المجلد الخامس عشر
تفسير سورة الصافات
هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفيه قول ثان : إن الضحية أفضل ؛ هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا : الضحية أفضل من الصدقة ؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ؛ فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم" قال أبو عمر : وهو حديث غريب من حديث مالك. وعن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة" ذكره أبو عمر في كتات التمهيد. وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا" قال : وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم. وهذا حديث حسن.
الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف. وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما ، ويقول : من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر : ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم ؛ لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ؛ لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي
(15/108)
في مختصره : وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر. قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال : وبه نأخذ. قال أبو عمر : وهذا قول مالك ؛ قال : لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما ، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى. وقال الإمام الشافعي : هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى ؛ لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى" قالوا : فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضي. وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال.
والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر : وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال : يضحى ببقرة الوحش عن سبعة ، وبالظبي عن رجل. وقال الإمام الشافعي : لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية ، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية. وقال أصحاب الرأي : جائز ؛ لأن ولدها بمنزلة أمه. وقال أبو ثور : يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام.
وقد مضى في سورة "الحج" الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى. وفي صحيح مسلم عن أنس قال : "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" في رواية قال : "ويقول بسم الله والله أكبر" وقد مضى في آخر "الأنعام" حديث عمران بن حصين ، ومضى في "المائدة" القول في التذكية وبيانها وما يذكى به ، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى. وفي صحيح مسلم
(15/109)
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به" فقال لها : "يا عائشة هلمي المدية" ثم قال : "اشحذيها بحجر ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به. وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية : بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان. وقال مالك : إن فعل ذلك فحسن ، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه. وقال الشافعي : والتسمية على الذبيحة بسم الله ، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله ، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه ، أو قال اللهم تقبل مني ، أو قال تقبل من فلان فلا بأس. وقال النعمان : يكره أن يذكر مع اسم الله غيره ؛ يكره أن يقول : اللهم تقبل من فلان عند الذبح. وقال : لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح. وحديث عائشة يرد هذا القول. وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه : الله أكبر والحمد لله. فبقي سنة.
روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : "أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي" لفظ مالك ولا خلاف فيه. واختلف في اليسير من ذلك. وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. قال : والمقابلة ما قطع طرف أذنها ، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن ، والشرقاء المشقوقة ، والخرقاء المثقوبة ؛ قال هذا حديث حسن صحيح. وفي الموطأ عن نافع : أن عبدالله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها. قال مالك : وهذا أحب ما سمعت إلي. قال
(15/110)
القتبي : لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا. وهذا كما يقال : فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا ، ولم يسمن أي لم يعط سمنا ، ولم يعسل أي لم يعط عسلا. وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء. قال أبو عمر : ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة ؛ فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها ؛ لأنه عيب غير خفيف. والنقصان كله مكروه ، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" ذكره الزمخشري.
ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه ؛ قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبدالمطلب ابنه ؛ روى الروايتين عنه الشعبي. وروى عنه القاسم بن محمد : يجزيه كفارة يمين. وقال مسروق : لا شيء عليه. وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شيء. قال محمد : عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث. وذكر ابن عبدالحكم عن مالك فيمن قال : أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال : ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه. قال : ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه ؛ قال القاضي ابن العربي : يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة ؛ لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة ؛ لأن الله تعالى قال :
(15/111)
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج : 78] والإيمان التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ؛ فيجب أن يكون محمولا عليه. فإن قيل : كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز. قلنا : هذا اعتراض على كتاب الله ، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام ، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام ، وقد قال الله تعالى : {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك : أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان ، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال ، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال ، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ، ولهذا قال الله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } في الصبر على ذبح الولد والنفس ، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية. فإن قيل : كيف يصير نذرا وهو معصية. قلنا : إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل : فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا : لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره ؛ لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا.
قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده ؛ فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه. وقيل : هو دعاء إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [الشعراء. 84]. وقال عكرمة : هو السلام على إبراهيم أي سلاما منا. وقيل : سلامة له من الآفات مثل : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [الصافات : 79] حسب ما تقدم. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة إلى الله تعالى.
قوله تعالى : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن عباس : بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين ؛ فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } أي ثنينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما ؛ أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده ، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني
(15/112)
إسرائيل من صلبه. وقد قيل : إن الكناية في {عليه} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل : الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل ، وذلك أنه قص قصة الذبيح ، فلما قال في آخر القصة : {وفديناه بذبح عظيم} ثم قال : {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } قال : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ } كنى عنه ؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال : {ومن ذريتهما} فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق ، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة.
قلت : قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل ، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل ؛ فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق ، وبشر به إبراهيم مرتين ؛ الأولى بولادته والثانية بنبوته ؛ كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و {نبيا} نصب على الحال والهاء في {عليه} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال : سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن الذبيحين ؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية : إن عبدالمطلب لما حفر بئر زمزم ، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله ، فسهل الله عليه أمرها ، فوقع السهم على عبدالله ، فمنعه أخواله بنو مخزوم ؛ وقالوا : أفد ابنك ؛ ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح ، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه ؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن العرب تجعل العم أبا ؛ قال الله تعالى : {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة : 133] وقال تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } [يوسف : 100] وهما أبوه وخالته. وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال.
قوله تعالى : {مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ } لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال : منهم محسن ومنهم مسيء ، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة ؛ فاليهود والنصارى
(15/113)
وإن كانوا من ولد إسحاق ، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر ، وفي التنزيل : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة : 18] الآية ؛ أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا. وقد تقدم.
الآية : 114 - 122 {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } لما ذكر إنجاء إسحاق من الذبح ، وما من به عليه بعد النبوة ، ذكر ما من به أيضا على موسى وهرون من ذلك. وقوله : {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } قيل : من الرق الذي لحق بني إسرائيل. وقيل من الغرق الذي لحق فرعون. { وَنَصَرْنَاهُمْ } قال الفراء : الضمير لموسى وهرون وحدهما ؛ وهذا على أن الاثنين جمع ؛ دليله قوله : {وآتيتاهما} {وهديناهما}. وقيل : الضمير لموسى وهرون وقومهما وهذا هو الصواب ؛ لأن قبله {ونجيناهما وقومهما}. و {الكتاب المستبين} التوراة ؛ يقال استبان كذا أي صار بينا ؛ واستبانه فلان مثل تبين الشيء بنفسه وتبينه فلان. و"الصراط المستقيم" الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. {وتركنا عليهما في الآخرين} يريد الثناء الجميل. {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم.
(15/114)
الآية : 123 {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى : {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } قال المفسرون : إلياس نبي من بني إسرائيل. وروي عن ابن مسعود قال : إسرائيل هو يعقوب وإلياس هو إدريس. وقرأ : {وإن إدريس} وقاله عكرمة. وقال : هو في مصحف عبدالله : {وإن إدريس لمن المرسلين} وانفرد بهذا القول. وقال ابن عباس : هو عم اليسع. وقال ابن إسحاق وغيره : كان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوقنا ثم حزقيل ، ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان من دونه ، فبعث الله إليهم إلياس نبيا وتبعه اليسع وآمن به ، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يريحه منهم فقيل له : اخرج يوم كذا وكذا إلى موضع كذا وكذا فما استقبلك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه اليسع فقال : يا إلياس ما تأمرني. فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى ، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، وكان ذلك آخر العهد به. وقطع الله على إلياس لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش وألبسه النور ، فطار مع الملائكة ، فكان إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال ابن قتيبة : وذلك أن الله تعالى قال لإلياس : "سلني أعطك". قال : ترفعني إليك وتؤخر عني مذاقة الموت. فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم : كان قد مرض وأحس الموت فبكى ، فأوحى الله إليه : لم تبك ؟ حرصا على الدنيا ، أو جزعا من الموت ، أو خوفا من النار ؟ قال : لا ، ولا شيء من هذا وعزتك ، إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك! ويذكرك
(15/115)
الذاكرون بعدي ولا أذكرك! ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم! ويصلي المصلون ولا أصلي!! فقيل له : "يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر". يعني يوم القيامة. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : إن إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان الموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا ؛ إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم : ما شاء الله ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلا الله ؛ ما شاء الله ما شاء الله ، ما يكون من نعمة فمن الله ؛ ما شاء الله ما شاء الله ؛ توكلت على الله حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد مضى في "الكهف". وذكر من طريق مكحول عن أنس قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر ، إذا نحن بصوت يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المتوب عليها ، المستجاب لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أنس ، انظر ما هذا الصوت". فدخلت الجبل ، فإذا أنا برجل أبيض اللحية والرأس ، عليه ثياب بيض ، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فلما نظر إلي قال : أنت رسول النبي ؟ قلت : نعم ؛ قال : ارجع إليه فأقرئه مني السلام وقل له : هذا أخوك إلياس يريد لقاءك. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه ، حتى إذا كنا قريبا منه ، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت ، فتحدثا طويلا ، فنزل عليهما شيء من السماء شبه السفرة فدعواني فأكلت معهما ، فإذا فيها كمأة ورمان وكرفس ، فلما أكلت قمت فتنحيت ، وجاءت سحابة فاحتملته فإذا أنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوي ؛ فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي! هذا الطعام الذي أكلنا أمن السماء نزل عليه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "سألته عنه فقال يأتيني به جبريل في كل أربعين يوما أكلة ، وفي كل حول شربة من ماء زمزم ، وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقاني".
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يعني لبني إسرائيل {لا تَتَّقُونَ } يعني الله عزوجل وتخافون عقابه {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك
(15/116)
قال ثعلب : اختلف الناس في قوله عز وجل ها هنا {بعلا} فقالت طائفة : البعل ها هنا الصنم. وقال طائفة : البعل ها هنا ملك. وقال ابن إسحاق : امرأة كانوا يعبدونها. والأول أكثر. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال : صنما. وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً } قال : ربا. النحاس : والقولان صحيحان ؛ أي أتدعون صنما عملتموه ربا. يقال : هذا بعل الدار أي ربها. فالمعنى أتدعون ربا اختلقتموه ، و {أتدعون} بمعنى أتسمون. حكى ذلك سيبويه. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي : البعل الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال : من بعل هذه ؟ . أي من ربها ؛ ومنه سمي الزوج بعلا. قال أبو دواد :
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
مقاتل : صنم كسره إلياس وهرب منهم. وقيل : كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك كما ذكرنا. {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي أحسن من يقال له خالق. وقيل : المعنى أحسن الصانعين ؛ لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } بالنصب في الأسماء الثلاثة قرأ الربيع بن خيثم والحسن وابن أبي إسحاق وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى أبو عبيد أنها على النعت. النحاس : وهو غلط وإنما هو على البدل ولا يجوز النعت ها هنا ؛ لأنه ليس بتخلية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم : بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس : وأولى مما قال - أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع
(15/117)
أولى وأحسن ؛ لأن قبله رأس آية فالاستئناف أولى. ابن الأنباري : من نصب أو رفع لم يقف على {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } على جهة التمام ؛ لأن الله عز وجل مترجم عن {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } من الوجهين جميعا.
قوله تعالى : {فَكَذَّبُوهُ } أخبر عن قوم إلياس أنهم كذبوه. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي في العذاب. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي من قومه فإنهم نجوا من العذاب. وقرئ {المخلصين} بكسر اللام وقد تقدم. {وتركنا عليه في الآخرين} تقدم. {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } قراءة الأعرج وشيبة ونافع. وقرأ عكرمة وأبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ }. وقرأ الحسن : {سلام على الياسين} بوصل الألف كأنها ياسين دخلت عليها الألف واللام التي للتعريف. والمراد إلياس عليه السلام ، وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني : العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا ؛ فياسين وإلياس والياسين شيء واحد. الزمخشري : وكان حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع. وقرئ : {على إلياسين} و"إدريسين وإدرسين وإدراسين" على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. النحاس : ومن قرأ : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلم على آله ؛ أي أهل دينه ومن كان على مذهبه ، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقال الله تعالى : {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر : 46]. ومن قرأ {إلياسين} فللعلماء فيه غير قول. فروى هرون عن ابن أبي إسحاق قال : إلياسين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له. وأبو عبيدة يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل بيته سلم عليهم ؛ وأنشد :
قدني من نصر الخبيبين قدي
(15/118)
يقال : قدني وقدي لغتان بمعنى حسب. وإنما يريد أبا خبيب عبدالله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه. وغير أبي عبيدة يرويه : الخبيبين على التثنية ، يريد عبدالله ومصعبا. ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا ؛ قال : فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم ، فيقولون : المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال : فعلى هذا {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} سمي كل رجل منهم بإلياس. وقد ذكر سيبويه عي كتابه شيئا من هذا ، إلا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على جهة النسبة ؛ فيقولون : الأشعرون يريدون به النسب. المهدوي : ومن قرأ {إلياسين} فهو جمع يدل فيه إلياس فهو جمع إلياسي فحذفت ياء النسبة ؛ كما حذفت ياء النسبة في جميع المكسر في نحو المهالبة في جمع مهلبي ، كذلك حذفت في المسلم فقيل المهلبون. وقد حكى سيبويه : الأشعرون والنميرون يريدون الأشعريين والنميريين. السهيلي : وهذا لا يصح بل هي لغة في إلياس ، ولو أراد ما قالوه لأدخل الألف واللام كما تدخل في المهالبة والأشعريين ؛ فكان يقول : {سلام على الإلياسين} لأن العلم إذا جمع ينكر حتى يعرف بالألف واللام ؛ لا تقول : سلام على زيدين ، بل على الزيدين بالألف واللام. فإلياس عليه السلام فيه ثلاث لغات. النحاس : واحتج أبو عبيد في قراءته {سلام على إلياسين} وأنه اسمه كما أن اسمه إلياس لأنه ليس في السورة سلام على {آل} لغيره من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، فكما سمي الأنبياء كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو وهو غير لازم ؛ لأنا بينا قول أهل اللغة أنه إذا سلم على آله من أجله فهو سلام عليه. والقول بأن اسمه {إلياسين} يحتاج إلى دليل ورواية ؛ فقد وقع في الأمر إشكال. قال الماوردي : وقرأ الحسن {سلام على ياسين} بإسقاط الألف واللام وفيه وجهان : أحدهما أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن عباس. والثاني أنهم آل ياسين ؛ فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان : أحدهما : أنها زيدت لتساوي الآي ، كما قال في موضع : {طُورِ سَيْنَاءَ } [المؤمنون : 20] وفي موضع آخر {وَطُورِ سِينِينَ }[ التين : 2] فعلى هذا يكون
(15/119)
السلام على أهله دونه ، وتكون الإضافة إليه تشريفا له. الثاني : أنها دخلت للجمع فيكون داخلا في جملتهم فيكون السلام عليه وعليهم. قال السهيلي : قال بعض المتكلمين في معاني القرآن : آل ياسين آل محمد عليه السلام ، ونزع إلى قول من قال في تفسير {يس} يا محمد. وهذا القول يبطل من وجوه كثيرة : أحدها : أن سياقة الكلام في قصة إلياسين يلزم أن تكون كما هي في قصة إبراهيم ونوج وموسى وهارون وأن التسليم راجع عليهم ، ولا معنى للخروج عن مقصود الكلام لقول قيل في تلك الآية الأخرى مع ضعف ذلك القول أيضا ؛ فإن {يس} و {حم} و {الم} ونحو ذلك القول فيها واحد ، إنما هي حروف مقطعة ، إما مأخوذة من أسماء الله تعالى كما قال ابن عباس ، وإما من صفات القرآن ، وإما كما قال الشعبي : لله في كل كتاب سر ، وسره في القرآن فواتح القرآن. وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لي خمسة أسماء" ولم يذكر فيها {يس} . وأيضا فإن {يس} جاءت التلاوة فيها بالسكون والوقف ، ولو كان اسما للنبي صلى صلى الله عليه وسلم لقال : {يسن} بالضم ؛ كما قال تعالى : {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [يوسف : 46] وإذا بطل هذا القول لما ذكرناه ؛ فـ {إلياسين} هو إلياس المذكور وعليه وقع التسليم. وقال أبو عمرو بن العلاء : هو مثل إدريس وإدراسين ، كذلك هو في مصحف ابن مسعود. {وإن إدريس لمن المرسلين} ثم قال : {سلام على إدراسين}. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } تقدم.
(15/120)