المجلد الخامس عشر
تفسير سورة الصافات
الآية : 91 - 96 {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى : {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } قال السدي : ذهب إليهم. وقال أبو مالك : جاء إليهم. وقال قتادة : مال إليهم. وقال الكلبي : أقبل عليهم. وقيل : عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل. وقال الشاعر :
ويريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
فقال : {أَلا تَأْكُلُونَ } فخاطبها كما يخاطب من يعقل ؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا قيل : كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد ، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم. وقيل : تركوه للسدنة. وقيل : قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء ؛ فقال : {أَلا تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ }{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد ؛ قال الضحاك والربيع بن أنس. وقيل : المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [الأنبياء : 57]. وقال الفراء وثعلب : ضربا بالقوة واليمين القوة. وقيل : بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة : 44] أي بالعدل ، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين ؛ ولذلك قال : {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [الصافات : 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم ، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق ، فالبيعة باليمين ؛ فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه ؛ لأنه وفي بالبيعة ، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله ؛ لأن الجور هناك. فقوله : {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له ها هنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا ، أي فتاتا كالجذيذة
(15/94)
وهي السويق وليس من قبيل القوة ؛ قاله الترمذي الحكيم. {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قرأ حمزة {يزفون} بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون ؛ قاله ابن زيد. قتادة والسدي : يمشون. وقيل : المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء. وقيل : المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو ؛ ومنه زفيف النعامة. وقال الضحاك : يسعون وحكى يحيى بن سلام : يرعدون غضبا. وقيل : يختالون وهو مشي الخيلاء ؛ قاله مجاهد. ومنه أُخِذ زفاف العروس إلى زوجها. وقال الفرزدق :
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زُفَّف
ومن قرأ : {يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي : أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف. وقيل : هما لغتان يقال : زف القوم وأزفوا ، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى ، والمزفة : المحفة التي تزف فيها العروس ؛ حكي ذلك عن الخليل. النحاس : "ويزفون" بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة ، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم : أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته ؛ وأنشد هو وغيره :
تمنى حصين أن يسود جذاعة ... فأمسى حصين قد أذل وأ قهرا
أي صير إلى ذلك ؛ فكذلك {يزفون} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد : الزفيف الإسراع. وقال أبو إسحاق : الزفيف أول عدو النعام. وقال أبو حاتم : وزعم الكسائي أن قوما قرؤوا {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُونَ } خفيفة ؛ من وزف يزف ، مثل وزن يزن. قال النحاس : فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف {يزفون} مخففة. قال الفراء : وأنا لا أعرفها. قال
(15/95)
أبو إسحاق : وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس : ولا نعلم أحدا قرأ {يزفون}.
قلت : هي قراءة عبدالله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري : و {يزفون} على البناء للمفعول. {يزفون} من زفاه إذا حداه ؛ كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع : {يزفون} بالراء من رفيف النعام ، وهو ركض بين المشي والطيران.
قوله تعالى : {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } فيه حذف ؛ أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا ، فقال محتجا : {أتعبدون ما تنحون} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } {ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام ، يعني الخشب والحجارة وغيرهما ؛ كقوله : {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } [الأنبياء : 56] وقيل : إن {ما} استفهام ومعناه التحقير لعملهم. وقيل : هي نفي ، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا ، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة : أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله خالق كل صانع وصنعته" ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه" وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية : 97 {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ }
(15/96)
قوله تعالى : {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في "الأنبياء" بيانه فـ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً } تملؤونه حطبا فتضرمونه ، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيها. وقال ابن عمرو بن العاص : فلما صار في البنيان قال : حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في {الجحيم} تدل على الكناية ؛ أي في جحيمه ؛ أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري : أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك ، وهو الذي جاء فيه الحديث : "بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" والله أعلم. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً } أي بإبراهيم. والكيد المكر ؛ أي احتالوا لإهلاكه. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها ، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.
الآية : 99 - 101 {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ }
هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ } فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة ، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. وقيل : ذاهب بعملي وعبادتي ، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في "الكهف" مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس.
(15/97)
وقيل : خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل : قال ذلك لمن فارقه من قومه ؛ فيكون ذلك توبيخا لهم. وقيل : قاله لمن هاجر معه من أهله ؛ فيكون ذلك منه ترغيبا. وقيل : قال هذا قبل إلقائه في النار. وفيه على هذا القول تأويلان : أحدهما : إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي. الثاني : إني ميت ؛ كما يقال لمن مات : قد ذهب إلى الله تعالى ؛ لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار ، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها ، إلى أن قيل لها : {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } فحينئذ سلم إبراهيم منها. وفي قوله : {سيهدين} على هذا القول تأويلان : أحدهما : {سيهدين} إلى الخلاص منها. الثاني : إلى الجنة. وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم : لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب ؛ فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول : اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا ؛ فلما ذهب به ليطرح في النار { قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . فلما طرح في النار قال : "حسبي الله ونعم الوكيل" فقال الله تعالى : {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً } [الأنبياء : 69] فقال أبو لوط وكان ابن عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه.
قوله تعالى : {رب هب لي من الصالحين} لما عرفه الله أنه مخلصه دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في "آل عمران" القول في هذا. وفي الكلام حذف ؛ أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين ، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد ؛ لأن الصغير لا يوصف بذلك ، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في "هود". ويأتي أيضا في "الذاريات".
الآية : 102 - 113 {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
(15/98)
الآيه : [103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
الآيه : [104] { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
الآيه : [105] { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}
الآيه : [106 { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
الآيه : [107] { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}
الآيه : [108] { سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
الآيه : [109] { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
الآيه : [110] { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
الآيه : [111] { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ}
الآيه : [112] { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ }
فيه سبع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي فوهبنا له الغلام ؛ فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وقال مجاهد : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال الفراء : كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال ابن عباس : هو احتلام. قتادة : مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد : هو السعي في العبادة. ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله عز وجل يقول : {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } [الإسراء : 19].
واختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق. وممن قال بذلك العباس بن عبدالمطلب وابنه عبدالله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال : الذبيح إسحاق. وهو الصحيح عن عبدالله بن مسعود أن رجلا قال له : يا ابن الأشياخ الكرام. فقال عبدالله : ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم وسلم".
(15/99)
وروى أبو الزبير عن جابر قال : الذبيح إسحاق. وذلك مروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عبدالله بن عمر : أن الذبيح إسحاق. وهو قول عمر رضي الله عنه. فهؤلاء سبعة من الصحابة. وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبدالرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبدالله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس ، كلهم قالوا : الذبيح إسحاق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، واختاره غير واحد منهم النحاس والطبري وغيرهما. قال سعيد بن جبير : أرى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى به المنحر من منى ؛ فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه ، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال. وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين. وقال آخرون : هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا ، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة. وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد :
إن الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا ... وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل
وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن الذبيح
(15/100)
إسماعيل" والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين. واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال : {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } أنه دعا فقال : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } فقال تعالى : {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [مريم : 49] ؛ ولأن الله قال : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق ؛ لأنه قال : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } ، وقال هنا : {بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. احتج من قال إنه إسماعيل : بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى : {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الأنبياء : 85] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [مريم : 54] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ؛ ولأن الله تعالى قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا ، وأيضا فإن الله تعالى قال : {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود : 71] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس. وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع ؛ أما قولهم : كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى : وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان ؛ قال ابن عباس وسيأتي. ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحاق يعقوب. قال : لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق. وأما قولهم : ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس ، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم. وقال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح. وهذا مذهب ثالث.
الثانية : قوله تعالى : {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات. وقال محمد بن كعب :
(15/101)
كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا ؛ فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع ، قال صلى الله عليه وسلم : "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا". وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ؛ واستدل بهذه الآية. وقال السدي : لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح. فقيل له في منامه : قد نذرت فف بنذرك. ويقال : إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ؛ فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان ؟ فسمي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم : الله أكبر والحمد لله ؛ فبقي سنة. وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر.
الثالثة : فقال أهل السنة : إن نفس الذبح لم يقع ، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل ؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. وقوله تعالى : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } : أي حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل به في هذا الباب. وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه ؛ لأن معنى ذبحت الشيء قطعته. واستدل على هذا بقول مجاهد : قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني ، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض ؛ فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت. فقال له ما لك ؟ قال : انقلبت السكين. قال اطعني بها طعنا. وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءا التأم. وقالت طائفة : وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس ، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا. وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح ، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل
(15/102)
وإبراهيم صلوات الله عليهما ، وكان أولى بالبيان من الفداء. وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم. وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
الرابعة : قوله تعالى : {انْظُرْ مَاذَا تَرَى } قرأ أهل الكوفة غير عاصم {ماذا ترى} بضم التاء وكسر الراء من أرِى يُري. قال الفراء : أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره ، وإنما قال العلماء ماذا تشير ؛ أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد {تُرى} وقال : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس : وهذا غلط ، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور ، يقال : أريت فلانا الصواب ، وأريته رشده ، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون {ترى} مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش {ترى} غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ؛ أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله فـ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء ؛ كقوله : {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل : 59] أي اصطفاهم على ما تقدم. و {ما} بمعنى الذي. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } قال بعض أهل الإشارة : لما استثنى وفقه الله للصبر. وقد مضى الكلام في {يَا أَبَتِ } [يوسف : 4] وكذلك في {يَا بُنَيَّ }[ يوسف : 5] في "يوسف" وغيرها
(15/103)
الخامسة- قوله تعالى : {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي وضوان الله عليهم {فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي فوضا أمرهما إلى الله. وقال ابن عباس : استسلما. وقال قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال قتادة : كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب "لما" محذوف عند البصريين تقديره {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } فديناه بكبش. وقال الكوفيون : الجواب {ناديناه} والواو زائدة مقحمة ؛ كقوله : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا } [يوسف : 15] أي أوحينا. وقول : {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [الأنبياء : 96]. {واقترب} أي اقترب. وقوله : {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ } [الزمر : 73] أي قال لهم. وقال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى ، والواو زائدة. وقال أيضا :
حتى إذا حملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم الفاجر الخب
أراد قلبتم. النحاس : والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد. وفي الخبر : إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه : يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب ؛ واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه ؛ لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني ، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع ، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس ، فلم تعمل السكين شيئا ، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا ؛ فذلك قوله تعالى : {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } كذلك فال ابن عباس : معناه كبه على وجهه فنودي {يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } فالتفت فإذا بكبش ؛ ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته ، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل ؛ هذا بهيئة
(15/104)
الذبح ، وهذا بصورة المذبوح ، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري : {وتله للجبين} أي صرعه ؛ كما تقول : كبه لوجهه. الهروي : والتل الدفع والصرع ؛ ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : "وتركوك لمتلك" أي لمصرعك. وفي حديث آخر : "فجاء بناقة كوماء فتلها" أي أناخها. وفي الحديث : "بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي" قال ابن الأنباري : أي فألقيت في يدي ؛ يقال : تللت الرجل إذا ألقيته. قال ابن الأعرابي : فصبت في يدي ؛ والتل الصب ؛ يقال : تل يتل إذا صب ، وتل يتل بالكسر إذا سقط.
قلت : وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ ؛ فقال للغلام : "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء" فقال الغلام : لا والله ، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال ؛ فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ؛ يريد جعله في يده. وقال بعض أهل الإشارة : إن إبراهيم ادعى محبة الله ، ثم نظر إلى الولد بالمحبة ، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة ؛ فقيل له : يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي ، فشمر وأخذ السكين وأضجع ولده ، ثم قال : اللهم تقبله مني في مرضاتك. فأوحى الله إليه : يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد ، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا ، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك. وقال كعب وغيره : لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه ، قال الشيطان : والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل الشيطان لهم في صورة الرجل ، ثم أتى أم الغلام وقال : أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : لا. قال : إنه يذهب به ليذبحه. قالت : كلا هو أرأف به من ذلك. فقال : إنه يزعم أن ربه أمره بذلك. قالت : فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه. ثم أتى الغلام فقال : أتدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : لا. قال : فإنه يذهب بك ليذبحك. قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك. قال : فليفعل ما أمره الله به ، سمعا وطاعة لأمر الله. ثم جاء إبراهيم فقال : أين تريد ؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك
(15/105)
بذبح ابنك. فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله ، فوالله لأمضين لأمر ربي. فلم يصب ، الملعون منهم شيئا. وقال ابن عباس : لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى.
واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل : بمكة في المقام. وقيل : في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله ؛ قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير : أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى. وقال ابن جريج : ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر ؛ فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أنه ذبحه بمكة. وقال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام : لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم.
قوله تعالى : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقال آخرون : بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره ، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه ، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. وأصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر ؛ قال الله عز وجل : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء : 35]. وقال أبو زيد : هذا من البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه ؛ قال : وهذا من البلاء المكروه.
(15/106)
السابعة- قوله تعالى : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح ؛ كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. {عظيم} أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح ؛ أو لأنه متقبل. قال النحاس : عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف ، أو المتقبل. وقال ابن عباس : هو الكبش الذي تقرب به هابيل ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا : أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه ، وهذا قول علي رضي الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال : يا بني اليوم وهبت لي. وقال أبو إسحاق الزجاج : قد قيل أنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي. وأهل التفسير على أنه فدي بكبش.
في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا : أفضل الضحايا الفحول من الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز ، وفحول المعز خير من إناثها ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي ضخم الجثة سمين ، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة. وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل : إني نذرت أن أنحر ابني ؟ فقال : يجزيك كبش سمين ، ثم قرأ : {وفديناه بذبح عظيم} . وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال : الذبح العظيم الشاة.
واختلفوا أيهما أفضل : الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ؛ لأنه ليس موضع الأضحية ؛ حكاه أبو عمر. وقال ابن المنذر : روينا عن بلال أنه قال : ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه -
(15/107)