10- {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.
11- {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}
قوله تعالى : {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} {عَبُوساً} من صفة اليوم ، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس : العبوس : الضيق ، والقمطرير : الطويل ؛ قال الشاعر :
شديدا عبوسا قمطريرا
وقيل : القمطرير الشديد ؛ تقول العرب : يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى ؛ وأنشد الفراء :
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ؛ قال الشاعر :
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال الكسائي : يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا ، وهو القمطرير والزمهرير ، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا ؛ قال الهذلي :
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
(19/135)
وقال مجاهد : إن العبوس بالشفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين ؛ فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم ؛ وأنشد ابن الأعرابي :
يغدو على الصيد يعود منكسر ... ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو عبيدة : يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج : يقال أقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ، وزمت بأنفها ؛ فاشتقه من القطر ، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة :
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشطر قمطرير الصباح
قوله تعالى : {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} أي دفع عنهم {شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أي بأسه وشدته وعذابه
"ولقاهم" أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه {نَضْرَةً} أي حسنا {وَسُرُوراً} أي حبورا. قال الحسن ومجاهد : {نَضْرَةً} في وجوههم{وَسُرُوراً} في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه : أحدها أنها البياض والنقاء ؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء ؛ قال ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة ؛ قال ابن زيد.
12- {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}.
13- {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً}.
14- {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.
قوله تعالى : {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} على الفقر. وقال القرظي : على الصوم. وقال عطاء : على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و"ما" : مصدرية ، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال : "الصبر أربعة : أولها الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب" . {جَنَّةً وَحَرِيراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى
(19/136)
بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [وفيه] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم : أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
قوله تعالى : {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي في الجنة ؛ ونصب "متكئين" على الحال من الهاء والميم في "جزاهم" والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها "صبروا" ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت "متكئين" تابعا ، كأنه قال جزاهم جنة "متكئين فيها". {عَلَى الْأَرَائِكِ} السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير ، ومنها السجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، والكأس لا تسمو ، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى ، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان ؛ قال ذو الرمة :
خدود جفت في السير حتى كأنما ... يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش على السرر. {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس {وَلا زَمْهَرِيراً} أي ولا بردا مفرطا ؛ قال الأعشى :
منعمة طفلة كالمهاة ... لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف
(19/137)
من سمومها". وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن هواء الجنة سجسج : لا حر ولا برد" والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم :
أو كنت ريحا كنت زمهريرا
وقال ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة طيي ؛ قال شاعرهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى : ما ظهر ؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي إنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ؛ لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة "مريم" عند قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} . وقال ابن عباس : بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة ، فيقولون : قال ربنا : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمس ولا قمر ، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} وأنشد :
أنا مولى لفتى ... أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى ... وابن عم المصطفى
قوله تعالى : {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار ، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم ؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ،
(19/138)
وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال : إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت "دانية" على الحال عطفا على "متكئين" كما تقول : في الدار عبدالله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل : انتصبت نعتا للجنة ؛ أي وجزاهم جنة دانية ، فهي ، صفة لموصوف محذوف. وقيل : على موضع {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} ويرون دانية ، وقيل : على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. "ظلالها" الظلال مرفوعة بدانية ، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز ، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في "وجزاهم" وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبدالله "ودانيا عليهم" لتقدم الفعل. وفي حرف أبي "ودان" رفع على الاستئناف {وَذُلِّلَتْ} أي سخرت لهم " قُطُوفُهَا " أي ثمارها " تَذْلِيلاً " أي تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ؛ قاله قتادة. وقال مجاهد : إن قام أحدا ارتفعت له ، وإن جلس تدلت عليه ، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا : أرض الجنة من ورق ، وترابها الزعفران ، وطيبها مسك أذفر ، وأصول شجرها ذهب وورق ، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، والثمر تحت ذلك كله ؛ فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقال ابن عباس : إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد ، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف : الثمار ، الواحد قطف بكسر القاف ، سمي به لأنه يقطف ، كما سمي الجنى لأنه يجنى. {تَذْلِيلاً} تأكيد لما وصف به من الذل ؛ كقوله : {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . الماوردي : ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها.
قلت : وفي هذا بعد ؛ فقد روى ابن المبارك ، قال : أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد
(19/139)
بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ليس فيه عجم. قال أبو جعفر النحاس : ويقال المذلل الذي قد ذلّله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال المذلل المسوى ؛ لأن أهل الحجاز يقولون : ذلل نخلك أي سوه ، ويقال المذلل القريب المتناول ، من قولهم : حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس :
وساق كأنبوب السقي المذلل
15- {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا}.
16- {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}.
17- {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً}.
18- {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً}.
قوله تعالى : {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة ، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} . وقيل : نبه بذكر الفضة على الذهب ؛ كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] أي والبرد ؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب : الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى ، الواحد منها كوب ؛ وقال عدي :
متكئا تقرع أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى في "الزخرف". "قوارير من فضة" أي في صفاء القوارير وبياض الفضة ؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل : أرض الجنة
(19/140)
من فضة ، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه ، إلا القوارير من فضة. وقال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء ، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قراءة العامة بفتح القاف والدال ؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريهم ، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى : وذلك ألذ وأشهى ؛ والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا : قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص ، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل : إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين "قدروها" بضم القاف وكسر الدال ؛ أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ؛ وقال : ومن قرأ "قدروها" فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى ، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر ؛ والمعنى قدرت عليهم ؛ وأنشد سيبويه :
آليت حب العراق الدهر آكله ... والحب يأكله في القرية السوس
وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل : هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب ؛ وذلك قوله تعالى : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه ، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول".
قوله تعالى : {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} وهي الخمر في الإناء.{كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} "كان" صلة ؛ أي مزاجها زنجبيل ، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من
(19/141)
الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة :
وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
ويروى. الكرم. وقال آخر :
كأن جنيا من الزنجبيـ ... ـل بات بفيها وأريا مشورا
ونحوه قول الأعشى :
كأن القرنفل والزنجبيـ ... ــــل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال مجاهد : الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة : والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل : هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل : إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. {عَيْناً} بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى : {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . {فِيهَا} أي في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} السلسبيل الشراب اللذيذ ، وهو فعليل من السلالة ؛ تقول العرب : هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى ؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح : وتسلسل الماء في الحلق جرى ، وسلسلته أنا صببته فيه ، وماء سلسل وسلسال : سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه ، والسلاسل بالضم مثله. وقال الزجاج : السلسبيل في اللغة : اسم لما كان في غاية السلاسة ؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال : سلسبيلا : حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.
ونحوه عن ابن عباس : إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي ؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
(19/142)
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو العالية ومقاتل : إنما سميت سلسبيلا ؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم ، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة : سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال : أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله : "تسمى" أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل ؛ لأنه رأس آية ؛ كقوله تعالى : {الظُّنُونَا} و {السَّبِيلا} .
19- {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً}.
20- {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}.
21- {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
22- {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً}.
قوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} بين من الذي يطوف عليهم بالآنية ؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون ، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال : {مُخَلَّدُونَ} أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل : مخلدون لا يموتون. وقيل : مسورون مقرطون ؛ أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم : لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس ، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل ، وهو
(19/143)
على بساط منسوج من ذهب ، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال : لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول :
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقيل : إنما شبههم بالمنثور ؛ لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون ؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} "ثم" : ظرف مكان أي هناك في الجنة ، والعامل في "ثم" معنى "رأيت" أي وإذا رأيت ببصرك "ثم". وقال الفراء : في الكلام "ما" مضمرة ؛ أي وإذا رأيت ما ثم ؛ كقوله تعالى : {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي ما بينكم. وقال الزجاج : "ما" موصولة "بثم" على ما ذكره الفراء ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ، ولكن "رأيت" يتعدى في المعنى إلى "ثم" والمعنى : إذا رأيت ببصرك "ثم" ويعني "بثم" الجنة ، وقد ذكر الفراء هذا أيضا.
والنعيم : سائر ما يتنعم به. والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ؛ قال السدي وغيره. قال الكلبي : هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله ، فيستأذن عليه ؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل : الملك الكبير : هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا ، حاجبا دون حاجب ، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله ، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط ، فيقول للحاجب الخارج : استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه : هذا رسول من رب العالمين ، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله ؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له : يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك ، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له ؟ فيقول : نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه : نعم فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ
(19/144)
الحاجب الآخر. فيقول له : نعم أيها الملك ؛ قد أذن لك ، فيدخل فيسلم عليه ويقول : السلام يقرئك السلام ، وهذه تحفة ، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه : من الحي الذي لا يموت ، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه : سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي ، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك ؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب ، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم ؛ دليله قوله تعالى : {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وقيل : الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم : يعني ملك التكوين ، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق : ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الملك الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه" قال : "وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين" سبحان المنعم.
قوله تعالى : {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} قرأ نافع وحمزة وابن محيصن "عاليهم" ساكنة الياء ، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما "عاليتهم" وبتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء : وهو مرفوع بالابتداء وخبره "ثياب سندس" واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و"ثياب" مرتفعة به وسدت مسد الخبر ، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص ، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ الباقون "عاليهم" بالنصب. وقال الفراء : هو كقولك فوقهم ، والعرب تقول : قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف ، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال : هو مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله :
(19/145)
"يطوف عليهم" أي على الأبرار "ولدان" عاليا الأبرار ثياب سندس ؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال ، والثاني : أن يكون حالا من الولدان ؛ أي {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي : العامل في الحال إما {لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} وإما {جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} قال : ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي : ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا ؛ كقولك هو ناحية من الدار ، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم "خضر" بالجر على نعت السندس "وإستبرق" بالرفع نسقا على الثياب ، ومعناه عاليهم [ثياب] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب "خضر" رفعا نعتا للثياب "وإستبرق" بالخفض نعتا للسندس ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه ؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس ، والمعنى : عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق ، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون "خضر" نعتا للثياب ؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع "وإستبرق" عطفا على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله : "خضر" نعتا للسندس ، والسندس اسم جنس ، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له ؛ وتقول : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة : عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق ، إلا ابن محيصن ، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ "وإستبرق" نصبا في موضع الجر ، على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط ؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ابن محيصن] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ "واستبرق" بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا ، لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبرك والسندس : ما رق من الديباج. والإستبرق : ما غلظ منه. وقد تقدم.
(19/146)
قوله تعالى : {وَحُلُّوا} عطف على "ويطوف". {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} وفي سورة الحج {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} ، فقيل : حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل : تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع لهم محاسن الجنة ؛ قاله سعيد بن المسيب. وقيل : أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تتشعث أشعارهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك ، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة ، تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد ، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن علي ، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة "الفرقان" والحمد لله. وقال طيب الجمال : صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وجعل يحرك شفتيه وفمه ، كأنه يمص شيئا ، فلما فرغ قيل له : أتشرب أم تقرأ ؟ فقال : والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.
قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم : إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. "وكان سعيكم" أي عملكم {مَشْكُوراً} أي من قبل الله ، وشكره للعبد قبول طاعته ، وثناؤه عليه ، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال : غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال
(19/147)
مجاهد : {مَشْكُوراً} أي مقبولا والمعنى متقارب ؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره ، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل ؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر : أن رجلا حبشيا قال : يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به ، وعملت بما عملت ، أكائن أنا معك في الجنة ؟ قال : "نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد ، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" ، فقال الرجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال : "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته" . قال : ثم نزلت {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله : {وَمُلْكاً كَبِيراً} قال الحبشي : يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى ، عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم" فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول : {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} قلنا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : "والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت ، فنعم أجر العاملين" .
23- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً}.
24- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}.
25- {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
26- {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}
قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} ما افتريته ولا جئت به من عندك ، ولا من تلقاء نفسك ، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد ، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه ، فليس بسحر
(19/148)
ولا كهانة ، ولا شعر ، وأنه حق. وقال ابن عباس : أنزل القرآن متفرقا : آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة ؛ فلذلك قال "نزلنا" وقد مضى القول في هذا مبينا والحمد لله.
قوله تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : اصبر على أذى المشركين ؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل : أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات ، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم ، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي ذا إثم {أَوْ كَفُوراً} أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال : قال أبو جهل : إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}.
ويقال : نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج ، على أن يترك ذكر النبوة ، ففيهما نزلت : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} قال مقاتل : الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة ؛ قال : إن بناتي من أجمل نساء قريش ، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال ، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر ؛ فنزلت. ثم قيل : "أو" في قوله تعالى : {آثِماً أَوْ كَفُوراً} أوكد من الواو ؛ لأن الواو إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص ؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين ، فإذا قال : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "فأو" قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي ؛ كما أنك إذا قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين ، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت : هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع ؛ قاله الزجاج. وقال الفراء : "أو" هنا بمنزلة "لا" كأنه قال : ولا كفورا ؛ قال الشاعر :
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع
أو وجد شيخ أضل ناقته ... يوم توافى الحجيج فاندفعوا
(19/149)
أراد ولا وجد شيخ. وقيل : الآثم المنافق ، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر ؛ أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.
قوله تعالى : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي صل لربك أول النهار وآخره ، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التطوع في الليل ؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل : هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره : إن قوله : {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} منسوخ بالصلوات الخمس وقيل : هو ندب. وقيل : هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة "المزمل" وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل : الأصائل والأصل ؛ كقولك سفائن وسفن ؛ قال : ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل ، وهو جمع الجمع :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقد مضى في آخر "الأعراف" مستوفى. ودخلت "من" على الظرف للتبعيض ، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
27- {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}.
28- {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}.
قوله تعالى : {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} توبيخ وتقريع ؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا {وَيَذَرُونَ} أي ويدعون {وَرَاءَهُمْ} أي بين أيديهم {يَوْماً ثَقِيلاً}
(19/150)
أي عسيرا شديدا كما قال : {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل : "ورائهم" أي خلفهم ، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم ، فلا يعملون لها. وقيل : "نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة : أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين ؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل : للقضاء فيه بين عباده.
قوله تعالى : {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} أي من طين. {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي خلقهم ؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق ؛ قال أبو عبيد : يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه ؛ قال لبيد :
ساهم الوجه شديد أسره ... مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال الأخطل :
من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا
وقال أبو هريرة والحسن والربيع : شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر : هو الشرج ، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا :
يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صم السنابك لا تقي بالجدجد
واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب ؛ يقال : أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه ؛ ويقال : ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه ؛ ومنه قولهم : خذه
(19/151)
بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله ؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير ، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} قال ابن عباس : يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا : لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.
29- {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}.
30- {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
31- {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ} أي السورة {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل : {سَبِيلاً} أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. {وَمَا تَشَاءُونَ} أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم ، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم ، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "وما يشاؤون" بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} جواب لقوله : {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال : {وَمَا تَشَاءُونَ} ذلك السبيل {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لكم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بأعمالكم {حَكِيماً} في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع.
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخله الجنة راحما له {وَالظَّالِمِينَ} أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج : نصب الظالمين لأن قبله منصوب ؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون {أَعَدَّ لَهُمْ} تفسيرا لهذا المضمر ؛ كما قال الشاعر :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج : والاختيار النصب وإن جاز الرفع ؛ تقول : أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا ، فيختار النصب ؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في "الشورى" : {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ} ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى ؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله : {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً} يدل على ويعذب ، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان {وَالظَّالِمِينَ} رفعا بالابتداء والخبر {أَعَدَّ لَهُمْ} . {عَذَاباً أَلِيماً} أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة "البقرة" وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.
(19/152)