المجلد السابع عشر
سورة الحديد
الآية : [18] {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
الآية : [19] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق ، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد ، وكذلك في مصحف في. وهو حث على الصدقات ، ولهذا قال : { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل : هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم ، لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل ، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا {يُضَاعَفُ لَهُمْ} أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الأعمش {يُضَاعِفُه} بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يُضَعَّفُ} بفتح العين وتشديدها. {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة.
(17/252)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} اختلف في {الشُّهَدَاءُ} هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد بن أسلم : إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل ، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله : {الصِّدِّيقُونَ} وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى : {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء ، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين ، والصالحون يتلون الشهداء ، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل ، أعني {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ}. ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية ، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله : {الصِّدِّيقُونَ} حسن. والمعنى {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب ، قاله الكلبي ، ودليله قوله تعالى : {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة ، وفيما يشهدون به قولان : أحدهما : أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم ، قال الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا : إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال : أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.
(17/253)
وقد اختلف في تعيينهم ، فقال الضحاك : هم ثمانية نفر ، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان : الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين ، مثل مؤمن آل فرعون ، وصاحب آل ياسين ، وأبي بكر الصديق ، وأصحاب الأخدود.
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} أي بالرسل والمعجزات {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا أجر لهم ولا نور.
الآية : [20] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
الآية : [21] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل ، وخوفا من لزوم الموت ، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و {وَمَا} صلة تقديره : اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة : لعب ولهو : أكل وشرب. وقيل : إنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى
(17/254)
في {الأنعام} وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة ، أي شغل عنها. وقيل : اللعب الاقتناء ، واللهو النساء. {وَزِينَةٌ} الزينة ما يتزين به ، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة ، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل : بالخلقة والقوة. وقيل : بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب" الحديث. وقد تقدم جميع هذا. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين : {لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان. وقيل : المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال : {كَمَثَلِ غَيْثٍ} أي مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الكفار هنا : الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في {يونس} و{الكهف}. وقيل :
(17/255)
الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل ، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن ، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم ، ومنهم يظهر ذلك ، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم ، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف بعد خضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر. {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي للكافرين. والوقف عليه حسن ، ويبتدئ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي للمؤمنين. وقال الفراء : {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ} تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة ، فلا يوقف على {شَدِيدٌ}. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} هذا تأكيد ما سبق ، أي تغر الكفار ، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا ، وترغيبا في العمل للآخرة.
قوله تعالى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل : سارعوا بالتوبة ، لأنها تؤدي إلى المغفرة ، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول. وقيل : الصف الأول. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن : يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل : يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان : عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في {آل عمران}. وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله عز وجل : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}
(17/256)
فأين النار ؟ فقال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} شرط الإيمان لا غير ، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل : شرط الإيمان هنا وزاد عليه في {آل عمران} فقال : {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في {الأعراف} وغيرها. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الآية : [22] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
الآية : [23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
الآية : [24] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار. وقيل : الجوائح في الزرع. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام ، قال قتادة. وقيل : إقامة الحدود ، قال ابن حيان. وقيل : ضيق المعاش ، وهذا معنى رواه ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير في {نَبْرَأَهَا} عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس : من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير : من قبل أن يخلق الأرض والنفس . {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي خلق ذلك وحفظ جميعه {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين. قال الربيع بن صالح : لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب
(17/257)
إليه. قال : فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية. وقال ابن عباس : لما خلق الله القلم قال له اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه ، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة ، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}. وقد قيل : إن هذه الآية تتصل بما قبل ، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى : {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي من الدنيا ، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير : من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، قال الله تعالى : {لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس. وقراءة العامة {آتَاكُمْ} بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {أتَاكُمْ} بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم ، وهو معادل لـ {فَاتكُمْ} ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت ، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر : أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات ،
(17/258)
ولا تفرح بما هو آت ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى : الدنيا مبيد ومفيد ، فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار ، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن ، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك ، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي لا يحب المختالين {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فـ {الَّذِينَ} في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل : رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل : أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم ، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم ، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم : إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل : إنه البخل بالصدقة والحقوق ، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس : إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين : أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة { بِالْبُخْلِ} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي {بِالْبَخْل} بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع {بالبَخلِ} بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم {بِالْبُخُلِ} بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر {آل عمران}.
(17/259)
وقرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بغير {هُوَ}. والباقون { هُوَ الْغَنِيُّ} على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و {الْغَنِيُّ} خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا ، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
الآية : [25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
الآية : [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
قوله تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل : الإخلاص لله تعالى في العبادة ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، بذلك دعت الرسل : نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب ، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم {وَالْمِيزَانَ} قال ابن زيد : هو ما يوزن به ومتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله : {بِالْقِسْطِ} يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم : أراد به العدل. قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب :
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ثم قال : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وقد مضى القول فيه. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد
(17/260)
والنار والماء والملح". وروى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام : الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة ، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي : قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السندان ، والكلبتان ، والميقعة ، والمطرقة ، والإبرة. وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به ، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح : والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشية القصار التي يدق عليها ، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم" . وقيل : {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل : أي فيه من خشية القتل خوف شديد. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد : يعني جنة. وقيل : يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد ، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل : هو عطف على قوله تعالى : {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب ، وهذه الأشياء ، ليتعامل الناس بالحق ، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس : ينصرونهم لا يكذبونهم ، ويؤمنون بهم {بِالْغَيْبِ} أي وهم لا يرونهم. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} {قَوِيٌّ} في أخذه {عَزِيزٌ} أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل : {بِالْغَيْبِ} بالإخلاص.
(17/261)
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب ، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء ، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم {فَمِنْهُمْ} أي من ائتم بإبراهيم ونوح{مُهْتَدٍ} وقيل : { فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي من ذريتهما مهتدون. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون خارجون عن الطاعة.
الآية : [27] {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي اتبعنا {عَلَى آثَارِهِمْ} أي على آثار الذرية. وقيل : على أثار نوح وإبراهيم {بِرُسُلِنَا} موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه {وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ} وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة {آل عمران}.
الثانية- قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على دينه يعني الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترل إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين ، والرحمة الشفقة. وقيل : الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل. وقيل : الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال :
(17/262)
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج : أي ابتدعوها رهبانية ، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل : إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام أرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع : "هي لحوقهم بالبراري والجبال" قوله تعالى : {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ، قاله ابن زيد. {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج : {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلا من الهاء والألف في {كَتَبْنَاهَا} والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل : {إِلاَّ ابْتِغَاءَ} الاستئناء منقطع ، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص ، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم ، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ،
(17/263)
وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والأنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى ، فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون : نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت : ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها ، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة : دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ، فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية. يقول : أبتدعها هؤلاء الصالحون {فَمَا رَعَوْهَا} المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا} {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني المتأخرين ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثالثة- وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن أبتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.
الرابعة- وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة {الكهف} مستوفى والحمد لله. وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال :
(17/264)
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال : لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة". وروى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل تدري أي الناس أعلم" قال قلت : الله ورسول أعلم. قال : "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعن إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا {وَرَهْبَانِيَّةً} الآية - أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} - الآية - فمن
(17/265)
أمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون" يعني الذي تهودوا وتنصروا. وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر. والله أعلم.
الآية : [28] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : [29] {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي آمنوا بموسى وعيسى {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} بمحمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا مثل قوله تعالى : {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وقد تقدم القول فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في {النساء} وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط ، قاله ابن جريج. ونحوه قال الأزهري ، قال : أشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط ، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري : {كِفْلَيْنِ} ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد : {كِفْلَيْنِ} أجر الدنيا والآخرة. وقيل : لما نزلت {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} افتخر مؤمنو أهل
(17/266)
الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد ، فقال : الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان ، وينطلق على عمومه ، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد. وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين ، بدليل هذه الآلة فإنه قال : {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} والكفل النصيب كالمثل ، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبينا ، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات ، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع ، لقوله تعالى : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد ، لخروجه عن عموم الظاهر ، في قوله تعالى : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} بما لا يحتمله تخصيص العموم ، لأن ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها. ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق قوله تعالى : {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً} أي بيانا وهدى ، عن مجاهد. وقال ابن عباس : هو القرآن. وقيل : ضياء {تَمْشُونَ بِهِ} في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله ، لا الرياسة الحقيقية في الدين. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قوله تعالى : {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم ، و {أَنَّ لا} صلة زائدة مؤكدة ، قاله الأخفش. وقال الفراء : معناه لأن يعلم و{لا} صلة زائدة في كل كلام دخل عليه
(17/267)
جحد. قال قتادة : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي لأن يعلم أهل الكتاب أنهم {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وقال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} أي ليعلم أهل الكتاب {أن أَلاَّ يَقْدِرُونَ} أي أنهم يقدرون ، كقوله تعالى : {أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}. وعن الحسن : {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان الياء. وفتح لام الجر لغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة {أن} حذفت فصارت {لن} فأدغمت النون في اللام فصار {للا} فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء ، كما قالوا في أما : أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ {لِيْلا} بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود {لِكَيْلا يَعْلَمَ} وعن حطان بن عبدالله "لأن يعلم". وعن عكرمة {لِيَعْلَمَ} وهو خلاف المرسوم. {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل : الإسلام. وقيل : الثواب. وقال الكلبي : من رزق الله. وقيل : نعم الله التي لا تحصى. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل : {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أي هو له {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وفي البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، قال حدثنا شعيب عن الزهري ، قال أخبرني سالم بن عبدالله ، أن عبدالله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر : "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل
(17/268)
ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء" في رواية : "فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا " الحديث. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. تم تفسير سورة {الحديد} والحمد لله.
(17/269)