المجلد الرابع عشر
تفسير سورة الأحزاب
بن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتزوج في أي الناس شاء وكان يشق ذلك على نسائه فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمي سر نساؤه بذلك قلت : والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحل الله تعالى له النساء قال : هذا حديث حسن صحيح الثالثة قوله تعالى : ) وما ملكت يمينك ( أحل الله تعالى السراري لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ولأمته مطلقا وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا وأحله للخلق بعدد وقوله : ) مما أفاء الله عليك ( أي رده عليك من الكفار والغنيمة قد تسمى فيئا أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة الرابعة قوله تعالى : ) وبنات عمك وبنات عماتك ( أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك على قول الجمهور لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك : وبنات عمك وبنات عماتك لأن ذلك داخل فيما تقدم قلت : وهذا لا يلزم وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا كما قال تعالى : غيهما فاكهة ونخل ورمان والله أعلم الخامسة قوله تعالى : ) اللاتي هاجرن معك ( فيه قولان : الأول لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب وبنات أولاد بنات عبد المطلب وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه ) الثاني لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة لقوله تعالى : ) والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم
(14/206)
من شيء حتى يهاجروا ( ومن لم يهاجر لم يكمل ومن لم يكمل لم يصلح للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كمل وشرف وعظم ( صلى الله عليه وسلم ) السادسة قوله تعالى : ) معك ( المعية هنا الأشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها فمن هاجر حل له كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن يقال : دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وأن لم يقترن فيه عملكما ولو قلت : خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا : الإشتراك في الفعل والاقتران فيه السابعة ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جمعا وكذلك قال : خالك وخالاتك والحكمة في ذلك : أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز وليس كذلك العمة والخالة وهذا عرف لغوي فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال وهذا دقيق فتأملوه قاله بن العربي الثامنة قوله تعالى : ) وامرأة مؤمنة ( عطف على أحللنا المعنى وأحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق وقد اختلف في هذا المعنى فروي عن بن عباس أنه قال : لم تكن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد وقال قوم : كانت عنده موهوبة قلت : والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقول : أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء فقلت : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وروى البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدل هذا على أنهن كن غير واحدة والله تعالى أعلم الزمخشري : وقيل الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية وأم شريك بنت جابر وخولة بنت حكيم
(14/207)
قلت : وفي بعض هذا اختلاف قال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث وقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر الأسدية وقال عروة بن الزبير : أم حكيم بنت الأوقص السلمية التاسعة وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها فقيل هي أم شريك الأنصارية اسمها غزية وقيل غزيلة وقيل ليلى بنت حكيم وقيل : هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت البعير وما عليه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : هي أم شريك العامرية وكانت عند أبي العكر الأزدي وقيل عند الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا وقيل : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزوجها ولم يثبت ذلك والله تعالى أعلم ذكره أبو عمر بن عبد البر وقال الشعبي وعروة : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين والله تعالى أعلم العاشرة قرأ جمهور الناس إن وهبت بكسر الألف وهذا يقتضي استئناف الأمر أي إن وقع فهو حلال له وقد روي عن بن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) امرأة موهوبة وقد دللنا على خلافه وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح : أن امرأة قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : جئت أهب لك نفسي فسكت حتى قام رجل فقال : زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا فنزلت الآية بالتحليل والتخيير فاختار تركها وزوجها من غيره ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا وقرأ الحسن البصري وأبي بن كعب والشعبي أن بفتح الألف وقرأ الأعمش وامرأة مؤمنة وهبت قال النحاس : وكسر إن أجمع للمعاني لأنه قيل أنهن نساء وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها لأن الفتح على البدل من امرأة أو بمعنى لأن
(14/208)
الحادية عشرة قوله تعالى : ) مؤمنة ( يدل على أن الكافرة لا تحل له قال إمام الحرمين : وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه قال بن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات وقصر هو ( صلى الله عليه وسلم ) لجلالته على المؤمنات وإذا كان لا يحل له 3 من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر الثانية عشرة قوله تعالى : ) إن وهبت نفسها ( دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة قد تقدمت في النساء وغيرها وقال الزجاج : معنى إن وهبت نفسها للنبي حلت وقرأ الحسن : أن وهبت بفتح الهمزة وأن في موضع نصب قال الزجاج : أي لأن وقال غيره : أن وهبت بدل اشتمال من امرأة الثالثة عشرة قوله تعالى : ) إن أراد النبي أن يستنكحها ( أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلت له وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك كما إذا وهبت لرجل شيئا فلا يجب عليه القبول بيد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة ووصمة على الواهب وأذية لقلبه فبين الله ذلك في حق رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعله قرآنا يتلى ليرفع عنه الحرج ويبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم الرابعة عشرة قوله تعالى : ) خالصة لك ( أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول ومهر المثل بعد الدخول
(14/209)
الخامسة عشرة أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز قال بن عطية : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه وقد تقدمت هذه المسألة في القصص مستوفاة والحمد لله السادسة عشرة خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزية على الأمة وهبت له ومرتبة خص بها ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم وحللت له أشياء لم تحلل لهم منها متفق عليه ومختلف فيه فأما ما فرض عليه فتسعة : الأول التهجد بالليل يقال : إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات لقوله تعالى : يا أيها المزمل قم الليل الآية والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك وسيأتي الثاني الضحا الثالث الأضحى الرابع الوتر وهو يدخل في قسم التهجد الخامس السواك السادس قضاء دين من مات معسرا السابع مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع الثامن تخيير النساء التاسع إذا عمل عملا أثبته زاد غيره : وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه ذكره صاحب البيان وأما ما حرم عليه فجملته عشرة : الأول تحريم الزكاة عليه وعلى آله الثاني صدقة التطوع عليه وفي آله تفصيل باختلاف الثالث خائنة الأعين وهو أن يظهر خلاف ما يضمر أو ينخدع عما يجب وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول
(14/210)
عند دخوله الرابع حرم الله عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه الخامس الأكل متكئا السادس أكل الأطعمة الكريهة الرائحة السابع التبدل بأزواجه وسيأتي الثامن نكاح امرأة تكره صحبته التاسع نكاح الحرة الكتابية العاشر نكاح الأمة وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره تنزيها له وتطهيرا فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وذكر النقاش أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما مات حتى كتب والأول هو المشهور وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس قال الله تعالى : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية وأما ما أحل له ( صلى الله عليه وسلم ) فجملته ستة عشر : الأول صفي المغنم الثاني الإستبداد بخمس الخمس أو الخمس الثالث الوصال الرابع الزيادة على أربع نسوة الخامس النكاح بلفظ الهبة السادس النكاح بغير ولي السابع النكاح بغير صداق الثامن نكاحه في حالة الإحرام التاسع سقوط القسم بين الأزواج عنه وسيأتي العاشر إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها وحل له نكاحها قال بن العربي : هكذا قال إمام الحرمين وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى الحادي عشر أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها الثاني عشر دخوله مكة بغير إحرام وفي حقنا فيه اختلاف الثالث عشر القتال بمكة الرابع عشر أنه لا يورث وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ولم يبق له إلا الثلث خالصا وبقي ملك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ما تقرر بيانه في آية المواريث وسورة مريم بيانه أيضا الخامس عشر بقاء زوجيته من بعد
(14/211)
الموت السادس عشر إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح وهذه الأقسام الثلاثة تقدم معظمها مفصلا في مواضعها وسيأتي إن شاء الله تعالى وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك لقوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه وأبيح له أن يحمي لنفسه وأكرمه الله بتحليل الغنائم وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد ونصر بالرعب فكان يخافه العدو من مسيرة شهر وبعث إلى كافة الخلق وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد انشق القمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخرج الماء من بين أصابعه ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت معجزة عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وقد سبح الحصى في يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحن الجذع إليه وهذا أبلغ وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة السابعة عشر قوله تعالى : ) أن يستنكحها ( أي ينكحها يقال : نكح واستنكح مثل عجب واستعجب وعجل واستعجل ويجوز أن يرد الإستنكاح بمعنى طلب النكاح أو طلب الوطء وخالصة نصب على الحال قاله الزجاج وقيل : حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر تقديره : أحللنا لك أزواجك وأحللنا لك امرأة مؤمنة خالصة بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي الثامنة عشرة قوله تعالى : ) من دون المؤمنين ( فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام
(14/212)
قوله تعالى : ) قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ( أي أوجبنا على المؤمنين وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي قال معناه أبي بن كعب وقتادة وغيرهما التاسعة عشرة قوله تعالى : ) لكيلا يكون عليك حرج ( أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكيلا يكون عليك حرج ف لكيلا متعلق بقوله : إنا أحللنا لك أزواجك أي لا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك في شيء ثم أنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى : ) وكان الله غفورا رحيما (
الأحزاب : ) 51 ( ترجي من تشاء . . . . .) الاحزاب 51 (
فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى قوله تعالى : ) ترجي من تشاء ( قرئ مهموزا وغير مهموز وهما لغتان يقال : أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته ) وتؤوي ( تضم يقال : آوى إليه ) ممدودة الألف ( ضم إليه وأوى ) مقصورة الألف ( انضم إليه الثانية واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وأصح ما قيل فيها التوسعة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ترك القسم فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل فلما أنزل الله عز وجل ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت قالت : قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك قال
(14/213)
بن العربي : هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه والمعنى المراد : هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مخيرا في أزواجه إن شاء أن يقسم قسم وإن شاء أن يترك القسم ترك فخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن جعل الأمر إليه فيه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه تطييبا لنفوسهن وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي وقيل : كان القسم واجبا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية قال أبو رزين : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له : اقسم لنا ماشئت فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية فكان يقسم لهن ما شاء وقيل : المراد الواهبات روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله : ترجي من تشاء منهن قالت : هذا في الواهبات أنفسهن قال الشعبي : هن الواهبات أنفسهن تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهن وترك منهن وقال الزهري : ما علمنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن وقال بن عباس وغيره : المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء وقيل غير هذا وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والإباحة وما اخترناه أصح والله أعلم الثالثة ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله : ترجي من تشاء الآية ناسخ لقوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا وكلامه يضعف من جهات وفي البقرة عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه الرابعة قوله تعالى : ) ومن ابتغيت ممن عزلت ( ابتغيت طلبت والإبتغاء الطلب وعزلت أزلت والعزلة الإزالة أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن
(14/214)
عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك وكذلك حكم الإرجاء فدل أحد الطرفين على الثاني الخامسة قوله تعالى : ) فلا جناح عليك ( أي لا ميل يقال : جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ السادسة قوله تعالى : ) ذلك أدنى أن تقر أعينهن ( قال قتادة وغيره : أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وقرئ : تقر أعينهن بضم التاء ونصب الأعين وتقر أعينهن على البناء للمفعول وكان عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن تطييبا لقلوبهن كما قدمناه ويقول : ) اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني قلبه لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة قالت عائشة : أول ما اشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيت ميمونة فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها يعني في بيت عائشة فأذن له الحديث خرجه الصحيح وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليتفقد
(14/215)
يقول : ) أين أنا اليوم أين أنا غدا ) استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها قالت : فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري ( صلى الله عليه وسلم ) السابعة على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة هذا قول عامة العلماء وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض فإذا صح استأنف القسم والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء قال عبد الملك : للحرة ليلتان وللأمة ليلة وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر ولا حظ لهن فيه الثامنة ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة واختلف في دخوله لحاجة وضرورة فالأكثرون على جوازه مالك وغيره وفي كتاب بن حبيب منعه وروى بن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء قال بن بكير : وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون فأسهم بينهما أيهما تدلى أول التاسعة قال مالك : ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فيهما وهو المعنى بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في قسمه ) اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها وفي كتاب أبي داود يعني القلب وإليه الإشارة بقوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم وقوله تعالى : والله يعلم ما في قلوبكم وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا تنبيها منه لنا على أنه يعلم
(14/216)
ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض وهو العالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى لكنه سمح في ذلك إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل وإلى ذلك يعود قوله : وكان الله غفورا رحيما وقد قيل في قوله : ذلك أدنى أن تقر أعينهن وهي : العاشرة أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) ويرضين بما آتيتهن كلهن ( توكيد للضمير أي ويرضين كلهن وأجاز أبو حاتم والزجاج ويرضين بما آتيتهن كلهن على التوكيد للمضمر الذي في آتيتهن والفراء لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن النحاس : والذي قاله حسن الحادية عشرة قوله تعالى : ) والله يعلم ما في قلوبكم ( خبر عام والإشارة إلى ما في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من محبة شخص دون شخص وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك فقال : ) عائشة ) فقلت : من الرجال قال : ) أبوها ) قلت : ثم من قال : ) عمر بن الخطاب ) فعد رجالا وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول البقرة وفي أول هذه السورة يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده : اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين فأتاه باللسان والقلب ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له : ألق أخبثها بضعتين فألقى اللسان والقلب فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
(14/217)