المجلد التاسع عشر
سورة الجن
...
11- {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً}.
12- {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً}.
قوله تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} هذا من قول الجن ، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل : "ومنا دون ذلك" أي ومن دون الصالحين في الصلاح ، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك .{كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أي فرقا شتى ؛ قاله السدي. الضحاك : أديانا مختلفة. قتادة : أهواء متباينة ؛ ومنه قول الشاعر :
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى : {طَرَائِقَ قِدَداً} قال : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة ، وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية. وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون : منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن ؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضا لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل ، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال : القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد : نحو من الطرائق وهو توكيد لها ، واحدها : قدة. يقال : لكل طريق قدة ، وأصلها من قد السيور ، وهو قطعها ؛ قال لبيد يرثي أخاه أربد :
لم تبلغ العين كل نهمتها ... ليلة تمسي الجياد كالقدد
(19/15)
وقال آخر :
ولقد قلت وزيد حاسر ... يوم ولت خيل عمرو قددا
والقد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ؛ ويقال : ماله قد ولا قحف ؛ فالقد : إناء من جلد ، والقحف : من خشب.
قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} الظن هنا بمعنى العلم واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا } أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله ، أنا في قبضته وسلطانه ، لن نفوته بهرب ولا غيره. و"هربا" مصدر في موضع الحال أي هاربين.
13- {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً}.
14- {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً}.
15- {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}.
قوله تعالى : {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} يعني القرآن {آمَنَّا بِهِ} وبالله ، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن : "بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن ، ولا من أهل البادية ، ولا من النساء ؛ وذلك قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقد تقدم هذا المعنى. وفي الصحيح : "وبعثت إلى الأحمر والأسود" أي الإنس والجن.
قوله تعالى : {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} قال ابن عباس : "لا يخاف
(19/16)
أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته ؛ لأن البخس النقصان"
والرهق : العدوان وغشيان المحارم ؛ قال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
الوامق : المحب ؛ وقد وَمِقَه يمِقه بالكسر أي أحبه ، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن ؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة "فلا يخاف" رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم "فلا يخف" جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء.
قوله تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل ؛ لأنه عادل إلى الحق ؛ يقال : قسط : أي جار ، وأقسط : إذا عدل ؛ قال الشاعر :
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي وقودا. وقوله : "فكانوا" أي في علم الله تعالى.
16- {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}.
17- {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}
قوله تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي ؛ أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر : كل ما في هذه السورة من "إن" المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من
(19/17)
أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري : ومن كسر الحروف وفتح "وأن لو استقاموا" أضمر يمينا تاما ، تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ؛ كما يقال في الكلام : والله أن قمت لقمت ، ووالله لو قمت قمت ؛ قال الشاعر :
أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على "أوحي إلي أنه" ، "وأن لو استقاموا" أو على "آمنا به" وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى "أن" المخففة ، أن يعطف المخففة على "أوحي إلي" أو على "آمنا به" ، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من "لو" لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و {مَاءً غَدَقاً} أي واسعا كثيرا ، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين ؛ يقال : غدقت العين تغدق ، فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها. وقيل : المراد الخلق كلهم أي "لو استقاموا على الطريقة" طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين "لأسقيناهم ماء غدقا" أي كثيرا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية : "أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى "لأسقيناهم" لوسعنا عليهم في الدنيا" ؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون ، فأقيم مقامه ؛ كقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن : "كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي ، ففتنوا بها ، فوثبوا على إمامهم فقتلوه". يعني عثمان بن عفان.
وقال الكلبي وغيره : {وَأًنْ
(19/18)
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم ، حتى يفتتنوا بها ، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز ؛ واستدلوا بقوله تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية. وقوله تعالى : {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} الآية ؛ والأول أشبه ؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام ، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى ؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : "بركات الأرض" وذكر الحديث. وقال عليه السلام : "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
قوله تعالى : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} يعني القرآن ؛ قال ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان : أحدهما عن القبول ، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل ، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} أي لم يشكر نعمه "يسلكه عذابا صعدا" قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو "يسلكه" بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لذكر اسم الله أولا فقال : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ}. الباقون "نسلكه" بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان ، سلكه وأسلكه بمعنى ؛ أي ندخله. {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقا شديدا. قال ابن عباس : هو جبل ، في جهنم. "أبو سعيد الخدري" : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس : أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد : المشقة ، تقول : تصعدني الأمر : إذا شق عليك ؛ ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، أي ما شق علي.
(19/19)
وعذاب صعد أي شديد. والصعد : مصدر صعد ؛ يقال : صعد صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب ؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة : الصعد مصدر ؛ أي عذابا ذا صعد ، والمشي في الصعود يشق. والصعود : العقبة الكؤود. وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء ، يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أيضا صعودها ، فذلك دأبه أبدا ، وهو قوله تعالى : {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} .
18- {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} "أن" بالفتح ، قيل : هو مردود إلى قوله تعالى : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي قل أوحي إلي أن المساجد لله. وقال الخليل : أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير : قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن : أراد بها كل البقاع ؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : "أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد" وفي الصحيح : "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" .
وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه ؛ يقول : هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد لغيره بها ، فتجحد نعمة الله. قال عطاء : مساجدك : أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين" . وقال العباس قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(19/20)
"إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب" . وقيل : المساجد هي الصلوات ؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم ، ويقال بالفتح ؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل : هو جمع مسجد وهو السجود ، يقال : سجدت سجودا ومسجدا ، كما تقول : ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح : إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد ؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله ، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله.
الثانية- قوله تعالى : "لله" إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال : {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} وقال عليه السلام : "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" . قال ابن العربي : وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا" ولو صح هذا لكان نصا.
قلت : هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة "إبراهيم".
الثالثة- المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا ؛ فيقال : مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد
(19/21)
بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم ، وقد تكون بتحبيسهم ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
الرابعة- مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها ، وربط الأسير والنوم فيها ، وسكنى المريض فيها ، وفتح الباب للجار إليها ، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة "التوبة". و"النور" وغيرهما.
الخامسة- قوله تعالى : {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول : فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد. وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله ، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا ، ولا طرقا ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفي الصحيح : "من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" وقد مضى في سورة "النور" ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.
روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار" فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى ؛ وقال : "اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا ، واجعل لي في الأرض جدا" أي غنى.
(19/22)
19- {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}.
20- {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}.
21- {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} يجوز الفتح ؛ أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و"عبد الله" هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ، حسب ما تقدم أول السورة. "يدعوه" أي يعبده. وقال ابن جريج : {يَدْعُوهُ} أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال الزبير بن العوام : هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون ، حرصا على سماع القرآن. وقيل : كادوا يركبونه حرصا ؛ قال الضحاك. ابن عباس : رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول : أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا : إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل : المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا ، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني {أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى : كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد : قوله "لبدا" جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه ، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا
(19/23)
فقد لبدته ، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ؛ قال زهير :
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لِبَد أظفاره لم تقلَّم
ويقال للجراد الكثير : لبد وفيه أربع لغات وقراءات ؛ فتح الباء وكسر اللام ، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء ، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام ، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء ، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها ، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد ؛ مثل راكع وركع ، وساجد وسجد. وقيل : اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم ؛ ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه ؛ قال النابغة :
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
القشيري : وقرئ "لبدا" بضم اللام والباء ، وهو جمع لبيد ، وهو الجولق الصغير. وفي الصحاح : "وقوله تعالى" {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} أي جما.
ويقال أيضا : الناس لبد أي مجتمعون ، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [منزله]. قال الشاعر :
من امرئ ذي سماح لا تزال له ... بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد
ويروى : اللبد. قال أبو عبيد : وهو أشبه.
والبزلاء : الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء : إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام ؛ قال الشاعر :
إني إذا شغلت قوما فروجهم ... رحب المسالك نهاض ببزلاء
(19/24)
ولبد : آخر نسور لقمان ، وهو ينصرف ؛ لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها ، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر ، من أظب عفر ، في جبل وعر ، لا يمسها القطر ؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر ، فاختار النسور ، وكان آخر نسوره يسمى لبدا ، وقد ذكرته الشعراء ؛ قال النابغة :
أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملو ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
واللبيد : الجوالق الصغير ؛ يقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد : اسم شاعر من بني عامر.
قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي قال صلى الله عليه وسلم : "إنما أدعو ربي" {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} وكذا قرأ أكثر القراء "قال" على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم "قل" على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له : إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك ؛ فنزلت. {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل : "لا أملك لكم ضرا" أي كفرا "ولا رشدا" أي هدى ؛ أي إنما علي التبليغ. وقيل : الضر : العذاب ، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة.
22- {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}.
23- { إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.
24- {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}.
25- {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً}.
(19/25)
قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته ؛ وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال : انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أزجلهم عنك ؛ فقال : {إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} ذكره الماوردي. قال : ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي ملتجأ ألجأ إليه ؛ قال قتادة. وعنه : نصيرا ومولى. السدي : حرزا. الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل : وليا ولا مولى. وقيل : مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة ، والمعنى واحد ؛ ومنه قول الشاعر :
يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
قوله تعالى : {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} فإن فيه الأمان والنجاة ؛ قال الحسن.
وقال قتادة : {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ} فذلك الذي أملكه بتوفيق الله ، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل : هو استثناء ومنقطع من قوله : {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به ؛ قاله الفراء. وقال الزجاج : هو منصوب على البدل من قوله : {مُلْتَحَداً} أي {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته ؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته ، فآخذ نفسي بما أمر به غيري.
وقيل هو مصدر ، و"لا" بمعنى لم ، و"إن" للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا : أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في التوحيد والعبادة. {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} كسرت إن ؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. {خَالِدِينَ فِيهَا} نصب على
(19/26)
الحال ، وجمع "خالدين" لأن المعنى لكل من فعل ذلك ، فوحد أولا للفظ "من" ثم جمع للمعنى. وقوله "أبدا" دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل : هو المعاصي غير الشرك ، ويكون معنى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة ، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة "النساء" وغيرها.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} "حتى" هنا مبتدأ ، أي {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} من عذاب الآخرة ، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل ببدر {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} أهم أم المؤمنون. {وَأَقَلُّ عَدَداً} معطوف. {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني قيام الساعة. وقيل : عذاب الدنيا ؛ أي لا أدري "فإن" بمعنى "ما" أو "لا" ؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله ؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و"ما" في قوله : "ما يوعدون" : يجوز [أن يكون مع الفعل مصدرا ، ويجوز] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح.
26- {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً}.
27- {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}
فيه مسألتان :
قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ} "عالم" رفعا نعتا لقوله : "ربي". وقيل : أي هو "عالم الغيب" والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه .{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ؛
(19/27)
لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ؛ وفي التنزيل : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . وقال ابن جبير : {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى : أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة ، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالا على نبوته.
قال العلماء رحمة الله عليهم : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم ، وتباين رتبهم ، فيهم الملك والسوقة ، والعالم والجاهل ، والغني والفقير ، والكبير والصغير ، مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ؟ فإن قال المنجم قبحه الله : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم ، ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
حكم المنجم أن طالعَ مولدي ... يقضي علي بمِيتة الغَرِق
قل للمنجم صَبحة الطوفان هل ... ولد الجميع بكوكب الغرق
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال رضي الله عنه : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه
(19/28)
الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا ، اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ؛ وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم ، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده ، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال : يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به ؛ فإنه يكفي ممن سواه.
قوله تعالى : {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان ؛ فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد : "رصدا" أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب : هم أربعة من الملائكة حفظة.
وقال الفراء : المراد جبريل ؛ كان
(19/29)
إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي ، فيلقوه إلى كهنتهم ، فيسبقوا الرسول. وقال السدي : "رصدا" أي حفظة يحفظون الوحي ، فما جاء من عند الله قالوا : إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان. و"رصدا" نصب على المفعول. وفي الصحاح : والرصد القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشيء الراقب له ؛ يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.
28- {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}
قوله تعالى : {لِيَعْلَمَ} قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام ؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه ؛ قال ابن جبير. قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل : ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل : أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة : أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة "ليعلم" بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء ؛ كقوله تعالى : {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عندهم ، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير : المعنى : ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته. {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء. و"عددا" نصب على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد ، وإن شئت على المصدر ، أي أحصى وعد كل شيء عددا ، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى ، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله وحده.
(19/30)