الجزء 13 من الطبعة
سورة الفرقان
الآية : [68] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}
الآية : [69] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان ، وقتلهم النفس بوأد البنات ؛ وغير ذلك من الظلم والاغتيال ، والغارات ، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا. وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني : لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص ، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف ، فقال : معناها لا يدعون الهوى إلها ، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها. ومعنى {إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا ؛ بل بالضرورة فيكون كالنكاح. قال شيخنا أبو العباس : وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق. وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة ، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم ، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها ؛ والله أعلم.
قلت : ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود قال قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" قال : ثم أي ؟ قال : "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم" قال : ثم أي ؟ قال : "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى تصديقها : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . والأثام في كلام العرب العقاب ، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية.
(13/74)
ومنه قول الشاعر :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة. وقال عبدالله بن عمرو وعكرمة ومجاهد : إن {أثاما} واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. قال الشاعر :
لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما
وقال السدي : جبل فيها. قال :
وكان مقامنا ندعو عليهم ... بأبطح ذي المجاز له أثام
وفي "صحيح مسلم" أيضا عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ؛ فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة ، فنزلت : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . ونزل : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر : 53] الآية. وقد قيل : إن هذه الآية ، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} نزلت في وحشي قاتل حمزة ؛ قاله سعيد بن جبير وابن عباس. وسيأتي في {الزمر} بيانه. قوله تعالى : {إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا} أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان ؛ على ما تقدم بيانه في{الْأَنْعَامِ}. {وَلا يَزْنُونَ} فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين. ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى ؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضَعَفْ. وَيَخْلُدْ} جزما. وقرأ ابن كثير : {يُضَعَفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} وقرأ طلحة بن سليمان : {نُضَعَفْ} بضم النون وكسر العين المشددة .{الْعَذَابِ} نصب {وَيَخْلُدْ} جزم ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة.
(13/75)
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} بالرفع فيهما على العطف والاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان : {وَيَخْلُدْ} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر. وروي عن أبي عمرو {وَيَخْلُدْ} بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو علي : وهي غلط من جهة الرواية. و {يُضَاعَفْ} بالجزم بدل من {يَلْقَ} الذي هو جزاء الشرط. قال سيبويه : مضاعفة العذاب لقي الأثام. قال الشاعر :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وقال آخر :
إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
وأما الرفع ففيه قولان : أحدهما أن تقطعه مما قبله. والآخر أن يكون محمولا على المعنى ؛ كأن قائلا قال : ما لقي الأثام ؟ فقيل له : يضاعف له العذاب. {مُهَاناً} معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا.
الآية : [70] {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
قوله تعالى : {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في {النساء} ومضى في {المائدة} القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين ، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية.
قوله تعالى : {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال النحاس : من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن ، وموضع عاص مطيع. وقال مجاهد والضحاك : أن يبدلهم
(13/76)
الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن. قال الحسن : قوم يقولون التبديل في الآخرة ، وليس كذلك ، إنما التبديل في الدنيا ؛ يبدلهم الله إيمانا من الشرك ، وإخلاصا من الشك ، وإحصانا من الفجور. وقال الزجاج : ليس بجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن السيئات تبدل بحسنات" . وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال أبو هريرة : ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته ، فيبدل الله السيئات حسنات. وفي الخبر : "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات" فقيل : ومن هم ؟ قال : "الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات" . رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل : التبديل عبارة عن الغفران ؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات.
قلت : فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : "اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا" فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وقال أبو طويل : يا رسول الله ، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا ، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة ؟ قال : "هل أسلمت" ؟ قال : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال : "نعم .
(13/77)
تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات" . قال : وغدراتي وفجراتي يا نبي الله ؟ قال : "نعم" . قال : الله أكبر! فما زال يكررها حتى توارى. ذكره الثعلبي. قال مبشر بن عبيد ، وكان عالما بالنحو والعربية : الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا. والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
الآية : 71 {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}
قوله تعالى : {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} لا يقال : من قام فإنه يقوم ؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب ؟ فقال ابن عباس : المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا ؛ أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم. وقال القفال : يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين ، ولهذا قال : {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم : 60] ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا. وقيل : أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله ، فليست تلك التوبة نافعة ؛ بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا ، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر. فـ {مَتَاباً} مصدر معناه التأكيد ، كقوله : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء : 164] أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا.
الآية : [72] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
فيه مسألتان
الأولي- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور وزخرف ، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة : لعب
(13/78)
كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد : الغناء ؛ وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج : الكذب ؛ وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي : المعنى لا يشهدون بالزور ، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي : أما القول بأنه الكذب فصحيح ، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع ، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة ، أو أمر يعود إلى الكفر ، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد.
قلت : من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم ، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال ، أو يثير كامنا من حب اللهو ؛ مثل قول بعضهم :
ذهبي اللون تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ... ليته وافي وافتضح
لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان ، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور ، وهي :
الثانية- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويحلق رأسه ، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم : ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل : إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة {الْحَجَّ} فتأمله هناك.
قوله تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} اللغو ، وهو كل سقط من قول أو فعل ؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه ، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد : إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه : إذا ذكر النكاح كنوا عنه. وقال الحسن : اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و {كِرَاماً} معناه معرضين منكرين لا يرضونه ، ولا يمالئون عليه ، ولا يجالسون أهله.
(13/79)
أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال تكرم فلان عما يشينه ، أي تنزه وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبدالله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لقد أصبح ابن أم عبد كريما" . وقيل : من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الآية : [73] {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}
فيه مسألتان :
الأولي- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع. {لَمْ يَخِرُّوا} وليس ثم خرور ؛ كما يقال : قعد يبكي لسان وإن كان غير قاعد ؛ قاله الطبري واختاره ؛ قال ابن عطية : وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم ؛ وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام ، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. قال ابن عطية : فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر ، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا ، وهو السقوط على غير نظام وترتيب ؛ وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب. وقيل : أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا ، ولم يخروا عليها صما وعميانا. وقال الفراء : أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا.
الثانية- قال بعضهم : إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه ؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه. قال ابن العربي : وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده ، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة ؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس ليسمعه فليسجد معه ، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه. وقد مضى هذا في {الأَعْرَافِ}.
(13/80)
الآية : [74] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}
الآية : [75] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}
الآية : [76] {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
الآية : [77] {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال الضحاك : أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء بالولد. والذرية تكون واحدا وجمعا. فكونها للواحد قوله : {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم : 5] وكونها للجمع {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} [النساء : 9] وقد مضى في {البقرة} اشتقاقها مستوفى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن : {وَذُرِّيَّاتِنَا} وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى : {وَذُرِّيَّاتِنَا} بالإفراد. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} نصب على المفعول ، أي قرة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس : "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . {وَآلَ عِمْرَانَ}و {مَرْيَمَ} وذلك أن الإنسان إذا بورك له في مال وولده قرت عينه بأهله وعياله ، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة ، معاونون له على وظائف الدين والدنيا ، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده ، فتسكن عينه عن الملاحظة ، ولا تمتد عينه إلى ما ترى ؛ فذلك حين قرة العين ، وسكون النفس. ووحد {قُرَّةَ} لأنه مصدر ؛ تقول : قرت عينك قرة. وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار ، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر. والقر البرد ؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضا فإن دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، فمن هذا يقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله عين العدو. وقال الشاعر :
فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
(13/81)
قوله تعالى : {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي قدوة يقتدى بنا في الخير ، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة ؛ وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ : "إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم" فكان ابن عمر يقول في دعائه : اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال : {إِمَاماً} ولم يقل أئمة على الجمع ؛ لأن الإمام مصدر. يقال : أم القوم فلان إماما ؛ مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم : أراد أئمة ، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء ، يعني أمراءنا. وقال الشاعر :
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير
أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول : الإمامة بالدعاء لا بالدعوى ، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي : لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى ، كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة : 24] وقال مكحول : اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل : هذا من المقلوب ؛ مجازه : واجعل المتقين لنا إماما ؛ وقال مجاهد. والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول ، ويكون فيه دليل. على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام واحد يدل على جمع ؛ لأنه مصدر كالقيام. قال الأخفش : الإمام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال ، نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام.
قوله تعالى : {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} {أُولَئِكَ} خبر {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} في قول الزجاج على ما تقدم ، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي ؛ وهي إحدى عشرة : التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف والإقتار ، والنزاهة عن الشرك ، والزنى والقتل ، والتوبة وتجنب الكذب ، والعفو عن المسيء ، وقبول المواعظ ، والابتهال إلى الله. و {الْغُرْفَةَ} الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. حكاه ابن شجره. وقال الضحاك : الغرفة الجنة. {بِمَا صَبَرُوا} أي بصبرهم على أمر ربهم : وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال محمد بن علي بن الحسين : {بِمَا صَبَرُوا} على الفقر والفاقة في الدنيا. وقال الضحاك : {بِمَا صَبَرُوا } عن الشهوات. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى
(13/82)
وحمزة والكسائي وخلف : {وَيُلَقَّوْنَ} مخففة ، واختاره الفراء ؛ قال لأن العرب تقول : فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء ، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة. وقرأ الباقون : {وَيُلَقَّوْنَ} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لقوله تعالى : {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان : 11]. قال أبو جعفر النحاس : وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط ؛ لأنه يزعم أنها لو كانت {وَيُلَقَّوْنَ} كانت في العربية بتحية وسلام ، وقال كما يقال : فلان يتلقى بالسلام وبالخير ؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية {وَيُلَقَّوْنَ} والفرق بينهما بين : لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء ، فكيف يشبه هذا ذاك! وأعجب من هذا أن في القرآن {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} ولا يجوز أن يقرأ بغيره. وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال. والتحية من الله والسلام من الملائكة. وقيل : التحية البقاء الدائم والملك العظيم ؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد ، وأنهما من قبل الله تعالى ؛ دليله قوله تعالى : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب : 44] وسيأتي. {خَالِدِينَ} نصب على الحال {فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
قوله تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة. يقال : ما عبأت بفلان أي ما باليت به ؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل. وقول الشاعر :
كأن بصدره وبجانبيه ... عبيرا بات يعبؤه عروس
أي يجعل بعضه على بعض. فالعبء الحمل الثقيل ، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما استفهامية ؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج ، وصرح به الفراء. وليس يبعد أن تكون نافية ؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام ؛ كما قال تعالى : {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} [الرحمن : 60] قال ابن الشجري : وحقيقة القول عندي أن موضع {ما} نصب ؛ والتقدير : أي عبء يعبأ بكم ؛ أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم ؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه ، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله ؛ وهو اختيار
(13/83)
الفراء. وفاعله محذوف وجوابه لولا محذوف كما حذف في قوله : {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد : 31] تقديره : لم يعبأ بكم. ودليل هذا القول قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56] فالخطاب لجميع الناس ؛ فكأنه قال لقريش منهم : أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت ؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره. {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس ، ثم يقول لقريش : فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما. وقال النقاش وغيره : المعنى ؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك. بيانه : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت : 65] ونحو هذا. وقيل : {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} معه الآلهة والشركاء. بيانه : {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء : 147]. قال الضحاك. وقال الوليد بن أبي الوليد : بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم. وروى وهب بن منبه أنه كان في التوراة : "يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء". قال ابن جني : قرأ ابن الزبير وابن عباس {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} . قال الزهراوي والنحاس : وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير ؛ للتاء والميم في {كَذَّبْتُمْ} . وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه ؛ وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره في هذا الوجه : لم يعذبكم. ونظير قوله : لولا دعاؤكم آلهة قوله : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194]. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي كذبتم بما دعيتم إليه ؛ هذا على القول الأول ؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني. {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون تكذيبكم ملازما لكم. والمعنى : فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال : {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف : 49] أي جزاء ما عملوا وقوله : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام : 30] أي جزاء ما كنتم تكفرون. وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله ؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره ، كما قال : {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران : 110] أي لكان الإيمان. وقوله : {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر : 7] أي يرضى الشكر. ومثله كثير. وجمهور المفسرين
(13/84)
على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر ، وهو قول عبدالله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم. وفي صحيح مسلم عن عبدالله : وقد مضت البطشة والدخان واللزام. وسيأتي مبينا في سورة {الدخان} إن شاء الله تعالى. وقالت فرقة : هو توعد بعذاب الآخرة. وعن ابن مسعود أيضا : اللزام التكذيب نفسه ؛ أي لا يعطون التوبة منه ؛ ذكره الزهراوي ؛ فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه. وقال أبو عبيدة : لزاما فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. والجمهور من القراء على كسر اللام ؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر :
فإما ينجوا من خسف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما
ولزاما وملازمة واحد. وقال الطبري : {لِزَاماً} يعني عذابا دائما لازما ، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض ؛ كقول أبي ذؤيب :
ففاجأه بعادية لزام ... كما يتفجر الحوض اللقيف
يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا ، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم. النحاس : وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ : {لَزاما} بفتح اللام. قال أبو جعفر : يكون مصدر لزم والكسر أولى ، يكون مثل قتال ومقاتلة ، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [طه : 129]. قال غيره : اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما ، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة ؛ فاللزام بالفتح اللزوم ، واللزام الملازمة ، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل. فاللزام وقع موقع ملازم ، واللزام وقع موقع لازم. كما قال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك : 30] أي غائرا. قال النحاس : وللفراء قول في اسم يكون ؛ قال : يكون مجهولا وهذا غلط ؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة ، كما قال تعالى : {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف : 90] وكما حكى النحويون كان زيد منطلق يكون في كان مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول ، التقدير : كان الحديث ؛ فأما أن يقال كان منطلقا ، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه. وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين.
(13/85)