المجلد الرابع عشر
تفسير سورة سبأ
...
سورة سبأ
مقدمة السورة
الآية : [46] { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } تمم الحجة على المشركين ؛ أي قل لهم يا محمد : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ } أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. { بِوَاحِدَةٍ } أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام ، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد : هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا : بطاعة الله. وقيل : بالقرآن ؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل : تقديره بخصلة واحدة ، { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } {أَنْ} في موضع خفض على البدل من { وَاحِدَة } ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود ، وهو كما يقال : قام فلان بأمر كذا ؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى : { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } { مَثْنَى وَفُرَادَى } أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل : منفردا برأيه ومشاورا لغيره ، وهذا قول مأثور. وقال القتبي : مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه ، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل ، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد ، قال الماوردي. وقيل : إنما قال : { مَثْنَى وَفُرَادَى } لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل ، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله ، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة ، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد ؛ والله أعلم. { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } . وقيل : ليس هو بوقف لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا ، أو رأيتم فيه جنة ، أو في أحواله من
(14/311)
فساد ، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر ، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب ، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم ، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة ؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورَهْطُكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه ؟ فقالوا : من هذا الذي يهتف! ؟ قالوا محمد ؛ فاجتمعوا إليه فقال : "يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي" ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا. قال : "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال فقال أبو لهب : تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قال فنزلت هذه السورة : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
الآية : [47] { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قوله تعالى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي جعل على تبليغ الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم ، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.
الآية : [48] { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة : بالحق بالوحي. وعنه : الحق القرآن. وقال ابن عباس : أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب.
(14/312)
وقرأ عيسى بن عمر { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } على أنه بدل ، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع ، لأن الموضع موضع رفع ، أو على البدل مما في يقذف. النحاس : وفي الرفع وجهان آخران : يكون خبرا بعد خبر ، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر {إن} ومثله { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } وقرئ : { الْغُيُوبِ } بالحركات الثلاث ، فالغيوب كالبيوت ، والغيوب كالصبور ، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.
الآية : [49] { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }
قوله تعالى : { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ } قال سعيد عن قتادة : يريد القرآن. النحاس : والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. { وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ } قال قتادة : الشيطان ؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا { وَمَا يُعِيدُ } فـ { وَمَا } نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء ؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء ، كقوله : { فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } أي لا ترى.
الآية : [50] { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له : قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي. وقراءه العامة {ضَللت} بفتح اللام. وقرأ يحيى بن وثاب وغيره : { قُلْ إِنْ ضَلِلت } بكسر اللام وفتح الضاد من {أضَلُّ} ، والضلال والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت "بفتح اللام" أضل
(14/313)
"بكسر الضاد" ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون {ضَلِلت} بالكسر {أضِل} ، أي إثم ضلالتي على نفسي. { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } من الحكمة والبيان { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم : قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة ، وضلال من ضل لا يبطل الحجة ، ولو ضللت لأضررت بنفسي ، لا أنه يبطل حجة الله ، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
الآية : [51] { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ }
قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ } ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى : لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم ، روي معناه عن ابن عباس. الحسن : هو فزعهم في القبور من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم ؛ وقاله قتادة. وقال ابن مغفل : إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد ابن جبير : هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون ، فهذا هو فزعهم. { فَلا فَوْتَ } فلا نجاة ؛ قاله ابن عباس. مجاهد : فلا مهرب. { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي من القبور. وقيل : من حيث كانوا ، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس : نزلت في ، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها ، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم ؛ فهو الأخذ من مكان قريب.
قلت : وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب : "فبينا هم
(14/314)
كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين ، جيشا إلى المشرق ؛ وجيشا إلى المدينة ، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد ، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم ، وذلك قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة ، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل : { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت ، وهذا على قول من يقول : هذا الفزع عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة ؛ يقال : فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار : "إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع". ومن قال : أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال : أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال : هو فزع يوم القيامة قال : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل : { أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } من جهنم فألقوا فيها.
الآية : [52] { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قوله تعالى : { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي القرآن. وقال مجاهد : بالله عز وجل. الحسن : بالبعث. قتادة : بالرسول صلى الله عليه وسلم { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قال
(14/315)
ابن عباس والضحاك : التناوش الرجعة ؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا ، وهيهات من ذلك! ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تؤوب إلي وليس ... إلى تناوشها سبيل
وقال السدي : هي التوبة ؛ أي طلبوها وقد بعدت ، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. وقيل : التناوش التناول ؛ قال ابن السكيت : يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته : ناشه ينوشه نوشا. وأنشد :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا ، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. قال : ومنه المناوشة في القتال ؛ وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش أي ذو بطش. والتناوش. التناول : والانتياش مثله. قال الراجز :
كانت تنوش العنق انتياشا
قوله تعالى : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يقول : أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } بالهمز. النحاس : وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة ؛ لأن { التَّنَاوُشُ } بالهمز البعد ، فكيف يكون : وأنى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر : والقراءة جائزة حسنة ، ولها وجهان في كلام العرب ، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية ، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } والأصل {وُقّتت} لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار : أدؤر. والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال : يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء ؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد ، يقال : نأشت الشيء أخذته
(14/316)
من بعد والنئيش : الشيء البطيء. قال الجوهري : التناؤش "بالهم" التأخر والتباعد. وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته ؛ فانتأش. ويقال : فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر :
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال آخر :
قعدت زمانا عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر
وقال الفراء : الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب ؛ مثل : ذمت الرجل وذأمته أي عبته. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال : { وَأَنَّى لَهُمُ } قال : الرد ، سألوه وليس بحين رد.
الآية : [53] { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قوله تعالى : { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ } أي بالله عز وجل وقيل : بمحمد { مِنْ قَبْلُ } يعني في الدنيا. { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه : هو يقذف ويرجم بالغيب. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب ، أي يرمون بالظن فيقولون : لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، رجما منهم بالظن ؛ قال قتادة. وقيل : { وَيَقْذِفُونَ } أي يرمون في القرآن فيقولون : سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل : في محمد ؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون. { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد. وقيل : أراد البعد عن القلب ، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرأ مجاهد { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } غير مسمى الفاعل ، أي يرمون به. وقيل : يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم.
(14/317)
الآية : [54] { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }
قوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } قيل : حيل بينهم وبين النجاة من العذاب. وقيل : حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك ؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل {حُوِل} فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ } الأشياع جمع شيع ، وشيع جمع شيعة. { مِنْ قَبْلُ } أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة. { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ } أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. قيل : في الدين والتوحيد ، والمعنى واحد. { مُرِيبٍ } أي يستراب به ، يقال : أراب الرجل أي صار ذا ريبة ، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال : يقال شك مريب ؛ كما يقال : عجب عجيب وشعر شاعر ؛ في التأكيد. ختمت السور ، والحمد لله رب العالمين.
(14/318)