تفسير سورة الدخان
...
سورة الدخان
الآية : 32 {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} يعني بني إسرائيل. {عَلَى عِلْمٍ} أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم ، بدليل قوله لهذه الأمة : {كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل : على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم ؛ حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل : يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.
الآية : 33 {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}
قوله تعالى : {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ} أي من المعجزات لموسى. {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} قال قتادة : الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم ، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل : إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث : إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به ؛ قال عبدالرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله : {بَلاءٌ مُبِينٌ} أربعة أوجه : أحدها : نعمة ظاهرة ؛ قال الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى : {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال : 17]. وقال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
الثاني : عذاب شديد ؛ قاله الفراء. الثالث : اختبار يتميز به المؤمن من الكافر ؛ قاله عبدالرحمن بن زيد. وعنه أيضا : ابتلاؤهم بالرخاء والشدة ؛ ثم قرأ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء : 35].
الآية : 34 {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(16/143)
قوله تعالى : {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} يعني ، كفار قريش {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} ابتداء وخبر ؛ مثل : {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف : 155] ، {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون : 37] {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} أي بمبعوثين. أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. والمنشورون المبعوثون. قيل : إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل ، قال : يا محمد ، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا : أحدهما : قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا ؛ لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات ؛ لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف ؛ فكأنه قال : إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل : لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء ؛ فلم لا يرجع من مضى من الآباء ؛ حكاه الماوردي. ثم قيل : {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} مخاطبة ولنبي صلى الله عليه وسلم وحده ؛ كقوله : {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون : 99] قاله الفراء. وقيل : مخاطبة له ولأتباعه.
الآية : 37 {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هذا استفهام إنكار ؛ أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب ؛ إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة ، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل : المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل : أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن ؛ فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة : سمي كل واحد منهم تباعا لأنه يتبع صاحب. قال الجوهري : والتبابعة ملوك اليمن ، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل ؛ وقال :
(16/144)
يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي : تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت. وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع ؛ قاله المسعودي. فمن التبابعة : الحارث الرائش وهو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. وشمر بن مالك ، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس ، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان ، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات : أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء ، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره ؛ ولذلك قال عليه السلام : "ولا أدري أتبع لعين أم لا". ثم قد روي عنه أنه قال : "لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا" فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه ؛ وهو - والله أعلم - أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه ، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها ، ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها ؛ فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه :
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء - ويقال بناحية حمير - في الإسلام ، فوجد فيه امرأتان صحيحتان ، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب "هذا قبر حُبَّى ولميس" ويروى أيضا : "حبي وتماضر" ويروى أيضا : "هذا قبر رضوي وقبر حب ابنتا تبع ، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا ؛ وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
(16/145)
قلت : وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه : "أما بعد ، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك ، وأنا على دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام ؛ فإن أدركتك فبها ونعمت ، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة ، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام". ثم ختم الكتاب ونقش عليه : {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم : 4]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبدالله نبي الله ورسوله ، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تبع الأول. وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في "اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية" للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص.
واختلف هل كان نبيا أو ملكا ؛ فقال ابن عباس : كان تبع نبيا. وقال كعب : كان تبع ملكا من الملوك ، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب ، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا ، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير ، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها ؛ حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري ، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي : تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب ، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير : هو الذي كسا البيت الحبرات. وقال كعب : ذم الله قومه ولم يذمه ، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم ؛ فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية ، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل : سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.
(16/146)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} {الذين} في موضع رفع عطف على {قَوْمُ تُبَّعٍ}. {أَهْلَكْنَاهُمْ} صلته. ويكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} متعلقا به. ويجوز أن يكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} صلة {الذين} ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان {أَهْلَكْنَاهُمْ} على أحد أمرين : إما أن يقدر معه "قد" فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف ؛ كأنه قال : قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون {والذين من قبلهم} ابتداء خبره {أهلكناهم}. ويجوز أن يكون {الذين} في موضع جر عطفا على {تبع} كأنه قال : قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون {الذين} في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه {أهلكناهم} . والله أعلم.
قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي غافلين ، قاله مقاتل. وقيل : لاهين ؛ وهو قول الكلبي. {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا بالأمر الحق ؛ قاله مقاتل. وقيل : إلا للحق ؛ قال الكلبي والحسن. وقيل : إلا لإقامة الحق لإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في "الأنبياء". {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني أكثر الناس {لا يَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية : 40 {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}
قوله تعالى : {يَوْمَ الْفَصْلِ} هو يوم القيامة ؛ وسمي بذلك لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه دليله قوله {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة : 3]. ونظيره قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم : 14]. فـ "يوم الفصل" ميقات الكل ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ : 17] أي الوقت المجهول لتمييز المسيء من المحسن ، والفصل بينهما : فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. ولا خلاف بين القراء في رفع
(16/147)
{ميقاتهم} على أنه خبر "إن" واسمها { يَوْمُ الْفَصْلِ }. وأجاز الكسائي ، والفراء نصب {ميقاتهم}. بـ {إن} و {يوم الفصل} ظرف في موضع خبر {إن} ؛ أي إن ميقاتهم يوم الفصل.
الآية : 41 - 42 {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} {يَوْمَ } بدل من {يوم} الأول. والمولى : الولي وهو ابن العم والناصر. أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ، ولا قريب عن قريبه ، ولا صديق عن صديقه. {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته. ونظير هذه الآية : {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة : 48] الآية. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} {من} رفع على البدل من المضمر في {يُنْصَرُونَ} ؛ كأنك قلت : لا يقوم أحد إلا فلان. أو على الابتداء والخبر مضمر ؛ كأنه قال : إلا من رحم الله فمغفور له ؛ أو فيغني عنه ويشفع وينصر. أو على البدل من "مولى" الأول ؛ كأنه قال : لا يغني إلا من رحم الله. وهو عند الكسائي والفراء نصب على الاستثناء المنقطع ؛ أي لكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من يغنيهم من المخلوقين. ويجوز أن يكون استثناء متصل ؛ أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه ؛ كما قال : {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر : 3] فقرن الوعد بالوعيد.
الآية : 43 {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ، طَعَامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}
قوله تعالى : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء ؛ إلا حرفا واحدا في سورة الدخان {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} قاله
(16/148)
ابن الأنباري. {الأثيم} الفاجر ؛ قاله أبو الدرداء. وكذلك قرأ هو وابن مسعود. وقال همام بن الحارث : كان أبو الدرداء يقرئ رجلا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} والرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما لم يفهم قال له : "طعام الفاجر". قال أبو بكر الأنباري : حدثني أبي قال حدثنا نصر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم بن حماد عن عبدالعزيز بن محمد عن ابن عجلان عن عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال : علم عبدالله بن مسعود رجلا {أن شجرة الزقوم. طعام الأثيم} فقال الرجل : طعام اليتيم ، فأعاد عليه عبدالله الصواب وأعاد الرجل الخطأ ، فلما رأى عبدالله أن لسان الرجل لا يستقيم على الصواب قال له : أما تحسن أن تقول طعام الفاجر ؟ قال بلى ، قال فافعل. ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره ، لأن ذلك إنما كان من عبدالله تقريبا للمتعلم ، وتوطئة منه له للرجوع إلى الصواب ، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري : "وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة ، وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ؛ لأن في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه ، من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها ، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية". وشجرة الزقوم : الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة ، فإذا جاع أهل النار التجؤوا إليها فأكلوا منها ، فغليت في بطونهم كما يغلي الماء الحار. وشبه ما يصير منها إلى بطونهم بالمهل ، وهو النحاس المذاب. وقراءة العامة {تغلي} بالتاء حملا على الشجرة. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن ورويس عن يعقوب {يغلي} بالياء حملا على الطعام ؛ وهو في معنى الشجرة. ولا يحمل على المهل لأنه
(16/149)
ذكر للتشبيه. و {الأثيم} الآثم ؛ من أثم يأثم إثما ؛ قال القشيري وابن عيسى. وقيل هو المشرك المكتسب للإثم ؛ قاله يحيى بن سلام. وفي الصحاح : قد أثم الرجل (بالكسر) إثما ومأثما إذا وقع في الإثم ، فهو آثم وأثيم وأثوم أيضا. فمعنى {طَعَامُ الْأَثِيمِ} أي ذي الإثم الفاجر ، وهو أبو جهل. وذلك أنه قال : يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم ، وإنما هو الثريد بالزبد والتمر ، فبين الله خلاف ما قاله. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل.
قلت : وهذا لا يصح عن مجاهد. وهو مردود بما ذكرناه في هذه الشجرة في سورة "الصافات والإسراء" أيضا
الآية : 47 - 48 {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}
قوله تعالى : {خُذُوهُ} أي يقال للزبانية خذوه ؛ يعني الأثيم. {فَاعْتِلُوهُ} أي جروه وسوقوه. والعتل : أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعتله ، أي تجره إليك لتذهب به إلى حبس أو بلية. عتلت الرجل أعتله وأعتله عتلا إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل ، معتل (بالكسر). وقال يصف فرسا :
نفرعه فرعا ولسانا نعتله
وفيه لغتان ؛ عتله وعتنه (باللام والنون جميعا) ، قاله ابن السكيت. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {فَاعْتِلُوهُ} بالكسر. وضم الباقون. {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسط الجحيم. {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} قال مقاتل : يضرب مالك خازن النار ضربة. على رأس أبي جهل بمقمع من حديد ، فيتفتت رأسه عن دماغه ، فيجري دماغه عل جسده ،
(16/150)
ثم يصب الملك فيه ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه ؛ فيقول الملك : ذق العذاب. ونظيره {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج : 19].
الآية : 49 - 50 {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}
قوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال ابن الأنباري : أجمعت العوام على كسر "إن" وروي عن الحسن عن علي رحمه الله {ذق أنك} بفتح {أن} ، وبها قرأ الكسائي. فمن كسر {إن} وقف على {ذق} . ومن فتحها لم يقف على {ذق} ؛ لأن المعنى ذق لأنك وبأنك أنت العزيز الكريم. قال قتادة : نزلت في أبي جهل وكان قد قال : ما فيها أعز مني ولا أكرم ؛ فلذلك قيل له : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. وقال عكرمة : التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى" فقال : بأي شيء تهددني ! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه ؛ فقتله الله يوم بدر وأذله ونزلت هذه الآية. أي يقول له الملك : ذق إن أنت العزيز الكريم بزعمك. وقيل : هو على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والإهانة والتنقيص ؛ أي قال له : إنك أنت الذليل المهان. وهو كما قال قوم شعيب لشعيب : {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود : 87] يعنون السفيه الجاهل في أحد التأويلات على ما تقدم. وهذا قول سعيد بن جبير. {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي تقول لهم الملائكة : إن هذا ما كنتم تشكون فيه في الدنيا.
الآية : 51 - 53 {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}
(16/151)
قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} لما ذكر مستقر الكافرين وعذابهم ذكر نزل المؤمنين ونعيمهم. وقرأ نافع وابن عامر {في مقام} بضم الميم. الباقون بالفتح. قال الكسائي : المقام المكان ، والمقام الإقامة ، كما قال :
عفت الديار محلها فمقامها
قال الجوهري : وأما المقام والمقام فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة ، وقد يكون بمعنى موضع القيام ؛ لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح ، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم ، لأن الفعل إذا جاوز الثلاث فالموضع مضموم الميم ، لأنه مشبه ببنات الأربعة ، نحو دحرج وهذا مدحرجنا. وقيل : المقام (بالفتح) المشهد والمجلس ، و(بالضم) يمكن أن يراد به المكان ، ويمكن أن يكون مصدرا ومقدر فيه المضاف ، أي في موضع إقامة. {أمين} يؤمن فيه من الآفات {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} بدل من {مَقَامٍ أَمِينٍ}. {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} لا يرى بعضهم قفا بعض ، متواجهين يدور بهم مجلسهم حيث داروا. والسندس : ما رق من الديباج. والإستبرق : ما غلظ منه. وقد مضى في"الكهف".
الآية : 54 {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}
قوله تعالى : {كَذَلِكَ} أي الأمر كذلك الذي ذكرناه. فيوقف على "كذلك". وقيل : أي كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره ، كذلك أكرمناهم بأن
قوله تعالى : {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وقد مضى الكلام في العين في "والصافات". والحور : البيض ؛ في قول قتادة والعامة ، جمع حوراء. والحوراء : البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها ، ويرى الناظر وجهه في كعبها ؛ كالمرآة من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. ودليل ، هذا التأويل أنها في حرف ابن مسعود {بعيس عين}. وذكر أبو بكر الأنباري أخبرنا أحمد بن الحسين قال حدثنا حسين
(16/152)
قال حدثنا عمار بن محمد قال : صليت خلف منصور بن المعتمر فقرأ في {حم} الدخان {بعيس عين. لا يذوقون طعم الموت إلا الموتة الأولى } . والعيس : البيض ؛ ومنه قيل للإبل البيض : عيس ، واحدها بعير أعيس وناقة عيساء. قال امرؤ القيس :
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
فمعنى الحور هنا : الحسان الثاقبات البياض بحسن. وذكر ابن المبارك أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود قال : إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم ، ومن تحت سبعين حلة ، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد : إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. وقيل : إنما قيل لهن حور لحور أعينهن. والحور : شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حوراء بينة الحور. يقال : أحورت عينه أحورارا. والحور الشيء ابيض. قال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين ؟ وقال أبو عمرو : الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر. قال : وليس في بني آدم حور ؛ وإنما قيل للنساء : حور العين لأنهن يشبهن بالظباء والبقر. وقال العجاج :
بأعين محورات حور
يعني الأعين النقيات البياض الشديدات سواد. الحدق. والعين جمع عيناء ؛ وهي الواسعة العظيمة العينين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز". وعن أبي قرصافة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين". وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
(16/153)
قال : "كنس المساجد مهور الحور" ذكره الثعلبي رحمه الله. وقد أفردنا لهذا المعنى بابا مفردا في (كتاب التذكرة) والحمد لله.
واختلف أيما أفضل في الجنة ؛ نساء الآدميات أم الحور ؟ فذكر ابن المبارك قال : وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال : إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروي مرفوعا إن " الآدميات أفضل من الحور العين سبعين ألف ضعف" . وقيل : إن الحور العين أفضل ؛ لقوله عليه السلام في دعائه : "وأبدله زوجا خيرا من زوجه". والله أعلم. وقرأ عكرمة {بحور عين} مضاف. والإضافة والتنوين في {بحور عين} سواء.
الآية : 55 {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}
قال قتادة : {آمِنِينَ} من الموت والوصب والشيطان. وقيل : آمنين من انقطاع ما هم فيه من النعيم ، أو من أن ينالهم من أكلها أذى أو مكروه.
الآية : 56 - 57 {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} أي لا يذوقون فيها الموت البتة لأنهم خالدون فيها. ثم قال : {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} على الاستثناء المنقطع ؛ أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا. وأنشد سيبويه :
من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت
(16/154)
ثم استثنى بما ليس من الأول فقال :
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت
وقيل : إن {إلا} بمعنى بعد ؛ كقولك : ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك ، أي بعد رجل عندك. وقيل : {إلا} بمعنى سوى ، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا ، كقوله تعالى : {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء : 22]. وهو كما تقول : ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلت أمس. وقال القتبي : {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان ، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها ، فهو استثناء صحيح. والموت عرض لا يذاق ، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه ، فاستعير فيه لفظ الذوق. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ} أي فعل ذلك بهم تفضلا منه عليهم. فـ {فضلا} مصدر عمل فيه {يدعون} . وقيل : العامل فيه {ووقاهم} وقيل : فعل مضمر. وقيل : معنى الكلام الذي قبله ، لأنه تفضل منه عليهم ، إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. "ذلك هو الفوز العظيم" أي السعادة والربح العظيم والنجاة العظيمة. وقيل : هو من قولك فاز بكذا ، أي ناله وظفر به.
الآية : 58 {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
قوله تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} يعني القرآن ، أي سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يتعظون وينزجرون. ونظيره : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر : 17] فختم السورة بالحث على آتباع القرآن وإن لم يكن مذكورا ، كما قال في مفتتح السورة : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان : 3] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1] على ما تقدم. {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
أي انتظر ما وعدتك من النصر عليهم إنهم منتظرون لك الموت ؛ حكاه
(16/155)
النقاش. وقيل : انتظر الفتح من ربك إنهم منتظرون بزعمهم قهرك. وقيل : انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم ينتظرون بك ريب الحدثان. والمعنى متقارب. وقيل : ارتقب ما وعدتك من الثواب فإنهم كالمنتظرين لما وعدتهم من العقاب. وقيل : ارتقب يوم القيامة فإنه يوم الفصل ، وإن لم يعتقدوا وقوع القيامة ، جعلوا كالمرتقبين لأن عاقبتهم ذلك. والله تعالى أعلم.
تفسير سورة الجاثية
...
سورة الجاثية
مقدمة السورة
سورة الجاثية مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية ، هي {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} [الجاثية : 14] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ ذكره الماوردي. وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه ، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة. فأراد أن يبطش به ، فأنزل الله عز وجل : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} [الجاثية : 14] ثم نسخت بقوله : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية. وقيل ست.
الآية : 1 {حم ، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
قوله تعالى : {حم} مبتدأ و {تنزيل} خبره. وقال بعضهم : {حم} اسم السورة. و {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مبتدأ. وخبره {مِنَ اللَّهِ} . والكتاب القرآن. {الْعَزِيزِ} المنيع. {الْحَكِيمِ} في فعله. وقد تقدم جميعه.
الآية : 3 - 5 {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
(16/156)
قوله تعالى : {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي في خلقهما {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ.وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تقدم جميعه. وقراءة العامة {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما. ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم {إن} وخبرها {فِي السَّمَاوَاتِ}. ووجه الكسر في {آيات} الثاني العطف على ما عملت فيه ؛ التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات. فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير {آيات} لما طال الكلام ؛ كما تقول : ضرب زيدا زيدا. وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه {إن} على تقدير حذف {في} ؛ التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات. فحذفت {في} لتقدم ذكرها. وأنشد سيبويه في الحذف :
كل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فحذف {كل} المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها. وقيل : هو من باب العطف على عاملين. ولم يجزه سيبوبه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ؛ فعطف {واختلاف} على قوله : {وفي خلقكم} ثم قال : {وتصريف الرياح آيات} فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ؛ إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال. وأما قراءة الرفع فحملا على موضع {إن} مع ما عملت فيه. وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ؛ لأنه عطف {واختلاف} على {وفي خلقكم} ، وعطف {آيات} على موضع {آيات} الأول ، ولكنه يقدر على تكرير { في} . ويجوز أن يرفع
(16/157)
على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة. وحكى الفراء رفع {واختلاف} و {آيات} جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات.
الآية : 6 {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} أي هذه آيات الله أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه. وقرئ {يتلوها} بالياء. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} أي بعد حديث الله وقيل بعد قرآنه {وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} وقراءة العامة بالياء على الخبر. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي {تؤمنون} بالتاء على الخطاب.
الآية : 7 - 8 {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {ويل} واد في جهنم. توعد من ترك الاستدلال بآياته. والأفاك : الكذاب. والإفك الكذب. {أَثِيمٍ} أي مرتكب للإثم. والمراد فيما روي : النضر بن الحارث وعن ابن عباس أنه الحارث بن كلدة. وحكى الثعلبي أنه أبو جهل وأصحابه. {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} يعني آيات القرآن. {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد مأخوذ من صر الصرة إذا شدها. قال معناه ابن عباس وغيره. وقيل : أصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه. و {أن} من {كأن} مخففة من الثقيلة ؛ كأنه لم يسمعها ، والضمير ضمير الشأن ؛ كما في قوله :
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم
ومحل الجملة النصب ، أي يصر مثل غير السامع. وقد تقدم في أول "لقمان" القول في هذه الآية. وتقدم معنى {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في "البقرة".
(16/158)