المجلد الخامس عشر
تفسير سورة يس
...
الجزء 15 من الطبعة
سورة يس
الآية : [41] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
الآية : [42] { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}
الآية : [43] { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ}
الآية : [44] { إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }
قوله تعالى : {وَآيَةٌ لَهُمْ} يحتمل ثلاثة معان : أحدها عبرة لهم ؛ لأن في الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم ؛ لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم ؛ لأن في الآيات إنذارا. {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} من أشكل ما في السورة ؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل : المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فالضميران مختلفان ؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل : الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم ؛ فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس ؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء ، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل : الذرية الآباء والأجداد ، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام ؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية ؛ بدليل هذه الآية ؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية ؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع : أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون ؛ قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه ؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في {البقرة}اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و {الْمَشْحُونِ} المملوء الموقر ، و {الْفُلْكِ} يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في {يونس}القول فيه.
قوله تعالى : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال : مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير ،
(15/34)
وروي عن ابن عباس أن معنى "من مثله" للإبل ، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر ؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة :
كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن ؛ النحاس : وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال : خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك : إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار ؛ وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي : ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا.
قوله تعالى : {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية ، أو إلى الجميع ، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس ومن قال : إن المراد {مِنْ مِثْلِهِ } السفن لا الإبل. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه : فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و {صَرِيخَ} بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز {فلا صريخ لهم} ؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع ؛ لأنه معرفة وهو {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى : {يُنْقَذُونَ} يخلصون من الغرق. وقيل : من العذاب. {إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا} قال الكسائي : هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج : نصب مفعول من أجله ؛ أي للرحمة {وَمَتَاعاً} إِلَى حِينٍ معطوف عليه. {إِلَى حِينٍ} إلى الموت ؛ قاله قتادة. يحيى بن سلام : إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم ، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة ، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة.
(15/35)
الآية : [45] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
الآية : [46] { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}
الآية : [47] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }
الآية : [48] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
الآية : [49] { مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}
الآية : [50] { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} قال قتادة : يعني {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد : "ما بين أيديكم" ما مضى من الذنوب ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما يأتي من الذنوب. الحسن : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما مضى من أجلكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منه. وقيل : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الدنيا ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من عذاب الآخرة ؛ قاله سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة وما عملوا لها ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما ظهر لكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما خفي عنكم. والجواب محذوف ، والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا ؛ دليله قول بعد : {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } فاكتفى بهذا عن ذلك.
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن : يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل : هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله ؛ وذلك قوله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا
(15/36)
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } [الأنعام : 136] فحرموهم وقالوا : لو شاء الله أطعمكم - استهزاء - فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا {أَنُطْعِمُ} أي أنرزق أَن {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} كان بلغهم من قول المسلمين : أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا : أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله! أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون : لو شاء الله لأغنى فلانا ؛ ولو شاء الله لأعز ، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين ، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل : قالوا هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم : {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا ؟ . وكان هذا الاحتجاج باطلا ؛ لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه انتزع ذلك القدر منه ، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم : لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [الأنعام : 148] ، وقوله : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [ المنافقون : 1]. {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} قيل هو من قول الكفار للمؤمنين ؛ أي في سؤال المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل : هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجواب. وقيل : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال : يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ؟ قال : نعم. قال : فما باله لم يطعمهم ؟ قال : ابتلى قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال : والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت ؟ فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل : 5 - 6] الآيات. وقيل : نزلت الآية في قوم من الزنادقة ، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهزؤوا بالمسلمين بهذا القول ؛ ذكره القشيري والماوردي.
قوله تعالى : {يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} لما قيل لهم : {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا
(15/37)
خَلْفَكُمْ} قالوا : {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد ، قال الله تعالى : {مَا يَنْظُرُونَ}أي ما ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً}وهي نفخة إسرافيل {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم ؛ وهذه نفخة الصعق. وفي {يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات : قرأ أبو عمرو وابن كثير : {وهم يخصمون} بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه {يخصمون} بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع ببن ساكنين. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : {وهم يخصمون} بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي {وهم يخصمون} بكسر الخاء وتشديد الصاد ، ومعناه يخصم بعضهم بعضا. وقيل : تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبي بكر عن عاصم ، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس : القراءة الأولى أبينها ، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أبي {وهم يختصمون} - وإسكان الخاء لا يجوز ، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل : أسكنوا الخاء على أصلها ، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف ، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي : وهي قراءة أبي بن كعب. قال النحاس : فأما {يخصمون} فالأصل فيه أيضا يختصمون ، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر ؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة ، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة! وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في "البقرة" في {يَخْطَفُ
(15/38)
أَبْصَارَهُمْ} [البقرة : 20] وفي "يونس" {يَهْدِِّي } [يونس : 35]. وقال عكرمة في قوله جل وعز : {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال : هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة : ينفخ في الصور والناس في أسواقهم : فمن حالب لقحة ، ومن ذارع ثوبا ، ومن مار في حاجة. وروى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة ، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يبتلعها حتى تقوم الساعة". وفي حديث عبدالله بن عمرو : "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس" الحديث. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضا لما في يده من حق. وقيل : لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع ؛ بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إذا ماتوا. وقيل : إن معنى {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} لا يرجعون إليهم قولا. وقال قتادة : {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي إلى منازلهم ؛ لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ، إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ، فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة : "النمل" أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن
(15/39)
فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بين النفختين أربعون سنة : الأولى يميت الله بها كل حي ، والأخرى يحيي الله بها كل ميت". وقال قتادة : الصور جمع صورة ؛ أي نفخ في الصور والأرواح. وصورة وصور مثل سورة البناء وسور ؛ قال العجاج :
ورب ذي سرادق محجور ... سرتُ إليه في أعالي السور
وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ : {ونفخ في الصور}. النحاس : والصحيح أن {الصور} بإسكان الواو : القرن ؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله ، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة :
نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي القبور. وقرئ بالفاء "من الأجداف" ذكره الزمخشري. يقال : جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث : "بالثاء" والجمع أجدث وأجداث ؛ قال المتنخل الهذلي :
عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط
واجتدث : أي اتخذ جدثا. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} أي يخرجون ؛ قال ابن عباس وقتادة ومنه قول امرئ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
ومنه قيل للولد نسل ؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل : يسرعون. والنسلان والعسلان : الإسراع في السير ، ومنه مشية الذئب ؛ قال :
عسلان الذئب أمسى قاربا ... برد الليل عليه فنسل
يقال : عسل الذئب ونسل ، يعسل وينسل ، من باب ضرب يضرب. ويقال : ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي ؛ فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل : {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ
(15/40)
إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] ، وقال : {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } [القمر : 7] ، وفي {سأل سائل} [المعارج : 1] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج : 43] أي يسرعون. وفي الخبر : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال : "عليكم بالنسل" أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط.
قوله تعالى : {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} قال ابن الأنباري : {يا ويلنا} وقف حسن ثم تبتدئ {من بعثنا} وروي عن بعض القراء {يا ويلنا من بعثنا} بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه ؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله : {يا ويلنا} حتى يقول : {من مرقدنا}. وفي قراءة أبي بن كعب {من هبّنا} بالوصل {من مرقدنا} فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي : قرأ ابن أبي ليلى : {قالوا يا ويلتنا} بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل ، ومثله : {يا ويلتا أألد وأنا عجوز} [هود : 72]. وقرأ علي رضي الله عنه {يا ويلتا من بعثنا} فـ {من} متعلقة بالويل أو حال من {ويلتا} فتتعلق بمحذوف ؛ كأنه قال : يا ويلتا كائنا من بعثنا ؛ وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و {من} من قوله : {من مرقدنا} متعلقة بنفس البعث. ثم قيل : كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم ؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال : ينامون نومة. وفي رواية فيقولون : يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا. قال أبو بكر الأنباري : لا يحمل هذا الحديث على أن {أهبنا} من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن ، ولكنه تفسير {بعثنا} أو معبر عن بعض معانيه. قال أبو بكر : وكذا حفظته {من هبنا} بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من. والصواب فيه على طريق اللغة {من أهبنا} بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون {من} وأسقطت الهمزة ؛ كما قالت العرب : من أخبرك من أعلمك ؟ وهم يريدون من أخبرك. ويقال : أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي :
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يعتمرني قبل ذاك عذول
وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة ؛ فذلك قولهم : {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا }
(15/41)
وقاله ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد : فقال لهم المؤمنون : {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ } . قال قتادة : فقال لهم من هدى الله : {هذا ما وعد الرحمن}. وقال الفراء : فقالت لهم الملائكة : "هذا ما وعد الرحمن". النحاس : وهذه الأقوال متفقة ؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة : 7] وكذا الحديث : "المؤمن عند الله خير من كل ما خلق" . ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم : {هذا ما وعد الرحمن}. وقيل : إن الكفار لما قال بعضهم لبعض : {من بعثنا من مرقدنا} صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ، ثم قالوا : {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} فكذبنا به ؛ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفص يقف على {من مرقدنا} ثم يبتدئ فيقول : {هذا}. قال أبو بكر بن الأنباري : {من بعثنا من مرقدنا} وقف حسن ؛ ثم تبتدئ : {هذا ما وعد الرحمن} ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا" فتخفض هذا على الإتباع للمرقد ، وتبتدئ : {ما وعد الرحمن} على معنى بعثكم ما وعد الرحمن ؛ أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس : التمام على {من مرقدنا} و {هذا} في موضع رفع بالابتداء وخبره {ما وعد الرحمن}. ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لـ {مرقدنا} فيكون التمام {من مرقدنا هذا}. {ما وعد الرحمن} في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال : يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.} [ق : 42]. وقال : {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } [القمر : 8] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه {إن كانت إلا زقية
(15/42)
واحدة} والزقية الصيحة ؛ وقد تقدم هذا. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } {فإذا هم} مبتدأ وخبره {جميع} نكرة ، و {محضرون} من صفته. ومعنى {محضرون} مجموعون أحضروا موقف الحساب ؛ وهو كقوله : {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [النحل : 77]. قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أي لا تنقص من ثواب عمل. {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } {ما} في محل نصب من وجهين : الأول : أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني : بنزع حرف الصفة تقديره : إلا بما كنتم تعملون ؛ أي تعملونه فحذف.
الآية : 55 {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ، هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ، سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }
قوله تعالى : {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له : حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبدالله بن مسعود في قوله : {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قال : شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة : بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول ؛ فيقال تحول أيضا إلى أهلك. وقيل : أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار ، وما هم فيه من أليم العذاب ، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم ؛ قال سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع : يعني في السماع. وقال ابن كيسان : {فِي شُغُلٍ } أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل : في ضيافة الله تعالى. وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين عبادي الذين
(15/43)
أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب ؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكوكب الدري ، ركبانا على نجب من نور أزمتها من الياقوت ، تطير بهم على رؤوس الخلائق ، حتى يقوموا بين يدي العرش ، فيقول الله جل وعز لهم : "السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب ، أنا اصطفيتكم وأنا أجتبيتكم وأنا اخترتكم ، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب فـ {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } [الزخرف : 68]" فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض : يا قوم أين فلان وفلان! ؟ وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }. و {شُغُل} و {شُغْل} لغتان قرئ بهما ؛ مثل الرعب والرعب ؛ والسحت والسحت ؛ وقد تقدم. {فاكهون} قال الحسن : مسرورون. وقال ابن عباس : فرحون. مجاهد والضحاك : معجبون. السدي : ناعمون. والمعنى متقارب. والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج : {فكهون} بغير ألف وهما لغتان كالفاره والفره ، والحاذر والحذر ؛ قاله الفراء. وقال الكسائي وأبو عبيدة : الفاكه ذو الفاكهة ؛ مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن ، والفكه : المتفكه والمتنعم. و {فكهون} بغير ألف في قول قتادة : معجبون. وقال أبو زيد : يقال رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكا. وقرأ طلحة بن مصرف : {فاكهين} نصبه على الحال. {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ } مبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون {هم} توكيدا {وأزواجهم} عطف على المضمر ، و {متكئون} نعت لقوله {فاكهون} . وقراءة العامة : {في ظلال} بكسر الظاء والألف. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف : {في ظلل} بضم الظاء من غير ألف ؛ فالظلال جمع ظل ، وظلل جمع ظلة. {على الأرائك} يعني السرر في الحجال واحدها أريكة ؛ مثل سفينة وسفائن ؛ قال الشاعر :
كأن احمرار الورد فوق غصونه ... بوقت الضحى في روضه المتضاحك
خدود عذارى قد خجلن من الحيا ... تهادين بالريحان فوق الأرائك
(15/44)
وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا". وقال ابن عباس : إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة ، لا يملها ولا تمله ، كلما أتاها وجدها بكرا ، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته ؛ فيجامعها بقوة سبعين رجلا ، لا يكون بينهما مني ؛ يأتي من غير مني منه ولا منها. {لهم فيها فاكهة} ابتداء وخبر. {ولهم ما يدعون} الدال الثانية مبدلة من تاء ، لأنه يفتعلون من دعا أي من دعا بشيء أعطيه. قاله أبو عبيدة ؛ فمعنى {يدعون} يتمنون من الدعاء. وقيل : المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له ؛ لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سلام : {يدعون} يشتهون. ابن عباس : يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري : {ولهم ما يدعون} وقف حسن ، ثم تبتدئ : {سلام} على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلّم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {ما يدعون}. وقال الزجاج : {سلام} مرفوع على البدل من {ما} أي ولهم أن يسلم الله عليهم ، وهذا مُنَى أهل الجنة. وروي من حديث جرير بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله : {سلام قولا من رب رحيم}. فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم" ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم ، وقد بيناه في "يونس" عند قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26]. ويجوز أن تكون {ما} نكرة ؛ و {سلام} نعتا لها ؛ أي ولهم ما يدعون مسلّم. ويجوز أن تكون {ما} رفع بالابتداء ، و {سلام} خبر عنها. وعلى هذه الوجوه لا يوقف على {ولهم ما يدعون} . وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} يكون مصدرا ، وإن شئت في موضع الحال ؛ أي ولهم
(15/45)
ما يدعون ذا سلام أو سلامة أو مسلما ؛ فعى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يدعون} وقرأ محمد بن كعب القرظي {سِلم} على الاستئناف كأنه قال : ذلك سلم لهم لا يتنازعون فيه. ويكون {ولهم ما يدعون} تاما. ويجوز أن يكون {سلام} بدلا من قوله : {ولهم ما يدعون} ، وخبر {ما يدعون} {لهم} . ويجوز أن يكون {سلام} خبرا آخر ، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه. {قولا} مصدر على معنى قال الله ذلك قولا. أو بقوله قولا ، ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى ولهم ما يدعون قولا ؛ أي عدة من الله. فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على {يدعون} . وقال السجستاني : الوقف على قوله : {سلام} تام ؛ وهذا خطأ لأن القول خارج مما قبله.
قوله تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنىً ؛ ومزته فانماز وامتاز ، وميزته فتميز. أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ؛ أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة : عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ؛ فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا : إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه ؛ فتكون فيه أبدا لا تَرى ولا تُرى. وقال داود بن الجراح : فيمتاز المسلمون من المجرمين ، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين.
الآية : [60] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
الآية : [61] { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
الآية : [62] { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}
الآية : [63] { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
الآية : [64] { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
(15/46)
قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } العهد هنا بمعنى الوصية ؛ أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. {أن لا تعبدوا الشيطان} أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي : لا للنهي. {وأن اعبدوني} بكسر النون على الأصل ، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. {هذا صراط مستقيم} أي عبادتي دبن قويم.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ } أي أغوى {جِبِلّاً كَثِيراً } أي خلقا كثيرا ؛ قاله مجاهد. قتادة : جموعا كثيرة. الكلبي : أمما كثيرة ؛ والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم : {جبلا} بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر {جبلا} بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون {جبلا} ضم الجيم والباء وتخفيف اللام ، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبدالله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي {جبلا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي : وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس : أبينها القراءة الأولى ؛ والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرؤوا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ } [الشعراء : 184] فيكون {جبلا} جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي : {ولقد أضل منكم جيلا كثيرا} بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ؛ ذكره الماوردي. {أفلم تكونوا تعقلون} عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله. {هذه جهنم} أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فحينئذ تجثو الأمم على ركبها وتضع كل ذات حمل حملها ؛ وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد".
(15/47)