تفسير سورة الدخان
...
سورة الدخان
الآية : 27 {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز ، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات ، أي بيناها لأهل تلك القرى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فلم يرجعوا. وقيل : أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والإعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.
الآية : 28 {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
قوله تعالى : {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ} {لولا} بمعنى هلا ، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا : {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس : 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي : القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة ، والجمع قرابين ، كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف ، والثاني {آلِهَةً} . و {قُرْبَاناً} حال ، ولا يصح أن يكون {قربانا} مفعولا ثانيا. و {آلِهَةً} بدل منه لفساد المعنى ، قال الزمخشري. وقرئ {قُرْبَاناً} بضم الراء. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي هلكوا عنهم. وقيل : {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم ، إذ هي جماد. وقيل : {ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي تركوا الأصنام وتبرؤوا منها. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم : إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة {إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة وسكون الفاء ، أي كذبهم. والإفك : الكذب ، وكذلك الأفيكة ، والجمع الأفائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير {وذلك أَفَكَهُم} بفتح الهمزة
(16/209)
والفاء والكاف ، على الفعل ، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والأفك "بالفتح" مصدر قولك : أفكه يأفكه أفكا ، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة {أَفَّكهم} بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم : يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا {آفِكهم} بالمد وكسر الفاء ، بمعنى صارفهم. وعن عبدالله بن الزبير باختلاف عنه {آفَكهم} بالمد ، فجاز أن يكون أفعلهم ، أي أصارهم إلى الإفك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة {إفكهم} قوله : {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون. وقيل {أفكهم} مثل {أفكهم} . الإفك والأفك كالحذر والحذر ، قاله المهدوي.
الآية : 29 {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}
قوله تعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} هذا توبيخ لمشركي قريش ، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى : {صرفنا} وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب - على ما يأتي - ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم : لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة - بنو عمرو بن عمير - وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر : ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث : والله لا أكلمك كلمة أبدا ، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم
(16/210)
وعبيدهم يسبونه ويضحكون به ، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية : "ماذا لقينا من أحمائك" ؟ ثم قال : "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، لمن تكلني إلى عبد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك" . فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس : خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل ، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم "باسم الله" ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك" قال : أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى" ؟ فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال : "ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي" فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه. فقال له ابنا ربيعة : لم فعلت هكذا ؟ فقال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا ، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.
ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع ، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة ، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا له وقالوا : أنصتوا. وقالت طائفة : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر
(16/211)
الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله عز عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني" ؟ فأطرقوا ، ثم قال الثانية فأطرقوا ، ثم قال الثالثة فأطرقوا ، فقال ابن مسعود : أنا يا رسول الله ، قال ابن مسعود : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له (شعب الحجون) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال : "لا تخرج منه حتى أعود إليك" . ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها ، وسمعت لغطا وغمغمة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال : "أنمت" ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا ، فقال : "لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم" ثم قال : "هل رأيت شيئا" ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، رأيت رجالا سودا مستثفري ثيابا بيضا ، فقال : "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة" . فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث. قلت : يا نبي الله ، وما يغني ذلك عنهم قال : "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل" فقلت : يا رسول الله ، لقد سمعت لغطا شديدا ؟ فقال : "إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق". ثم تبرز النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال : "هل معك ماء" ؟ فقلت يا نبي الله ، معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال : "تمرة طيبة وماء طهور" . روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس
(16/212)
في حديث معمر ذكر نبيذ التمر. روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا فقال : ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزط. قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبدالله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال : "شراب وطهور" . ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود : أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمعك ماء يا ابن مسعود" ؟ فقال : معي نبيذ في إداوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صب علي منه". فتوضأ وقال : "هو شراب وطهور" تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني : وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبدالله وغيرهما عنه أنه قال : ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبدالله بن مسعود : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعى الجن ؟ قال لا. قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة : حضر عبدالله بن مسعود ليلة الجن ؟ فقال لا. قال ابن عباس : كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال زر بن حبيش : كانوا تسعة أحدهم زوبعة. وقال قتادة : إنهم من أهل نينوى. وقال مجاهد : من أهل حران. وقال عكرمة : من جزيرة الموصل. وقيل : إنهم كانوا سبعة ، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين. وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال : "رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها" . وقال السهيلي : ويقال كانوا سبعة ، وكانوا يهودا فأسلموا ، ولذلك قالوا : {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . وقيل في أسمائهم : شاصر وماصر ومنشي
(16/213)
وماشي والأحقب ، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر ، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل ، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها ، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان : أيكم دفن عمرو بن جابر ؟ فقلنا : ما ندري من عمرو بن جابر فقالتا : إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه ، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو ، وهو الحية التي رأيتم ، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. وذكر ابن سلام رواية أخرى : أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل.
قلت : وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال : وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا : إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها ، فأخذها رجل منا فواريناها ، فجاء أناس فقالوا : أيكم دفن عمرا ؟ قلنا وما عمرو ؟ قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا ، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن ، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه : أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها ، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر ، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي : وبلغنا في فضائل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبدالعزيز كان يمشي بأرض فلاة ، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها ، فإذا قائل يقول : يا سرق ، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح" . فقال : ومن أنت يرحمك الله ؟ فقال : رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق ، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت
(16/214)
عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ ، فأتيت في المنام فقيل لها : إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل لها : ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة ، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة ، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي : وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا ، فإن كانوا سبعة فالأحقب منهم وصف لأحدهم ، وليس باسم علم ، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالأحقب. والله أعلم.
قلت : وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه : هامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس ، قيل : إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه سورة {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة : 1] و {المرسلات} [المرسلات : 1] و {عم يتساءلون} [النبأ : 1] و {إذا الشمس كورت} [التكوير : 1] و {الحمد} [الفاتحة : 1] و"المعوذتين وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام ، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه ، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال : حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال : حدثنا محمد بن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال : كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمي جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال.
قوله تعالى : {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من باب تلوين الخطاب. وقيل : لما حضروا القرآن واستماعه. {قَالُوا أَنْصِتُوا} أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم
(16/215)
وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه {قالوا أنصتوا} قالوا صه. وكانوا سبعة : أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية إلى قوله : {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف : 32]. وقيل : {أَنْصِتُوا} لسماع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى متقارب. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبدالله بن الزبير {فَلَمَّا قُضِيَ} بفتح القاف والضاد ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك ؟ فجاؤوا وادي نخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر ، وكانوا سبعة ، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم ، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن ، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم : {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف : 31] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلا إلى قومهم ، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن : 1]. وفي صحيح مسلم عن معن قال : سمعت أبي قال سألت مسروقا : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة.
الآية : 30 {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
(16/216)
[31 ] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى : {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي القرآن ، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا ، ولذلك قالوا : {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}. وعن ابن عباس : أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى ، فلذلك قالت : {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني ما قبله من التوراة. {هْدِي إِلَى الْحَقِّ} دين الحق. {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} دين الله القويم. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس. قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت : يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة". قال مجاهد : الأحمر والأسود : الجن والإنس. وفي رواية من حديث أبي هريرة "وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
قوله تعالى : {وَآمِنُوا بِهِ} أي بالداعي ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : {به} أي بالله ، لقوله : {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. قال ابن عباس : فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا ، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.
مسألة : هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن : ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار ، يدل عليه قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. وبه قال أبو حنيفة قال : ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون : إنهم كما يعاقبون
(16/217)
في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي. وقد قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري : والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء ، والعلم عند الله.
قلت : قوله تعالى : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام : 132] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة ، لأنه قال في أول الآية : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إلى أن قال {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام : 130]. والله أعلم ، وسيأتي لهذا في سورة "الرحمن" مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
الآية : 32 {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى : {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي لا يفوت الله ولا يسبقه {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أي أنصار يمنعونه من عذاب الله. {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
الآية : 33 {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الرؤية هنا بمعنى العلم. و {أن} واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} احتجاج على منكري البعث. ومعنى {لَمْ يَعْيَ} يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال : عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه ، والإدغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا ، مخففا ، وعيوا أيضا بالتشديد. قال
(16/218)
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة
وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرأ الحسن {وَلَمْ يَعِي} بكسر العين وإسكان الياء ، وهو قليل شاذ ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة ، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء ، وهو قول الشاعر :
فكأنها بين النساء سبيكة ... تمشى بسدة بيتها فتعي
{بِقَادِرٍ} قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء : 166] ، وقوله : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون : 20]. وقال الكسائي والفراء والزجاج : الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج : والعرب تدخلها مع الجحد تقول : ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول : ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول "ما" ودخول "أن" للتوكيد. والتقدير : أليس الله بقادر ، كقوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} [يس : 81]. وقرأ ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب "يقدر" واختاره أبو حاتم ، لأن دخول الباء في خبر "أن" قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة ، لأنها في قراءة عبدالله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ} بغير باء. والله أعلم.
الآية : 34 {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} أي ذكرهم يوم يعرضون فيقال لهم : {النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} فيقول لهم المقرر : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بكفركم.
(16/219)
الآية : 35 {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
قوله تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وقال ابن عباس : ذوو الحزم والصبر ، قال مجاهد : هم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية : إن أولي العزم : نوح ، وهود ، وإبراهيم. فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم. وقال السدي : هم ستة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد ، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورة "الأعراف والشعراء". وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه مدة. وإبراهيم صبر على النار. وإسحاق صبر على الذبح. ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف صبر على البئر والسجن. وأيوب صبر على الضر. وقال ابن جريج : إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا : هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل : هم نجباء الرسل المذكورون في سورة "الأنعام" وهم ثمانية عشر : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهرون ، وزكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط. واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90] وقال ابن عباس أيضا : كل الرسل كانوا أولي عزم. واختاره علي بن مهدي الطبري ، قال : وإنما دخلت {من} للتجنيس لا للتبعيض ، كما تقول : اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز. أي اصبر كما صبر الرسل. وقيل : كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متى ، ألا ترى أن
(16/220)
النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله ، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه ، فابتلاه الله بثلاث : سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلط الذئب على ولده فأكله ، وسلط عليه الحوت فابتلعه ، قال أبو القاسم الحكيم.
وقال بعض العلماء : أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله إليهم الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل ؛ فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، لان شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل ، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن : أولو العزم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى ، فأما إبراهيم فقيل له : {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه ، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه : {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء : 61]. وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها ، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة ، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال : "إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها". فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : اصبر ، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم ، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل هي : منسوخة بآية السيف. وقيل : محكمة ، والأظهر أنها منسوخة ، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل ، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} قال مقاتل : بالدعاء
(16/221)
عليهم. وقيل : في إحلال العذاب بهم ، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف ، وهو العذاب. {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} قال يحيى : من العذاب. النقاش : من الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش : في قبورهم حتى بعثوا للحساب. {إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} يعني في جنب يوم القيامة. وقيل : نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. {بَلاغٌ} أي هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن. فـ "بلاغ" رفع على إضمار مبتدأ ، دليله قوله تعالى : {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم : 52] ، وقوله : {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء : 106]. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل : أي إن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى ، فيوقف على هذا على {بلاغ} وعلى {نهار}. وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على {وَلا تَسْتَعْجِلْ} ثم ابتدأ {لهم} على معنى لهم بلاغ. قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام ، - وهي رافعة - بشيء ليس منهما. ويجوز في العربية : بلاغا وبلاغ ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا ، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمو والحسن. وروي عن بعض القراء {بلغ} على الأمر ، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على {من نهار} ثم يبتدئ {بلغ} . {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون عن أمر الله ، قاله ابن عباس وغيره. وقرأ ابن محيصن {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ} على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات : 46]. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} صدق الله العظيم. وعن قتادة : لا يهلك الله إلا هالكا مشركا. وقيل : هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم.
(16/222)