَّهُ} يعني ابن أم مكتوم {يَزَّكَّى} بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، بأن يزداد طهارة في دينه ، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل : الضمير في "لعله" للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر ، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق
(19/213)
وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن "آأن جاءه الأعمى" بالمد على الاستفهام فـ"أن" متعلقة بفعل محذوف دل عليه "عبس وتولى" التقدير : آأن جاءه أعرض عنه وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على "وتولى" ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر ، وهي قراءة العامة.
السادسة- نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وكذلك قول في سورة الكهف : {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وما كان مثله ، والله أعلم.
{أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ بما تقول {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} أي العظة. وقراءة العامة "فتنفعه" بضم العين ، عطفا على "يزكى". وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى "فتنفعه" نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش ، على جواب لعل ، لأنه غير موجب ؛ كقوله تعالى : {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} ثم قال : {فَاطَّلَعَ} .
5- {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}.
6- {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}.
7- {مَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}.
8- {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}.
9- {وَهُوَ يَخْشَى}.
10- {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}.
قوله تعالى : {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} أي كان ذا ثروة وغنى {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تعرض له ، وتصغي لكلامه. والتصدي : الإصغاء ؛ قال الراعي :
تصدي لو ضاح كأن جبينه ... سراج الدجي يحني إليه الأساور
وأصله تتصدد من الصد ، وهو ما استقبلك ، وصار قبالتك ؛ يقال : داري صدد داره أي قبالتها ، نصب على الظرف. وقيل : من الصدى وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء ، والمصاداة : المعارضة. وقراءة العامة "تصدى" بالتخفيف ، على طرح التاء
(19/214)
الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن ، إنما أنت رسول ، ما عليك إلا البلاغ. {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} يطلب العلم لله {وَهُوَ يَخْشَى} أي يخاف الله. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى ؛ يقال : لهيت عن الشيء ألهى : أي تشاغلت عنه. والتلهي : التغافل. ولهيتُ عنه وتليتُ : بمعنى.
11- {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.
12- {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}.
13- {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}.
14- {مرفوعة مطهرة}.
15- {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}.
16- {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} "كلا" كلمة ردع وزجر ؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين ؛ أي لا تفعل بعدها مثلها : من إقبالك على الغني ، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الأولى كما تقدم ، ولو حمل على صغيرة لم يبعد ؛ قاله القشيري. والوقف على "كلا" على هذا الوجه : جائز. ويجوز أن تقف على "تلهي" ثم تبتدئ "كلا" على معنى حقا. {إِنَّهَا} أي السورة أو آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة وتبصرة للخلق {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي اتعظ بالقرآن. قال الجُرجاني : "إنها" أي القرآن ، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة ، أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز ؛ كما قال تعالى في موضع آخر : "كلا إنه تذكرة". ويدل على أنه أراد القرآن قوله : "فمن شاء ذكره" أي كان حافظا له غير ناس ؛ وذكر الضمير ، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال : {فِي صُحُفٍ} جمع صحيفة {مُكَرَّمَةٍ} أي عند الله ؛ قاله السدي. الطبري : "مكرمة" في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل : "مكرمة" لأنها نزل بها كرام الحفظة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل : "مكرمة"
(19/215)
لأنها نزلت من كريم ؛ لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل : المراد كتب الأنبياء ؛ دليله : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . {مَرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر عند الله. وقيل : مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل : مرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام. الطبري : مرفوعة الذكر والقدر. وقيل : مرفوعة عن الشبه والتناقض. {مُطَهَّرَةٍ} قال الحسن : من كل دنس. وقيل : مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا : مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل : أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله ، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها "بأيدي سفرة" قال : كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار ، التي هي الكتب ، وأحدهم : سافر ؛ كقولك : كاتب وكتبة. ويقال : سفرت أي كتبت ، والكتاب : هو السفر ، وجمعه أسفار.
قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر ، بكسر السين ، وللكاتب سافر ؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال : أسفر الصبح : إذا أضاء ، وسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال : ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم. وقال الفراء ، وأنشد :
فما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغش إن مشيت
والسفير : الرسول والمصلح بين القوم والجمع : سفراء ، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء ، بلغة العبرانية. وقال قتادة : السفرة هنا : هم القراء ، لأنهم يقرؤون الأسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه : {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي : لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة ، كراما بررة ، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ، ولا قاربوا المرادين بها ، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي
(19/216)
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له ، مع السفرة الكرام البررة ؛ ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده ، وهو عليه شديد ، فله أجران" متفق عليه ، واللفظ للبخاري. {كِرَامٍ} أي كرام على ربهم ؛ قال الكلبي. الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في "كرام" قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو تبرز لغائطه. وقيل : أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. {بَرَرَةٍ} جمع بار مثل كافر وكفرة ، وساحر وسحرة ، وفاجر وفجرة ؛ يقال : بر وبار إذا كان أهلا للصدق ، ومنه بر فلان في يمينه : أي صدق ، وفلان يبر خالقه ويتبرره : أي يطيعه ؛ فمعنى "بررة" مطيعون لله ، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة "الواقعة" قولة تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنهم الكرام البررة في كتاب مكنون. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
17- {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}.
18- {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}.
19- {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}.
20- {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}.
21- {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}.
22- {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}.
23- {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}.
قوله تعالى : {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ؟ "قتل" أي لعن. وقيل : عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن {قُتِلَ الْأِنْسَانُ} فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وكان قد أمن ، فلما نزلت "والنجم" آرتد ، وقال : أمنت بالقرآن كله إلا النجم ، فأنزل الله جل ثناؤه فيه "قتل الإنسان" أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن ، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(19/217)
فقال : "اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة" فخرج من فوره بتجارة إلى الشام ، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا ، فجعلوه في وسط الرفقة ، وجعلوا المتاع حول ، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد ، فلما دنا من الرحال وثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس "ما أكفره" : أي شيء أكفره ؟ وقيل : "ما" تعجب ؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه ؛ والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا ؛ قال ابن جريج : أي ما أشد كفره! وقيل : "ما" استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر ؛ فهو استفهام توبيخ. و"ما" تحتمل التعجب ، وتحتمل معنى أي ، فتكون استفهاما. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر ؟ أي اعجبوا لخلقه. {مِنْ نُطْفَةٍ} أي من ماء يسير مهين جماد {خَلَقَهُ} فلم يغلط في نفسه ؟ ! قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. {فَقَدَّرَهُ} في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس : أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه ، وحسنا ودميما ، وقصيرا وطويلا ، وشقيا وسعيدا. وقيل : "فقدره" أي فسواه كما قال : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} . وقال : {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} . وقيل : "فقدره" أطوارا أي من حال إلى حال ؛ نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل : يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد : يسره لطريق الخير والشر ؛ أي بين له ذلك. دليله : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} و {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال : سبيل
(19/218)
الشقاء والسعادة. ابن زيد : سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه ؛ دليله قوله عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما ، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي ؛ قال الفراء. وقال أبو عبيدة : "أقبره" : جعل له قبرا ، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة : ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبدالرحمن ، قالت بنو تميم ودخلوا عليه : أقبرنا صالحا ؛ فقال : دونكموه. وقال : "أقبره" ولم يقل قبره ؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، قال الأعشى :
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
يقال : قبرت الميت : إذا دفنته ، وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر ، وجعل له قبرا ؛ تقول العرب : بترت ذنب البعير ، وأبتره الله ، وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله ، وطردت فلانا ، والله أطرده ، أي صيره طريدا. {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة "أنشره" بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة "شاء نشره" بغير ألف ، لغتان فصيحتان بمعنى ؛ يقال : أنشر الله الميت ونشره ؛ قال الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
قوله تعالى : {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} قال مجاهد وقتادة : "لما يقض" : لا يقضي أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول : {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل : "كلا" ردع وزجر ، أي ليس الأمر : كما يقول الكافر ؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال : {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال : كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن : أي حقا لم يقض : أي لم يعمل بما أمر به. و"ما" في قوله : "لما" عماد للكلام ؛ كقوله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وقول : {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
(19/219)
وقال الإمام ابن فورَك : أي : كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري : الوقف على "كلا" قبيح ، والوقف على "أمره" و"نشره" جيد ؛ فـ "كلا" على هذا بمعنى حقا.
24- {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}.
25- {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً}.
26- {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً}.
27- {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً}.
28- {وَعِنَباً وَقَضْباً}.
29- {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً}.
30- {وَحَدَائِقَ غُلْباً}.
31- {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}.
32- {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
قوله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ، ذكر ما يسر من رزقه ؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر ؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، ليستعد بها للمعاد. وروي عن الحسن ومجاهد قالا : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "يا ضحاك ما طعامك" قلت : يا رسول الله! اللحم واللبن ؛ قال : "ثم يصير إلى ماذا" قلت إلى ما قد علمته ؛ قال : "فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا" . وقال أبي بن كعب : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير" . وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه ؛ قال : يأتيه الملك فيقول أنظر ما بخلت به إلى ما صار ؟
(19/220)
قوله تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} قراءة العامة "إناء" بالكسر ، على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب "أنا" بفتح الهمزة ، فـ"أنا" في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ؛ كأنه قال : "فلينظر الإنسان إلى طعامه" إلى "أنا صببنا" فلا يحسن الوقف على "طعامه" من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت "أنا" بإضمار هو أنا صببنا ؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل : المعنى : لأنا صببنا الماء ، فأخرجنا به الطعام ، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي "أني" فقال ، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال : الوقف على "طعامه" تام. ويقال : معنى "أني" أين ، إلا أن فيها كناية عن الوجوه ؛ وتأويلها : من أي وجه صببنا الماء ؛ قال الكميت :
أني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
"صببنا الماء صبا" : يعني الغيث والأمطار. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي بالنبات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت والعلف ، عن الحسن : سمو ، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب : وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس : هو الرطب لأنه يقضب من النخل : ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا : أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل : القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قت. قال : والقضب : اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة ، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال : قضبا ، يعني جميع ما يقضب ، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح : والقضة والقضب الرطبة ، وهي الإسفست بالفارسية ، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. {وَزَيْتُوناً} وهي شجرة الزيتون {وَنَخْلاً} يعني النخيل {وَحَدَائِقَ} أي
(19/221)
بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي : وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. {غُلْباً} عظاما شجرها ؛ يقال : شجرة غلباء ، ويقال للأسد : الأغلب ؛ لأنه مصمت العنق ، لا يلتفت إلا جميعا ؛ قال العجاج :
ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب فاستعير ؛ قال قال عمرو بن معدي كرب :
يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم ... بزل كُسِين من الكحيل جِلالا
وحديقة غلباء : ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب : بلغ وألتف البعض بالبعض.
قال ابن عباس : الغلب : جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : عظام الأوساط والجذوع. مجاهد : ملتفة. {وَفَاكِهَةً} أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما {وَأَبّاً} هو ما تأكله البهائم من العشب ، قال ابن عباس والحسن : الأب : كل ما أنبتت الأرض ، مما لا يأكله الناس ، ما يأكله الآدميون هو الحصيد ؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل : إنما سمي أبا ؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم : أخوان ؛ قال :
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب به والمكرع
وقال الضحاك : والأب : كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين : هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال : الأب : ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
(19/222)
وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة : الأب : الثمار الرطبة. وقال الضحاك : هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا ؛ قال الشاعر :
فما لهم مرتع للسوا ... م والأب عندهم يقدر
الكلبي : هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل : الفاكهة : رطب الثمار ، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيمي : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت : في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب ؟ ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع ، فاسجدوا لله على سبع" . وإنما أراد بقول : "خلقتم من سبع" يعني {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} الآية ، والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} إلى قوله : "وفاكهة" ثم قال : "وأبا" وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. {مَتَاعاً لَكُمْ} نصب على المصدر المؤكد ، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره ، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به ، وقد مضى في غير موضع أيضا.
33- {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}.
34- {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}
35- {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}.
36- {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.
37- {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
38- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}.
39- {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}.
40- {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}.
41- {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}.
42- {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
(19/223)
قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية ، تصخ الأسماع : أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه ، ومنه الحديث : "ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس" . وقال الشاعر :
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء : وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء ، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد. وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه قال الراجز :
يا جارتي هل لك أن تجالدي ... جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب : صختهم الصاخة وباتتهم البائتة ، وهي الداهية. الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه. قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان :
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال آخر :
أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة.
قوله تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب ، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه ؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته ؛ لأنه لا يتفرغ لذلك ، لاشتغاله بنفسه ؛ كما قال بعده : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره. وقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه ، لما بينهم من التبعات. وقيل : لئلا يروا ما هو
(19/224)
فيه من الشدة. وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ؛ كما قال : {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم ، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ، وإبراهيم عليه السلام من أبيه ، ونوح عليه السلام من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من ، أبيه : إبراهيم ، وأول من يفر من ابنه نوح ؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت ، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" . خرجه الترمذي. عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يحشرون حفاة عراة غرلا" فقالت امرأة : أينظر بعضنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : "يا فلانة" "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" . قال : حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة ؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد "يعنيه" بفتح الياء ، وعين غير معجمة ؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي : يعنيه : يصرفه ويصده عن قرابته ، ومنه يقال : أعن عني وجهك : أي أصرفه واعن عن السفيه ؛ قال خفاف :
سيعنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مشرقة مضيئة ، قد علمت مالها من الفوز والنعيم ، وهي وجوه المؤمنين. " ضَاحِكَةٌ " أي مسرورة فرحة. " مُسْتَبْشِرَةٌ " : أي بما
(19/225)
آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني : "مسفرة" من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك : من آثار الوضوء. ابن عباس : من قيام الليل ؛ لما روي في الحديث : "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" يقال : أسفر الصبح إذا أضاء. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار ودخان {تَرْهَقُهَا} أي تغشاها {قَتَرَةٌ} أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا : ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة ، عن أبي عبيد ؛ وأنشد الفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم ، القترة : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والغبار والغبرة : واحد. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ} جمع كافر {الْفَجَرَةُ} جمع فاجر ، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل : الفاسق ؛ [يقال] : فجر فجورا : أي فسق ، وفجر : أي كذب. وأصله : الميل ، والفاجر : المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.
(19/226)