الأسباب الجالبة للمحبة :
" الشعور بحب الله ليس متاحاً لكل إنسان ، إنه سمو يتخير الله له من يشاء ، ولذلك ختمت الآية بقوله سبحان : ] ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم [ سورة المائدة ، آية (54) .
" إنها منة تسيل من عين الوجود قبل أن تكون كسباً تتجه إليه الإرادة !
ومن حقك أن تسأل : كيف ذلك ؟ أليس هذا كلام مما يقعد الهمم ويبذر اليأس ؟ ونجيب : كلا ، والأمر يحتاج إلى زيادة إيضاح :
إن المواهب الإنسانية الرفيعة لا تنشأ أصلاً من كسب الإنسان ، بل لابد أن يسبقها استعداد فطري يولد المرء به ، ولا يد له فيه .
وجمهور العباقرة والممتازين ترجع عظمتهم ابتداءً إلى أصالة في معادنهم الفكرية والنفسية ، لا توجد في غيرهم ثم يتعهدون هذه الطبائع الفذة بما يبلغ بها للغاية ..
إن صدقة الغني عمل مشكور يدخر له يوم القيامة ، بيد أن الفضل الأول لمن أغناه فأقدره على النفقة في سبيله . فكسـب العبـد بيـده أو قصده بقلبه ، لا ينسيان منة الوهاب الكبير ، ولذلك ننسب لله الفضل في ( كل ) الأعمال الصالحة التي نقوم بها عن اختيار محض .([1])
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله ) في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها أنها عشرة :
أحدهما : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به .
الثاني : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ( كما في الحديث أول المبحث ) .
الثالث : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب .
الرابع : إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى .
الخامس : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ، ومشاهدتها ومعرفتها ، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها ، فمن عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة .
السادس : مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ، ونعمه الباطنة والظاهرة ، فإنها داعية إلى محبته
السابع : وهو من أعجبها = انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى ، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات .
الثامن : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة .
التاسع : مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما تنتقي أطايب الثمر ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام ، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ، ومنفعة لغيرك .
العاشر : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل .
فمن هذه الأسباب العشرة : وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب ، وملاك ذلك كله أمران : استعداد الروح لهذا الشأن ، وانفتاح عين البصيرة . وبالله التوفيق
والكلام في هذه المنزلة معلق بطرفين : طرق محبة العبد لربه ، وطرف محبة الرب لعبده . والذي أجمع عليه العارفون أنه يحبهم ، وأنهم يحبونه – على إثبات الطرفين – كما في قوله
قوله تعالى ] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسـوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم [ سورة المائدة ، آية (154) (2)
مراتب المحبة :
وللمحبة مراتب ودرجات ، حصرها ابن القيم في عشرة مراتب :
أولها: العلاقة : وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب .
الثانية: الإرادة : وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له .
الثالثة: الصبابة : وهي انصباب القلب إليه ، بحيث لا يملكه صاحبه .
الرابعة:الغرام ، وهو الحب الملازم للقلب ،الذي لا يفارقه بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه
الخامسة: الوداد : وهو صـفو المحبة وخالصها وكبها ، والودود من أسماء الرب تعالى .
السادسة: الشغف : أي وصل حبه إلى شغاف قلبه ، كما قالت النسوة عن امرأة العزيز (شغفها حباً ) .
السابعة: العشق : وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه .
الثامنة:التتيّم : وهو التعبد والتذلل ، يقال : تيّمه الحب أي ذلّله وعبّده . وتيم الله:عبد الله
التاسعة: التعبد : وهو فوق التتيم ، فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقّة ، فلم يبق له شيء من نفسه البتة ، بل كله عبد لمحبوبه ظاهراً وباطناً ، وهذا هو حقيقة العبودية ، ومن كمل ذلك فقد كمل مرتبتها .
ولما كمل سيد ولد آدم هذه المرتبة : وصفه الله بها في أشرف مقاماته ، مقام الإسراء ، كقوله سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده [ سورة الإسراء / 1
ومقام الدعوة ، كقوله : ]وأنه لما قام عبد الله يدعوه [ سورة الجن /19 .
العاشرة: مرتبـة الخُلّة : التي انفرد بها الخليلان – إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما صح عنه (r) أنه قال ( إن الله اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) (3)
والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب ( 4)----------------------------------------------------------
(1)الجانب العاطفي من الإسلام ، محمد الغزالي : ص 244
(2) تهذيب مدارج السالكين : ص 457 0
(3) رواه ابن ماجة (141) وفي صحيح ابن حبان ( 6425)
(4) تهذيب مدارج السالكين : ص 463 – 465