المجلد الرابع عشر
تفسير سورة فاطر
...
سورة فاطر
الآية : [15] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري : "فإن قلت لم عرف الفقراء ؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً } ، وقال : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ } ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء. فإن قلت : قد قوبل {الفقراء} بـ {الغنيّ} فما فائدة {الحميد} ؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر {الحميد} ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه". وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل ، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } تكون {هو} زائدة ، فيكون لها موضع من الإعراب ، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآية : [16] { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }
الآية : [17] { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }
قوله تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } فيه حذف ؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم ؛ أي يفنيكم. { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أطوع منكم وأزكى. { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.أممتنع عسير تعذر .وقد مضى هذا في {إبراهيم}
الآية : [18] { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
(14/338)
تقدم الكلام فيه ، وهو مقطوع مما قبله. والأصل {تَوزَر} حذفت الواو اتباعا ليزر. {وازِرةٌ} نعت لمحذوف ، أي نفس وازرة. وكذا { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } قال الفراء : أي نفس مثقلة أو دابة. قال : وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر ، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة ؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } التقدير على قول الأخفش : ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه ، ومثله { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } فتكون { كان } بمعنى وقع ، أو يكون الخبر محذوفا ؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه : الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير ؛ على هذا. وخيرا فخير ؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال : بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له : ألم أكن قد أسديت إليك يدا ، ألم أكن قد أحسنت إليك ؟ فيقول بلى. فيقول : أنفعني ؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص ، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا ، وعليك مشفقا ، وإليك محسنا ، وأنت ترى ما أنا فيه ، فهب لي حسنة من حسناتك ، أو احمل عني سيئة ؛ فيقول : إن الذي سألتني يسير ؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته : ألم أكن أحسن العشرة لك ، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو ؛ فتقول : إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } . وقال الفضيل بن عياض : هي المرأة تلقى ولدها فتقول : يا ولدي ، ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن ثديي لك سقاء ، ألم يكن حجري لك وطاء ؛ يقول : بلى يا أماه ؛ فتقول : يا بني ، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا ؛ فيقول : إليك عني يا أماه ، فإني بذنبي عنك مشغول.
(14/339)
قوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى ، وهو كقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } .
قوله تعالى : { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ : {ومن فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي إليه مرجع جميع الخلق.
الآية : [19] { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ }
الآية : [20] { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ }
الآية : [21] { وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ }
الآية : [22] { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } { وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } قال الأخفش سعيد : { وَلا } زائدة ؛ والمعنى ولا الظلمات والنور ، ولا الظل والحرور. قال الأخفش : والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل ، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج : الحرور تكون بالنهار خاصة ، والسموم يكون بالليل خاصة ، حكاه المهدوي. وقال الفراء : السموم لا يكون إلا بالنهار ، والحرور يكون فيهما. النحاس : وهذا أصح ؛ لأن الحرور فعول من الحر ، وفيه معنى التكثير ، أي الحر المؤذي.
قلت : وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم" . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة : "فما تجدون من الحر فمن
(14/340)
سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها" وهذا يجمع تلك الأقوال ، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار ؛ فتأمله. وقيل : المراد بالظل والحرور الجنة والنار ؛ فالجنة ذات ظل دائم ، كما قال تعالى : { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } والنار ذات حرور ، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس : أي ظل الليل ، وحر السموم بالنهار. قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد .{ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ } قال ابن قتيبة : الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال. قال قتادة : هذه كلها أمثال ؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم ؛ أي كما لا تسمع من مات ، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون : { ِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } بحذف التنوين تخفيفا ؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية : [23] { إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ }
أي رسول منذر ؛ فليس عليك إلا التبليغ ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية : [24] { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ }
قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } أي بشيرا بالجنة أهل طاعته ، ونذيرا بالنار أهل معصيته. { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج : إلا العرب.
(14/341)
الآية : [25] { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
الآية : [26] { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
قوله تعالى : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ } يعني كفار قريش. { فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أنبياءهم ، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. { وَبِالزُّبُرِ } أي الكتب المكتوبة. { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل : يرجع البينات والزبر والكتاب إلى ، معنى واحد ، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين ، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله ، والحمد لله.
الآية : [27] { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }
الآية : [28] { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } هذه الرؤية رؤية القلب والعلم ؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل ؛ فـ { أَنَّ } واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } هو من باب تلوين الخطاب. { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } نصبت { مُخْتَلِفاً } نعتا لـ { ثَمَرَاتٍ }. { أَلْوَانُهَا } رفع بمختلف ، وصلح أن يكون نعتا ل. { ثَمَرَاتٍ } لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن
(14/342)
رفعه ؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. { بِهِ } أي بالماء وهو واحد ، والثمرات مختلفة. { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } الجدد جمع جدة ، وهي الطرائق المختلفة الألوان ، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقال : جدد "بقسم الجيم والدال" نحو سرير وسرر. وقال زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل : إن الجدد القطع ، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري : والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة ، والجمع جدد ؛ قال تعالى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم : ركب فلان جدة من الأمر ؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد : فيه خطوط مختلفة. الزمخشري : وقرأ الزهري { جُدَدٌ } بالضم جمع جديدة ، هي الجدة ؛ يقال : جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب :
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه {جَدَد } بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ } وقرئ : { وَالدَّوَابِّ } مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : { وَلا الضَّألِّينَ } لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين ، فحرك ذلك أولهما ، وحذف هذا آخرهما ؛ قاله الزمخشري. { وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك ، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال : { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } فذكر الضمير مراعاة لـ {من} ؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش : إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة ؛ مجازه : ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه ، أي أبيض وأحمر وأسود. { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال أبو عبيدة : الغربيب الشديد السواد ؛ ففي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : ومن الجبال
(14/343)
سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب : أسود غربيب. قال الجوهري : وتقول هذا أسود غربيب ؛ أي شديد السواد. وإذا قلت : غرابيب سود ، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس :
العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما :
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى : { كَذَلِكَ } هنا تمام الكلام ؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته ؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية ، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال : الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود : كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم : من أفقه أهل المدينة ؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال : إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال : إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط
(14/344)
الناس من رحمة الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره ؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا علم لا فقه فيه ، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية – { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي : وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال : إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل ، ويتفقهون لغير العبادة ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون جلود الضأن ، قلوبهم أمر من الصبر ؛ فبي يغترون ، وإياي يخادعون ، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري : فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ } بالرفع { مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ } بالنصب ، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآية : [29] { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }
الآية : [30] { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }
(14/345)
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً } هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل ، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } قال أحمد بن يحيى : خبر { إِنَّ } { يَرْجُونَ } . { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قيل : الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إلى قوله { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وقوله في آخر النساء : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وهناك بيناه. { إِنَّهُ غَفُورٌ } للذنوب. { شَكُورٍ } يقبل القليل من العمل الخالص ، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
الآية : [31] { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }
قوله تعالى : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن. { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } .
الآية : [32] { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }
الآية : [33] { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
الآية : [34] { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
الآية : [35] { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }
(14/346)
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } مضافا حذف كما حذف المضاف في { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم ؛ فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : { وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } قال النحاس : وقوله ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ؛ فيكون : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر ؛ لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى.
قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية.
الثانية- قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } أي أعطينا. والميراث ، عطاء حقيقة أو مجازا ؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و { الْكِتَابَ } ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. { اصْطَفَيْنَا } أي اخترنا. واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء. { مِنْ عِبَادِنَا } قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عباره توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وورث سليمان يرثوه. وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } وقال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب. { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } من وقع في صغيرة. قال ابن عطية : وهذا
(14/347)
قول مردود من غير ما وجه. قال الضحاك : معنى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم. والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبدالله : السابق العالم ، والمقتصد المعلم ، والظالم الجاهل. وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب. وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب. وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء. وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة. وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر يروى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا. وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه. وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به. وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره. وقال بعض أهل المسجد في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط
(14/348)
في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم. وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه. وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينصف. وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ؛ وهم كلهم مغفور لهم.
قلت : ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ؛ ومنه قول جابر بن حُنَي التغلبي :
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات. { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } يعني إتياننا الكتاب لهم. وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير. وقيل : وعد الجنة لهؤلاء الثلاث فضل كبير.
الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا ؛ كقوله تعالى : لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل ؛ ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته. وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليدبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة
(14/349)
بحرمة كلمة الإخلاص : "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم النسبة ادع في الميراث. وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في {سورة الحج} على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله. وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ؛ كقوله تعالى : { لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } وقوله : { َيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } وقوله : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ }
قلت : ولقد أحسن من قال :
وغاية هذا الجود أنت وإنما ... يوافي إلى الغايات في آخر الأمر
قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } جمعهم في الدخول لأنه ميراث ، والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب ؛ فالعاصي والمطيع مقرّون بالرب. وقرئ : { جَنَّةُ عَدْنٍ } على الأفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم ؛ على ما تقدم. و { جَنَّاتُ عَدْنٍ } بالنصب على ، إضمار فعل يفسره الظاهر ؛ أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وهذا للجميع ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو عمرو {يُدخَلونها} بضم الياء وفتح الخاء. قال : لقوله { يُحَلَّوْنَ } . وقد مضى في {الحج } الكلام في قوله تعالى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } قال أبو ثابت : دخل رجل المسجد. فقال اللهم ارحم غربتي وأنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا فلأنا أسعد بذلك منك ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
(14/350)
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } -قال فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } وفي لفظ آخر وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ إلى قوله وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } . وقيل : هو الذي يؤخذ منه في مقامه ؛ يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم والحزن ، ومنه قوله تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } يعني في الدنيا. قال الثعلبي : وهذا التأويل أشبه بالظاهر ؛ لأنه قال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } ، ولقوله : { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } والكافر والمنافق لم يصطفوا.
قلت : وهذا هو الصحيح ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها وطيب وطعمها مر" . فأخبر أن المنافق يقرؤه ، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار ، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرؤونه في زماننا هذا. وقال مالك : قد يقر القرآن من لا خير فيه. والنصب : التعب. واللغوب : الإعياء
الآية : [36] { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ }
الآية : [37] { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
(14/351)
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم ، ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم. { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } مثل : { لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } { وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } مثل : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أي كافر بالله ورسوله. وقرأ الحسن { فَيَمُوتُون } بالنون ، ولا يكون للنفي حينئذ جواب ، ويكون { فَيَمُوتُون } عطفا على {يُقْضَى} تقديره لا يقضى عليهم ولا يموتون ؛ كقوله تعالى : { وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } قال الكسائي : { وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } بالنون في المصحف لأنه رأس آية { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } لأنه ليس رأس آية. للجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه. { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصراخ الصوت العالي ، والصارخ المستغيث ، والمصرخ المغيث. قال :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا } أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صَالِحاً} قال ابن عباس : أي نقل : لا إله إلا الله. { غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } أي من الشرك ، أي نؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية ، ونمتثل أمر الرسل. { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } هذا جواب دعائهم ؛ أي فيقال لهم ، فالقول مضمر. وترجم البخاري : "باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } يعني الشيب" حدثنا عبدالسلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة" . قال الخطابي : "أعذر إليه" أي بلغ به أقصى العذر ، ومنه قولهم : قد
(14/352)
أعذر من أنذر ؛ أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى : أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر ؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا ، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى ؛ ففيه إعذار بعد إعذار ، الأول بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والموتان في الأربعين والستين. قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } : إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته : "ولقد أبلغ في الإعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين " {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ }. وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول أيضا وجه ، وهو صحيح ؛ والحجة له قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } الآية. ففي الأربعين تناهي العقل ، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه ، والله أعلم. وقال مالك : أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس ، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة ، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى هذا المعنى في سورة {الأعراف} وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك" .
قوله تعالى : { وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } وقرئ { وَجَاءَكُمُ النَّذِرُ } واختلف فيه ؛ فقيل القرآن. وقيل الرسول ؛ قال زيد بن علي وابن زيد. وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري : هو الشيب. وقيل : النذير الحمى. وقيل : موت الأهل والأقارب. وقيل : كمال العقل. والنذير بمعنى الإنذار.
(14/353)
قلت : فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "الحمى رائد الموت" . قال الأزهري : معناه أن الحمى رسول الموت ، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشيب نذير أيضا ؛ لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب. قال :
رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر :
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير
وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان ، وحين وزمان. قال :
وأراك تحملهم ولست تردهم ... فكأنني بك قد حملت فلم ترد
وقال آخر :
الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ومفصل بين الحسنات والسيئات ؛ فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه ؛ فهو نذير. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم ؛ قال الله تعالى : { لِئَلاّض يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } { ُ فَذُوقُوا } يريد عذاب جهنم ؛ لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم. { َمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي مانع من عذاب الله.
(14/354)