المجلد الخامس عشر
تفسير سورة الصافات
مكية في قول الجميع
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 41 {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ }
قوله تعالى : {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } يعني المخلصين ؛ أي لهم عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة : يعني الجنة. وقال غيره : يعني رزق الجنة. وقيل : هي الفواكه التي ذكر قال مقاتل : حين يشتهونه. وقال ابن السائب : إنه بمقدار الغداة والعشي ؛ قال الله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم : 62]. {فواكه} جمع فاكهة ؛ قال الله تعالى : {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ } [الطور : 22] وهي الثمار كلها رطبها ويابسها ؛ قاله ابن عباس. {وهم مكرمون} أي ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي في بساتين يتنعمون فيها. وقد تقدم أن الجنان سبع في سورة "يونس" منها النعيم.
قوله تعالى : {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال عكرمة ومجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل : الأسرة تدور كيف شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس : على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد ؛ السرير ما بين صنعاء إلى الجابية ، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل : تدور بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه ؛ فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح. النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة
(15/77)
أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر : كأس ؛ فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح ؛ كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام : مائدة ؛ فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان : ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج : {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. والمعين : الماء الجاري الظاهر .{بَيْضَاءَ } صفة للكأس. وقيل : للخمر. قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وقيل : {بَيْضَاءَ } أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم. { لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ }{لَذَّةٍ } قال الزجاج : أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل : هو مصدر جعل اسما أي بيضاء لذيذة ؛ يقال شراب لذ ولذيذ ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل :
ولذ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان
فانه يريد النوم. { لا فِيهَا غَوْلٌ } أي لا تغتال عقولهم ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع. {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } أي لا تذهب عقولهم بشربها ؛ يقال : الخمر غول للحلم ، والحرب غول للنفوس ؛ أي تذهب بها. وقال : نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس :
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ... ـف يصرعه بالكثيب البهر
وقال أيضا :
نزيف إذا قام لوجه تمايلت ... تراشي الفؤاد الرخص ألا تخرا
وقال آخر :
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
(15/78)
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي ؛ من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. يقال : أحصد الزرع إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم إذا حان قطافه ، وأركب المهر إذا حان ركوبه. وقيل : المعنى لا ينفدون شرابهم ؛ لأنه دأبهم ؛ يقال : أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى ؛ لأن معنى {يُنْزَفُونَ } عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم ؛ فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى {يُنْزَفُونَ } الصحيح فيه أنه يقال : أنزف الرجل إذا نفد شرابه ، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة ؛ ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل : {لاَ يُنْزَفُونَ } بكسر الزاي لا يسكرون ؛ ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي : ولا يكون معناه يسكرون ؛ لأن قبله {لا فِيهَا غَوْلٌ }. أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا ؛ ويسوغ ذلك في "الواقعة". ويجوز أن يكون معنى {لا فِيهَا غَوْلٌ } لا يمرضون ؛ فيكون معنى {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {لا فِيهَا غَوْلٌ } قال لا فيها وجع بطن. الحسن : صداع. وهو قول ابن عباس : {لا فِيهَا غَوْلٌ } لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ؛ فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. مجاهد : داء. ابن كيسان : مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي : { لا فِيهَا غَوْلٌ }" لا فيها غول" أي إثم ؛ نظيره : {لا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23]. وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة : لا تغتال عقولهم فتذهب بها. ومنه قول الشاعر :
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
(15/79)
أي تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق في خفاء. يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة : وهو القتل خفية.
قوله تعالى : {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ؛ قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم. عكرمة : {قاصرات الطرف} أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول أبين ؛ لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر "مقصورات" يأتي بيانه. و {قاصرات} مأخوذ من قولهم : قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره ؛ قال امرؤ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
ويروى : فوق الخد. والأول أبلغ. والإتب القميص ، والمحول الصغير من الذر. وقال مجاهد أيضا : معناه لا يغرن. "عين" عظام العيون الواحدة عيناء ؛ وقال السدي. مجاهد : "عين" حسان العيون. الحسن : الشديدات بياض العين ، الشديدات سوادها. والأول أشهر في اللغة. يقال : رجل أعين واسع العين بيّن العين ، والجمع عين. وأصله فعل بالضم فكسرت العين ؛ لئلا تنقلب الواو ياء. ومنه قيل لبقر الوحش عين ، والثور أعين ، والبقرة عيناء. {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } أي مصون. قال الحسن وابن زيد : شبهن ببيض النعام ، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار ، فلونها أبيض في صفرة وهو حسن ألوان النساء. وقال ابن عباس وابن جبير والسدي : شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي. وقال عطاء : شبهن بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض. وسحاة كل شيء : قشره والجمع سحا ؛ قاله الجوهري. ونحوه قول الطبري ، قال : هو القشر الرقيق ، الذي على البيضة بين ذلك. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها ؛ قال امرؤ القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
(15/80)
وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة : كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل : المكنون المصون عن الكسر ؛ أي إنهن عذارى. وقيل : المراد بالبيض اللؤلؤ ؛ كقوله تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [ الواقعة : 23] أي في أصدافه ؛ قاله ابن عباس أيضا. ومنه قول الشاعر :
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغـ ... ـواص ميزت من جوهر مكنون
وإنما ذكر المكنون والبيض جمع ؛ لأنه رد النعت إلى اللفظ.
الآية : 50 - 61 {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ }
قوله تعالى : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجنة. وهو معطوف على معنى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ } المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب. قال بعضهم :
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا ؛ إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره.
(15/81)
قوله تعالى : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } أي من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي صديق ملازم {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } أي بالمبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير : قرينه شريكه. وقد مضى في "الكهف" ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ } [الكهف : 32] وفيهما أنزل الله جل وعز : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } إلى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ } وقيل : أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث. وقرئ : {أئنك لمن المصدقين} بتشديد الصاد. رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. قال النحاس : ولا يجوز {أئنك لمن المصَدقين} لأنه لا معنى للصدقة ها هنا. وقال القشيري : وفي قراءة عن حمزة {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بتشديد الصاد. واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق. والاعتراض باطل ؛ لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها. فالمعنى {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بالمال طلبا في ثواب الآخرة. {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } أي مجزيون محاسبون بعد الموت فـ "قال" الله تعالى لأهل الجنة : {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } . وقيل : هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين. وقيل : هو من قول الملائكة. وليس {هل أنتم مطلعون} باستفهام ، إنما هو بمعنى الأمر ، أي اطلعوا ؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه لما نزلت آية الخمر ، قام عمر قائما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، ثم قال : يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر. فنزلت : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة : 91] قال : فنادى عمر انتهينا يا ربنا. وقرأ ابن عباس : {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } بإسكان الطاء خفيفة {فأُطْلِعَ} بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون ، فأقبل. قال النحاس {فأطلع فرآه} فيه قولان : أحدهما : أن يكون فعلا مستقبلا معناه فأطلع أنا ، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني : أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا. قال الزجاج : يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد. وقد حكى
(15/82)
{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره. النحاس : وهو لحن لا يجوز ؛ لأنه جمع بين النون والإضافة ، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي ، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله ، وأنشدا :
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من حدث الأمر معظما
وأنشد الفراء : والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده :
ولم يرتفق والناس محتضرونه
وهذا شاذ خارج عن كلام العرب ، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل ، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه : إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه ، فجرى {مطلعون} مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد :
أرأيت إن جئت به أملودا ... مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قوله تعالى : {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فاطلع فرآه } إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك ، قال : إن بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى ، قال الله تعالى : {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } أي في وسط النار والحسك حواليه ؛ قاله ابن مسعود. ويقال : تعبت حتى انقطع سوائي : أي وسطي. وعن أبي عبيدة : قال لي عيسى بن عمر : كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه ، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول : {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } {إن} مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما
(15/83)
تدخل على كان. ونحوه {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا } [الفرقان : 42] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } في النار. وقال الكسائي : {لتردين} أي لتهلكني ، والردى الهلاك. وقال المبرد : لو قيل : {لتردين} لتوقعني في النار لكان جائزا {ولولا نعمة ربي} أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء. وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. {لكنت من المحضرين} قال الفراء : أي لكنت معك في النار محضرا. وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر ؛ قاله الماوردي.
قوله تعالى : {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ } وقرئ "بمائتين" والهمزة في {أفما} للاستفهام دخلت على فاء العطف ، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا ؛ لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل : هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبون ؛ أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل : هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث ، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه ؛ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } يكون "هو" مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون {هو} فاصلا. {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال : {لمثل هذا} العطاء والفضل {فليعمل العاملون} نظير ما قال له الكافر : {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [الكهف : 34]. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة. وقيل : هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا ؛ أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء ، و {لِمِثْلِ هَذَا } الجزاء {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ }. النحاس : وتقدير الكلام - والله أعلم - فليعمل العاملون لمثل هذا. فإن قال قائل : الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول ، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم ؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير ؛ لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة.
(15/84)
الآية : 62 {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ }
قوله تعالى : {أَذَلِكَ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر ، وهو من قول الله جل وعز. {نُزُلاً } على البيان ؛ والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا. {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة - النحاس - وكذا النزل إلا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة ، ويجوز أن يكون أصله النزل ؛ ومنه أقيم للقوم نزلهم ، واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. وقد مضى هذا في آخر سورة "آل عمران" وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. قال المفسرون : وهي في الباب السادس ، وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء ؛ فلا بد لأهل النار من أن ينحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها ، وكذلك يصعد إليها من كان أسفل. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا على قولين : أحدهما : أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها ؛ فقال قطرب : إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره : بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني : إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قالت كفار قريش : ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه فقال : هو عندنا الزُبد والتمر. فقال ابن الزبعري : أكثر الله في بيوتنا الزقوم فقال أبو جهل لجاريته : زقمينا ؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه : تزقموا ؛ هذا الذي يخوفنا به محمد ؛ يزعم أن النار تنبت الشجر ، والنار تحرق الشجر.
(15/85)
قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } أي المشركين ، وذلك أنهم قالوا : كيف تكون في النار شجرة وهي تحرق الشجر ؟ وقد مضى هذا المعنى في "سبحان" واستخفافهم في هذا كقولهم في قوله تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر : 30]. ما الذي يخصص هذا العدد ؟ حتى قال بعضهم : أنا أكفيكم منهم كذا فاكفوني الباقين. فقال الله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } [المدثر : 31] والفتنة الاختبار ، وكان هذا القول منهم جهلا ، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار ، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب وخزنة النار. وقيل : هذا الاستبعاد الذي وقع للكفار هو الذي وقع الآن للملحدة ، حتى حملوا الجنة والنار على نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح ، وحملوا وزن الأعمال والصراط واللوح والقلم على معاني زوروها في أنفسهم ، دون ما فهمه المسلمون من موارد الشرع ، وإذا ورد خبر الصادق بشيء موهوم في العقل ، فالواجب تصديقه وإن جاز أن يكون له تأويل ، ثم التأويل في موضع إجماع المسلمين على أنه تأويل باطل لا يجوز ، والمسلمون مجمعون على الأخذ بهذه الأشياء من غير مصير إلى علم الباطن. وقيل إنها فتنة أي عقوبة للظالمين ؛ كما قال : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [الذاريات : 14].
قوله تعالى : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } أي قعر النار ومنها منشؤها ثم هي متفرعة في جهنم. {طَلْعُهَا } أي ثمرها ؛ سمي طلعا لطلوعه. { كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } قيل : يعني الشياطين بأعيانهم شبهها برؤوسهم لقبحهم ، ورؤوس الشياطين متصور في النفوس وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان ، ولكل صورة حسنة هي كصورة ملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحب يوسف : {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] وهذا تشبيه تخييلي ؛ روي معناه عن ابن عباس والقرظي. ومنه قول امرئ القيس :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
(15/86)
وإن كانت الغول لا تعرف ؛ ولكن لما تصور من قبحها في النفوس. وقد قال الله تعالى : {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام : 112] فمردة الإنس شياطين مرئية. وفي الحديث الصحيح : "ولكأن نخلها رؤوس الشياطين" وقد أدعى كثير من العرب رؤية الشياطين والغيلان. وقال الزجاج والفراء : الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما. قال الراجز وقد شبه المرأة بحية لها عرف :
عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
الواحدة حماطة. والأعرف الذي له عف. وقال الشاعر يصف ناقته :
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر
التعمج : الاعوجاج في السير. وسهم عموج : يتلوى في ذهابه. وتعمجت الحية : إذا تلوت في سيرها. وقال يصف زمام الناقة :
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقيل : إنما شبه ذلك بنبت قبيح في اليمن يقال له الأستن والشيطان. قال النحاس : وليس ذلك معروفا عند العرب. الزمخشري : هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين. النحاس : وقيل : الشياطين ضرب من الحيات قباح. {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وقال في "الغاشية] : {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } [الغاشية : 6] وسيأتي. {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } أي بعد الأكل من الشجرة {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الشوب الخلط ، والشب والشوب لغتان كالفَقر والفُقر والفتح أشهر. قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة. فأخبر أنه يشاب لهم. والحميم : الماء الحار ليكون أشنع ؛ قال الله تعالى : {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد : 15]. السدي : يشاب لهم الحميم بغساق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم. وقيل : يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحراوة الحميم ؛ تغليظا لعذابهم وتجديدا
(15/87)
لبلائهم. {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } قيل : إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها. وقال مقاتل : الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم ؛ لقوله تعالى : {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 44]. وقرأ ابن مسعود : {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم} قال أبو عبيدة : يجوز أن تكون {ثم} بمعنى الواو. القشيري : ولعل الحميم في موضع من جهنم على طرف منها.
الآية : 69 - 74 {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى : {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } أي يسرعون ؛ عن قتادة. وقال مجاهد : كهيئة الهرولة. قال الفراء : الإهراع الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة : {يهرعون} يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال : المهرع المستحث ؛ يقال : جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وقيل : يزعجون من شدة الإسراع ؛ قال الفضل. الزجاج : يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} أي من الأمم الماضية. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ } أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا .{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } أي آخر أمرهم. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل : هو استثناء من {المنذَرين}. وقيل هو من قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ }.
(15/88)
الآية : 75 {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ }
قوله تعالى : {وَلَقَدْ نَادَانَا } من النداء الذي هو الاستغاثة ؛ ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال : {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح : 26]. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } قال الكسائي : أي {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } له كنا. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } يعني أهل دينه ، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو الغرق. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه ؛ فذلك قوله : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ }. وقال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح : فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وقال قوم : كان لغير ولد نوح أيضا نسل ؛ بدليل قوله : {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء : 3]. وقوله : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود : 48] فعلى هذا معنى الآية : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك
(15/89)
قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة ، فإنه محبب إلى الجميع ؛ حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين : أحدهما : {وتركنا عليه في الآخرين} يقال : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية ؛ يعني يسلمون له تسليما ويدعون له ؛ وهو من الكلام المحكي ؛ كقوله تعالى : {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا }. [النور : 1]. والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي سلامة له من أن يذكر بسوء {في الآخرين}. قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} منصوب بـ {تركنا} أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما. وقيل : {فِي الْآخِرِينَ } أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به ؛ قال الله تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [الشورى : 13]. وقال سعيد بن المسيب : وبلغني أنه من قال حين يسمي {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل". وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال : ما نمت هذه الليلة ؛ فقال وسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أي شيء" فقال : لدغتني عقرب ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك".
قوله تعالى : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب ؛ أي جزاء كذلك. {إنه من عبادنا المؤمنين} هذا بيان إحسانه. قوله تعالى : {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي من كفر. وجمعه أُخر. والأصل فيه أن يكون معه {من} إلا أنها حذفت ؛ لأن المعنى معروف ، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. {ثم} ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم ؛ كقوله : {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [البلد : 16] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين ، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.
(15/90)
الآية : 83 {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ } قال ابن عباس : أي من أهل دينه. وقال مجاهد : أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي : الشيعة الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. وقال الكلبي والفراء : المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في {شيعته} على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر ، لأنه هو المذكور أولا ، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة ؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي مخلص من الشرك والشك. وقال عوف الأعرابي : سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ فقال : الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج : مسكين أبو محمد! إن عذبه الله فبذنبه ، وإن غفر له فهنيئا له ، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف : فقلت لمحمد ما القلب السليم ؟ قال : أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور. وقال هشام بن عروة : كان أبي يقول لنا : يا بني لا تكونوا لعانين ، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط ، فقال تعالى : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين : أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته ؛ الثاني عند إلقائه في النار.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيه } {لأبيه} وهو آزر ، وقد مضى الكلام فيه. {وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء و {ذا} خبره. ويجوز أن تكون
(15/91)
{ما} و {ذا} في موضع نصب بـ {تعبدون} . {أئفكا} نصب على المفعول به ؛ بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد : والإفك أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ، ومنه ائتفكت بهم الأرض. {آلهة} بدل من إفك {دون الله تريدون} أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون ألهة من دون الله آفكين. {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ فهو تحذير ، مثل قوله : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6]. وقيل : أي شيء أوهمتموه حتى أشركتم به غيره.
قوله تعالى : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } قال ابن زيد عن أبيه : أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا ، فنظر إلى نجم طالع فقال : إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه ، فأوهمهم هو من تلك الجهة ، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه ؛ وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. وقال ابن عباس : كان علم النجوم من النبوة ، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك ، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا. وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام ، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه ، فقالت لهم مريم : من أين علمتم بموضعه ؟ قالوا : من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال : اللهم لا تفهمهم في علمها ، فلا يعلم علم النجوم أحد ؛ فصار حكمها في الشرع محظورا ، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي : وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمز جرد ، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول. وقال الحسن : المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي ؛ أي فيما طلع له منه ، فعلم أن كل حي يسقم فقال. {إِنِّي سَقِيمٌ } الخليل والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره : نظر في النجوم. وقيل : كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى. وقيل : المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا
(15/92)
ومدبرا ، وأنه يتغير كتغيرها. فقال : {إِنِّي سَقِيمٌ }. وقال الضحاك : معنى {سقيم} سأسقم سقم الموت ؛ لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت ، وهذا تورية وتعريض ؛ كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي ؛ يعني أخوة الدين. وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ، وكانوا يهربون من الطاعون ، {فـ} لذلك {تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي فارين منه خوفا من العدوى. وروى الترمذي الحكيم قال : حدثنا أبي قال حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن سمرة عن الهمداني عن ابن مسعود قال : قالوا لإبراهيم : إن لنا عيدا لو خرجت معنا لأعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه وخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه ، وقال إني سقيم أشتكي رجلي ، فوطئوا رجله وهو صريع ، فلما مضوا نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء : 57]. قال أبو عبدالله : وهذا ليس بمعارض لما قال ابن عباس وابن جبير ؛ لأنه يحتمل أن يكون قد اجتمع له أمران.
قلت : وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات..." الحديث. وقد مضى في سورة "الأنبياء" وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم. وقد قال جل وعز : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر : 30]. فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا ، ومنه المثل السائر [كفى بالسلامة داء] وقول لبيد :
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا : مات وهو صحيح! فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه! فإبراهيم صادق ، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا ؛ ولهذا قال : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء : 82] وقد مضى هذا كله مبينا والحمد لله. وقيل : أراد سقيم النفس لكفرهم. والنجوم يكون جمع نجم ويكون واحدا مصدرا.
(15/93)