الجزء 12 من الطبعة
تفسير سورة الحج
الآيتان : 32 - 33 {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {ذَلِكَ} فيه ثلاثة أوجه. قيل : يكون في موضع رفع بالابتداء ، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي اتبعوا ذلك.
الثانية : قوله تعالى : {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة ، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ؛ ومنه شعار القوم في الحرب ؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة ، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم : المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها ؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة لطيفة ، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه ، فلا يدل على الإخلاص ، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع ، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.
الثالثة : الضمير في {إِنَّهَا} عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام ، ولو قال فإنه لجاز. وقيل إنها راجعة إلى الشعائر ؛ أي فإن تعظيم الشعائر ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه ، فرجعت الكناية إلى الشعائر. {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قرئ {الْقُلُوبِ} بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو {تَقْوَى} وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث : "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره.
الرابعة : قوله تعالى : {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك ، إذا لم يبعثها ربها هديا ، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى ؛ قال ابن عباس.
(12/56)
فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة ، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى رجلا يسوق بدنة فقال : "اركبها" فقال : إنها بدنة. فقال : "اركبها" قال : إنها بدنة. قال : "اركبها ويلك" في الثانية أو الثالثة". وروي عن جابر بن عبد الله وسئل عن ركوب الهدي فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا". والأجل المسمى على هذا القول نحرها ؛ قاله عطاء بن أبي رباح.
السادسة : ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام : "اركبها". وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك : لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل ؛ قال إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك ، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول ، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله : "إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما ؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد ، فقال : "اركبها". وقال أبو حنيفة والشافعي : إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.
قوله تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يريد أنها تنتهي إلى البيت ، وهو الطواف. فقول : {مَحِلُّهَا} مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه ؛ قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء : ينتهي إلى مكة. وقال الشافعي : إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن ، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم
(12/57)
الآية : 34 {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}
قوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة ، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد ؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم ؛ قاله مجاهد. يقال : نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة نسيكة ، وجمعها نسك ؛ ومنه قوله تعالى : {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة : 196]. والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً } : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع ، أراد مكان نسك. ويقال : منسك ومنسك ، لغتان ، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين ، الباقون بفتحها. وقال الفراء : المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي. وقال ابن عرفة في قوله {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} : أي مذهبا من طاعة الله تعالى ؛ يقال : نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل : منسكا عيدا ؛ قاله الفراء. وقيل حجا ؛ قاله قتادة. والقول الأول أظهر ؛ لقوله تعالى : {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له ؛ لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه : فالإله واحد لجميعكم ، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.
قوله تعالى : {فَلَهُ أَسْلِمُوا} معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام ؛ أي له أطيعوا وانقادوا. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المخبت : المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض ؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو بن أوس : المخبتون الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح : المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل
(12/58)
الآية : 35 {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره ، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم ، وكأنهم بين يديه ، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروي أن هذه الآية قوله : {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. وقرأ الجمهور {الصلاةِ} بالخفض على الإضافة ، وقرأ أبو عمرو {الصلاة} بالنصب على توهم النون ، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه :
الحافظو عورة العشيرة...
الثانية : هذه الآية نظير قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال : 2] ، وقوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر : 23]. هذه حالة العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير ، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع : إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله ؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ؛ قال الله تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
(12/59)
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة : 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ؛ فمن كان مستنا فليستن ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا ؛ والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال : "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا" فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين [يدي] أمر قد حضر. قال أنس : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة "الأنفال" والحمد لله.
الآية : 36 {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه عشر مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَالْبُدْنَ} وقرأ ابن أبي إسحاق {والبُدُن} لغتان ، واحدتها بَدَنَة. كما يقال : ثمرة وثُمُر وثُمْر ، وخشبة وخشُب وخشْب. وفي التنزيل {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} وقرئ {ثُمْر} لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن ، والبدانة السمن. وقيل : إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل : البدن جمع {بَدَن} بفتح الباء والدال. ويقال : بَدُن الرجل "بضم الدال" إذا سمن. وبدّن "بتشديدها" إذا كبر وأسنّ. وفي الحديث "إني قد بدّنت" أي كبرت وأسننت. وروي {بَدُنْت} وليس له معنى ؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم ، ومعناه كثرة اللحم. يقال : بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن ؛ أي ضخم.
(12/60)
الثانية : اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا ؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي : لا. وقال مالك وأبو حنيفة : نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة ؛ فهل تجزيه أم لا ؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء ؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة : "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة" الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة ؛ والله أعلم. وأيضا قوله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك ؛ فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم ؛ على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة ، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل ؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك ، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة ، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدي عام في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة : قوله تعالى : {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} نص في أنها بعض الشعائر. وقوله : "لكم فيها خير" يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي انحروها على اسم الله. و {صَوَافَّ} أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل ؛ يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة ؛ والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري {صَوَافِيَ} أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا {صوافٍ} بكسر الفاء وتنوينها مخففة ، وهي بمعنى التي قبلها ، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس
(12/61)
و {صوافّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها ؛ من صف يصف. وواحد صواف صافة ، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي {صوافِن} بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا ؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها ؛ وهي فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، وخالف وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى : {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص : 31]. وقال عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
ويروي :
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر :
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي : الصافن عرق في مقدم الرجل ، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله. وقال الأعشى :
وكل كميت كجذع السحو ... ق يرنو القناء إذا ما صفن
الخامسة : قال ابن وهب : أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال : تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكافة العلماء على استحباب ذلك ؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور ؛ لقوله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه سقطت بعد نحرها ؛ ومنه وجبت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال : ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر ، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها
(12/62)
السادسة : قال مالك : فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة ؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها ، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه ، ويمسك معه الحربة رجل آخر ، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.
السابعة : ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى ، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم ؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج ، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما ، إن شاء الله تعالى.
الثامنة : قوله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يقال : وجبت الشمس إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم :
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
وقال أوس بن حجر :
ألم تكسف الشمس والبدر والـ ... واكب للجبل الواجب
فقوله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر :
فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم
(12/63)
وقال عنترة :
وضربت قرني كبشها فتجدلا
أي سقط مقتولا إلى الجدالة ، وهي الأرض ؛ ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها ، وهو وقت الأكل ، أي وقت قرب الأكل ؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب ؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة : قوله تعالى : {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال ؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح : الأكل والإطعام مستحبان ، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي : الأكل مستحب والإطعام واجب ، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه ، وهذا فيما كان تطوعا ؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه. {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال مجاهد وإبراهيم والطبري : قوله : {وَأَطْعِمُوا} أمر إباحة. و {الْقَانِعَ} السائل. يقال : قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل ، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل ، يقنع قناعة فهو قنع ، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل ؛ مثل حمد يحمد ، قناعة وقنعا وقنعانا ؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ {وأطعِموا القَنِع} ومعنى هذا مخالف للأول.
(12/64)
يقال : قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك ، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن : المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير :
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع الفقير ، والعتر الزائر. وروي عن الحسن أنه قرأ {والمعترِيَ} ومعناه كمعنى المعتر. يقال : اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه ؛ ذكره النحاس.
الآية : 37 {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} قال ابن عباس : "كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك" فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى ، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول ، المعنى : لن يصل إليه. وقال ابن عباس : لن يصعد إليه. ابن عيسى : لن يقبل لحومها ولا دماءها ، ولكن يصل إليه التقوى منكم ؛ أي ما أريد به وجهه ، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ؛ ومنه الحديث "إنما الأعمال بالنيات" . والقراءة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} و {يَنَالُهُ} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما ، نظرا إلى اللحوم.
الثانية : قوله تعالى : {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء ، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير ، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير ، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.
(12/65)
الثالثة : {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول : باسم الله والله أكبر ؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال : ورأيته يذبحها بيده ، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما ، وسمى وكبر.
وقد اختلف العلماء في هذا ؛ فقال أبو ثور : التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة ؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال : الله أكبر فقط ، أولا إله إلا الله ؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل ؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة : ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي : اللهم تقبل مني ؛ جائز. وكره ذلك أبو حنيفة ؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، وفيه : ثم قال "باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة : 127]. وكره مالك قولهم : اللهم منك وإليك ، وقال : هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن ، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين ، فلما وجههما قال : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً - وقرأ إلى قوله : وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر" ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر ، أو لم يصح عنده ، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله : إنه بدعة. والله أعلم.
(12/66)
الخامسة : قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة ؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.
الآية : 38 {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال ؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله : {كَفُورٍ}. فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في {الأنفال} التشديد في الغدر ؛ وأنه "ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان". وقيل : المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم ؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل : يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر ، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دِفَاعُ}. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يُدَفِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ}. ويدافع بمعنى يدفع ؛ مثل عاقبت اللص ، وعافاه الله ؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن {دِفَاعاً} مصدر دفع ؛ كحسب حسابا.
الآية : 39 {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل : هذا بيان قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم ؛ وفيه إضمار ، أي
(12/67)
أذن للذين يصلحون للقتال في القتال ؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك : استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة ؛ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال : "لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن ؛ فأنزل الله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون قتال". فقال : هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا ، ليس فيه : عن ابن عباس.
الثانية : في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع ، خلافا للمعتزلة ؛ لأن قوله : {أُذِنَ} معناه أبيح ؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغير موضع. وقرئ {أَذِنَ} بفتح الهمزة ؛ أي أذن الله. {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء ؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال : {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم.