سورة الحاقة
مقدمة السورة
روى أبو الزاهرية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال. ومن قرأها كانت له نورا يوم القيامة من فوق رأسه إلى قدمه".
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {الْحَاقَّةُ}
الآية : [2] {مَا الْحَاقَّةُ}
الآية : [3] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}
قوله تعالى : {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} يريد القيامة ؛ سميت بذلك لأن الأمور تُحَقّ فيها ؛ قاله الطبري. كأنه جعلها من باب "ليل نائم". وقيل : سميت حاقة لأنها تكون من غير شك. وقيل : سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة ، وأحقت لأقوام النار. وقيل : سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الأزهري : يقال حاققته فحققته أحقه ؛ أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل ؛ أي كل مخاصم. وفي الصحاح : وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق ؛ فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء : إنه لنزق الحقاق. ويقال : مال فيه حق ولا حقاق ؛ أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق : الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج : الحاقة يوم الحق. وتقول العرب : لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الأولى رفع بالابتداء ، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو { مَا الْحَاقَّةُ} لأن معناها ما هي. واللفظ استفهام ، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها ؛ كما تقول : زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} استفهام أيضا ؛ أي أي شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها : وما أدراك ما هي ؛ كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن{ وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شيء قال : {وَمَا يدْرَيكَ} فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : { وَمَا أَدْرَاكَ} فأنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : {وَمَا يدْرَيكَ} فإنه لم يخبر به.
الآية : [4] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}
ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة ؛ سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال : أصابتهم قوارع الدهر ؛ أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه
(18/257)
وقوارص لسانه ؛ جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الإنس ، نحو آية الكرسي ؛ كأنها تقرع الشيطان. وقيل : القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين ؛ قاله المبرد. وقيل : عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ؛ وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح ؛ وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق : وهو وادي القرى ؛ وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود ؛ وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف : الرمل بين عمان إلى حضر موت واليمن كله ؛ وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة ؛ ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم.
الآية : [5] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}
فيه إضمار ؛ أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة : أي بالصيحة الطاغية ؛ أي المجاوزة للحد ؛ أي لحد الصيحات من الهول. كما قال : {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} والطغيان : مجاوزة الحد ؛ ومنه : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي جاوز الحد. وقال الكلبي : بالطاغية بالصاعقة. وقال مجاهد : بالذنوب. وقال الحسن : بالطغيان ؛ فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم. وقيل : إن الطاغية عاقر الناقة ؛ قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة ، وكان واحدا ، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله ومالؤوه. وقيل له طاغية كما يقال : فلان راوية الشعر ، وداهية وعلامة ونسابة.
الآية : [6] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}
الآية : [7] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}
(18/258)
قوله تعالى : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار ؛ مأخوذ من الصر وهو البرد ؛ قال الضحاك. وقيل : إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد : الشديدة السموم. { عَاتِيَةٍ} أي عتت على خزانها فلم تطعهم ، ولم يطيقوها من شدة هبوبا ؛ غضبت لغضب الله. وقيل : عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى بن المسيب عن شهر بن حوشب عن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أرسل الله من نسمة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه. سبيل - ثم قرأ - {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل - ثم قرأ - {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار. { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} أي متتابعة لا تفر ولا تنقطع ؛ عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء : الحسوم التباع ، من حسم الداء إذا كوي صاحبه ، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي :
ففرق بين بينهم زمان ... تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد : هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل : الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام ؛ لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر :
حسام إذا قمت معتضدا به ... كفى العود منه البدء ليس بمعضد
والمعنى أنها حسمتهم ، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد : حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها.
(18/259)
لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث : الحسوم الشؤم. ويقال : هذه ليالي الحسوم ، أي تحسم الخير عن أهلها ، وقال في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس : مشائيم ، دليله قوله تعالى : {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} عطية العوفي : { حُسُوماً} أي حسمت الخير عن أهلها. واختلف في أولها ، فقيل : غداة يوم الأحد ، قاله السدي. وقيل : غداة يوم الجمعة ، قال الربيع بن أنس. وقيل : غداة يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب : وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز ، ذات برد وريح شديدة ، وكان أولها يوم الأربعاء وأخرها يوم الأربعاء ؛ ونسبت إلى العجوز لأن عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وقيل : سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة ، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر :
كُسِع الشتاء بسبعة غبرِ ... أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيامها ومضت ... صِنٌّ وصَنَّبْر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعَلِّل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا ... وأتتك واقدة من النجْر
و {حُسُوماً} نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج : أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم ، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له ؛ أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال ؛ أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي {حُسُوماً} بالفتح ، حالا من الريح ؛ أي سخرها عليهم مستأصلة.
(18/260)
قوله تعالى : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} أي في تلك الليالي والأيام. {صَرْعَى} جمع صريع ؛ يعني موتى. وقيل : " فِيهَا " أي في الريح. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} أي أصول. {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي بالية ؛ قاله أبو الطفيل. وقيل : خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ؛ أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة : كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام ؛ إنما قال "خاوية" لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع ؛ كما قال تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا ؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.
الآية : [8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}
أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل : من بقية. وقيل : من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر ؛ نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما ؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ذلك قوله عز وجل : {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} ، وقوله عز وجل : {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}.
الآية : [9] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}
قوله تعالى : {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قرأ أبو عمرو والكسائي "ومن قبله" بكسر القاف وفتح الباء ؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا
(18/261)
بقراءة عبدالله وأبي "ومن معه". وقرأ أبو موسى الأشعري "ومن تلقاءه". الباقون " قَبْلَهُ " بفتح القاف وسكون الباء ؛ أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري " وَالْمُؤْتَفِكَة" على التوحيد. قال قتادة : إنما سميت قرى قوم لوط {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} لأنها ائتفكت بهم ، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : خمس قريات : صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم ؛ وهي القرية العظمى. {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد : بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني : أي بالخطأ العظيم ؛ فالخاطئة مصدر.
الآية : [10] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}
قوله تعالى : {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال الكلبي : هو موسى. وقيل : هو لوط لأنه أقرب. وقيل : عنى موسى ولوطا عليهما السلام ؛ كما قال تعالى : {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقيل : "رسول" بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ؛ قال الشاعر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال : ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد : شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.
الآية : [11] {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}
الآية : [12] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}
(18/262)
قوله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي ارتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه : طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس : طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب : زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : {حَمَلْنَاكُمْ} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {فِي الْجَارِيَةِ} أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
قوله تعالى : {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم ؛ في قول قتادة. قال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي. والمعنى : أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح ، وإنجاء الله آباءكم ؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء. وقيل : لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم ؛ ولهذا قال الله تعالى : {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج : ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي ، أعيه وعيا. ووعيت العلم ، ووعيت ما قلت ؛ كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : " وَاعِيَةٌ " بالألف ، ولما حفظته في نفسك " وَعِيَتةٌ " بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج " وَتَعِيَهَا " بإسكان العين ؛ تشبيها بقول : {أَرِنَا} واختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين ؛ ونظير قوله تعالى : {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وقال قتادة : الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من
(18/263)
كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : "سألت ربي أن يجعلها أذن علي". قال مكحول : فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال : لما نزلت {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي" قال علي : فوالله ما نسيت شيئا بعد ، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : "يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحقٌّ على الله أن تَعِيَ".
الآية : [13] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}
قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير " نُفِخَ " لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل : إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال : {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} أي لا تثنى. قال الأخفش : ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل : نفخة. ويجوز "نفخة" نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال : اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول : ضرب ضربا. وقال الزجاج : " فِي الصُّورِ " يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
الآية : 14 {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}
قوله تعالى : {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} قراءة العامة بتخفيف الميم ؛ أي رفعت من أماكنها. {فَدُكَّتَا} أي فتتا وكسرتا. {دَكَّةً وَاحِدَةً} لا يجوز في {دَكَّةً} إلا النصب لارتفاع الضمير في "دكتا". وقال الفراء : لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله : {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة ؛ كما قال تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} وقيل : {دُكَّتَا}
(18/264)
أي بسطتا بسطة واحدة ؛ ومنه أندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة "الأعراف" القول فيه. وقرأ عبدالحميد عن ابن عامر {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ } بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كانه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال ؛ ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جيء بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه ؛ فكأنه قال : وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال : حُمِّلَت الأرضُ الملَك ؛ كقولك : أُلبِس زيدٌ الجبة ، وأُلبِست الجبةُ زيداً.
الآية : [15] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}
الآية : [16] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}
الآية : [17] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}
قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} أي أنصدعت وتفطرت. وقيل : تنشق لنزول ما فيها من الملائكة ؛ دليله قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقد تقدم. {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي ضعيفة. يقال : وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال : كلام واه ؛ أي ضعيف. فقيل : إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل : لهول يوم القيامة. وقيل : { وَاهِيَةٌ } أي متخرقة ؛ قال ابن شجرة. مأخوذ من قولهم : وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم :
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن أهريق بالفلاة ماؤه
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. {وَالْمَلَكُ} يعني الملائكة ؛ اسم للجنس. {عَلَى أَرْجَائِهَا} أي على أطرافها حين تنشق ؛ لأن السماء مكانهم ؛ عن ابن عباس. الماوردي : ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم ينشق منها.
(18/265)
يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير : المعنى والملك على حافات الدنيا ؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل : إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل : إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم ؛ فيندوا كما تند الإبل ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا. وقيل : {عَلَى أَرْجَائِهَا } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه : {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} على ما بيناه هناك. والأرجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل ، واحدها رجا مقصور ، وتثنيته رجوان ؛ مثل عصا وعصوان. قال الشاعر :
فلا يرمى بي الرجوان أني ... أقل القوم من يغني مكاني
ويقال ذلك لحرف البئر والقبر.
قوله تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال ابن عباس : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك. وعن الحسن : الله أعلم كم هم ، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية". ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية". وقال العباس بن عبدالملك : هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث "إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس". ولما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت :
(18/266)