الآية : 12 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} قيل : إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا ، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما ، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك" وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه ، فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما" فقالا : يا نبي الله ، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال : "ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة" فنزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.
الثانية : ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا" لفظ البخاري. قال علماؤنا : فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها ، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه ، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب.
(16/331)
وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء". وعن الحسن : كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام ، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت.
الثالثة : وللظن حالتان : حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها ، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن ، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانيه : أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده ، فهذا هو الشك ، فلا يجوز الحكم به ، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبدالله بالظن وجواز العمل به ، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه ، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه ، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة "إياكم والظن" فإن هذا لا حجة فيه ، لأن الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم ، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده ، بدلالة قوله تعالى : {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، وقوله : {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور : 12] ، وقوله : {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح : 12] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا" . وقال : "إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض" خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح ، قاله المهدوي.
(16/332)
الرابعة : قوله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما {ولا تحسسوا} بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فقال الأخفش : ليس تبعد إحداهما من الأخرى ، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس (بالحاء) طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل : إن التجسس (بالجيم) هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق : أنه بالحاء تطلبه لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره ، قال ثعلب. والأول أعرف. جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها ، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية : خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم" فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم". وعن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبدالله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" . وقال عبدالرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن شرب فما ترى ! ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال الله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة : حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس ، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم : خرج عمر وعبدالرحمن يعسان ،
(16/333)
إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب ، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح ، فقال عمر : وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر : فمن هذه منك ؟ قال امرأتي ، قال فما في هذا القدح ؟ قال ماء زلال ، فقال للمرأة : وما الذي تغنين ؟ فقالت :
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني ... وأ كرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال الله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} . قال صدقت.
قلت : لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل ، لأن عمر لا يقر على الزنى ، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها ، وأنها قالتها في مغيبه عنها. والله أعلم. وقال عمرو بن دينار : كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت ، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها ، فسقط من كمه كيس فيه دنانير ، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال : لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه ، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا ، فجاء إلى أمه فقال : أخبريني ما كان عمل أختي ؟ فقالت : قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له : كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها ، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم ، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم ، فقال : بهذا هلكت
الخامسة : قوله تعالى : {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} نهى عز وجل عن الغيبة ، وهي أن تذكر الرجل بما فيه ، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتدرون ما الغيبة" ؟ قالوا : الله ورسول أعلم. قال : "ذكرك أخاك بما يكره" قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟
(16/334)
قال : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته". يقال : اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال : قال لي معاومة - يعني ابن قرة - : لو مر بك رجل أقطع ، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة : فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال : "أين فلان وفلان" ؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله ، قال : "انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال : "فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" .
السادسة : قوله تعالى : {أََيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} مثل الله الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
(16/335)
وقال صلى الله عليه وسلم : "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس" . فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا ، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" . وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين" . وقوله للرجلين : "ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما". وقال أبو قلابة الرقاشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا ، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده ، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال : قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا فقال : "أكلتم لحم أخيكم وأغتبتموه" . وعن سفيان الثوري قال : أدني الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط ، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وذكر الناس فإنه داء ، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر ، فقال : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا. وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني فقال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
(16/336)
السابعة : ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا : ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا : لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب. والغيبة في الخلق أشد ، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية : إنها امرأة قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته" . خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي : حديث حسن صحيح ، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء ، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين ، لأن عيب الدين أعظم العيب ، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام : "إذا قلت في أخيك ما يكره فقد أغتبته..." الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي : "من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه". فعم كل عرض ، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامنة : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب ؟ اختلف فيه ، فقالت فرقة : ليس عليه استحلاله ، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه ، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه ، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقال فرقة : هي مظلمة ، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة : هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته". خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم :
(16/337)
"من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". وقد تقدم هذا المعنى في سورة "آل عمران" عند قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران : 169]. وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة : ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة : لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال : إنما الغيبة في المال والبدن ، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه ، وذلك ليس في البدن ولا في المال ، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال ، وقد قال الله تعالى في القاذف : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور : 13]. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال". وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال : إنها مظلمة ، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها ، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال : كفارتها أن يستغفر لصاحبها ، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم ، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه" . وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله ، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه ، منهم سعيد بن المسيب قال : لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين : يا أبا بكر ، هذا رجل
(16/338)
سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده ، فقال : إني لم أحرمها عليه فأحلها ، إن الله حرم الغيبة عليه ، وماكنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل ، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو ، وقد قال تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشوري : 40].
التاسعة : ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر ، فإن في الخبر "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له". وقال صلى الله عليه وسلم : "اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس". فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب الهوي ، والفاسق المعان ، والإمام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج : اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش ، يمد بيد قصيرة البنان ، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن : هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال : ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي ، ليس بغيبة. وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : "لصاحب الحق مقال" . وقال : "مطل الغني ظلم" وقال : "لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" . ومن ذلك الاستفتاء ، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي ، فآخذ من غير علمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم فخذي" . فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها ، ولم يرها مغتابة ، لأنه لم يغير عليها ، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
(16/339)
"أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه". فهذا جائز ، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله.
العاشرة : قوله تعالى : {مَيْتاً} وقريء {ميِّتاً} وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى : {فَكَرِهْتُمُوهُ} وفيه وجهان : أحدهما : فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة ، روي معناه عن مجاهد. الثاني : فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل : لفظه خبر ومعناه أمر ، أي اكرهوه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} عطف عليه. وقيل : عطف على قوله : "اجتنبوا. ولا تجسسوا". {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
الآية : 13 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند ، ذكره أبو داود في (المراسيل) ، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نزوج
(16/340)
بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل : {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} الآية. قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة. وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له : ابن فلانة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من الذاكر فلانة" ؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "انظر في وجوه القوم" فنظر ، فقال : "ما رأيت" ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : "فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى" فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة : 11] الآية. قال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء ، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : "يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} خرجه من حديث عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف ، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب (آداب النفوس) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال : حدثني أو حدثنا من
(16/341)
شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : "أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب" . وفيه عن أبو مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم" . ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره :
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة ... وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدىأدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... وللرجال على الأفعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
الثانية : بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى ، وكذلك في أول سورة "النساء". ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم ، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام ، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه ، فلعله هذا القسم ، قاله ابن العربي.
الثالثة : خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا ، وخلق لهم منها التعارف ، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها ، فصار كل أحد يحوز نسبه ، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه ، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه ،
(16/342)
بقول للعربي : يا عجمي ، وللعجمي : يا عربي ، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى.
الرابعة : ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده ، ويتربى في رحم الأم ، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات : 21]. وقوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة : 8]. وقوله : {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة : 37]. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية ، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعال : {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق : 6] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء ، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل ، وعن ذلك يكون الشبه ، حسب ما تقدم بيانه في آخر "الشورى". وقد قال في قصة نوج : {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر : 12] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض ، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين ، فلا ينكر أن يكون {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة : 8]. وقوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات : 21] ويريد ماءين. والله أعلم.
الخامسة : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الشعوب رؤوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، وأحدها شَعْب بفتح الشين ، سموا به
(16/343)
لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد ، يقال شعبته إذا جمعته ، ومنه المشعب (بكسر الميم) وهو الإشفي ، لأنه يجمع به ويشعب. قال :
فكاب على حر الجبين ومتق ... بمدرية كأنه ذلق مشعب
وشعبته إذا فرقته ، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فأما الشعب (بالكسر) فهو الطريق في الجبل ، والجمع الشعاب. قال الجوهري : الشعب : ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب. والشعوبية : فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث : أن رجلا من الشعوب أسلم ، فإنه يعني من العجم. والشعب : القبيلة العظيمة ، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه ، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس : الشعوب الجمهور ، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقال قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي ، والثاني الماوردي. قال الشاعر :
رأيت سعودا من شعوب كثيرة ... فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك
وقال آخر :
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
وقيل : إن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل : إن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية : إن الشعوب الموالي ، والقبائل العرب. قال القشيري : وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك ، والقبائل من العرب. الماوردي : ويحتمل أن
(16/344)
الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشركون في الأنساب. قال الشاعر :
وتفرقوا شعبا فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه : الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل : الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة ، وقد نظمها بعض الأدباء فقال :
اقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحواء ثم القبيله
ثم تتلوها العمارة ثم الـ ... ـبطن والفخذ بعدها والفصيله
ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرناه قليله
وقال آخر :
قبيلة قبلها شعب وبعدهما ... عمارة ثم بطن تلوه فجذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ... ولا سداد لسهم ماله قذذ
السادسة : قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد تقدم في سورة "الزخرف" عند قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف : 44]. وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقريء {أن} بالفتح. كأنه قيل : لم يتفاخر بالأنساب ؟ قيل : لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الحسب المال والكرم التقوى". قال : هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام : "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله". والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا ، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به ، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم
(16/345)
نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون". وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب. يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا". وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول : "إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين". وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : "فأكرمهم عند الله أتقاهم" فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال : "عن معادن العرب ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وأنشدوا في ذلك :
ما يصنع العبد بعز الغني ... والعز كل العز للمتقي
من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي
السابعة : ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال : تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها ، فقال الرجل : إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة" . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية". وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى. قال ابن العربي : وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبدالله عن مالك : يتزوج المولى العربية ، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي :
(16/346)
يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود.
قلت : وأخت عبدالرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية ، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال : " ما تقولون في هذا" ؟ فقالوا : حَري إن خطب أن يُنكَح ، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع. قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : "ما تقولون في هذا" قالوا : حري إن خطب ألا يُنْكَح ، وإن شفع ألا يُشَفّع ، وإن قال ألا يُسمَع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا". وقال صلى الله عليه وسلم : "تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك". وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه ، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه ، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها ، قال بلال : يا رسول الله ، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بلال ، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا : ماذا لقينا من سببك ؟ فقالت أختهم : أمري بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجوها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هند حين حجمه : "أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه". وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنكحوه وأنكحوا إليه". قال القشيري أبو نصر :
(16/347)
وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب ، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما ، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى.
الآية : 14 {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعاوها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتينال بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس : نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا ، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا ، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب ، لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى. ومعنى {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، وهذه صفة المنافقين ، لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم ، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، وذلك يحقن الدم. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني إن تخلصوا الإيمان {لا يَلِتْكُمْ} أي لا ينقصكم. {مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } لاته يليته ويلوته : نقصه. وقرأ أبو عمرو {لا يألتكم} بالهمزة ، من ألت يألت
(16/348)
ألتا ، وهو اختيار أبي حاتم ، اعتبارا بقوله تعالى : {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور : 21] قال الشاعر :
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
واختاو الأولى أبو عبيد. قال رؤبة :
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها مانع ، وكذلك ألته عن وجهه ، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا ، أي ما نقصه ، مثل ألته ، قال الفراء. وأنشد :
ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت ... كأن بحافات النهاء المزارعا
قوله : فلم {يَلِتْ} أي لم ينقص منه شيئا. و {أَعْنَي} بمعنى أنبت ، يقال : ما أعنت الأرض شيئا ، أي ما أنبتت. و {الوَلِيّ} المطر بعد الوسمي ، سمي وليا لأنه يلي الوسمي. ولم يقل : لا يألتاكم ، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول.
الآية : 15 - 16 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي صدقوا ولم يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة. {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم ، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر
(16/349)
والعلانية وكذبوا ، فنزلت. {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} الذي أنتم عليه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
الآية : 17 - 18 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} إشارة إلى قولهم : جئناك بالأثقال والعيال. و"أن" في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا. {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} أي بإسلامكم. {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} {أن} موضع نصب ، تقديره بأن. وقيل : لأن. وفي مصحف عبدالله {إذ هداكم}. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} صادقين أنكم مؤمنون. وقرأ عاصم {إن هداكم} بالكسر ؛ وفيه بعد ؛ لقوله : {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. ولا يقال يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة {أَنْ هَدَاكُمْ}. وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين ، لأن تقدير الكلام : إن آمنتم فذلك منة الله عليكم. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر ، ردا على قوله : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ}. الباقون بالتاء على الخطاب.
(16/350)