منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن 103798

منتديات ابناء الدويم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ابناء الدويم

واحة ابناء الدويم
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب الجامع لأحكام القرآن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فوزي عبد القادر موسى عبد
دويمابي برتبة لواء
فوزي عبد القادر موسى عبد


عدد الرسائل : 2478

كتاب الجامع لأحكام القرآن Empty
مُساهمةموضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن   كتاب الجامع لأحكام القرآن I_icon_minitimeالإثنين 31 أكتوبر - 22:05

تفسير سورة مريم عليها السلام



قوله تعالى : {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} فيه أربع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {يَرِثُنِي} قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة {يرثني ويرث} بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما ، وليس هما جواب "هب" على مذهب سيبويه ، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث ؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا ؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته ؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث ؛ فقال : هب لي الذي يكون وارثي ؛ قاله أبو عبيد ؛ ورد قراءة الجزم ؛ قال : لأن معناه إن وهبت ورث ، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه ؟ ! النحاس : وهذه حجة متقصاة ؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة ؛ تقول : أطع الله يدخلك الجنة ؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة.
الثانية ـ قال النحاس : فأما معنى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة ؛ قيل : هي وراثة نبوة. وقيل : وراثه حكمة. وقيل : هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال ؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل : الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن ؛ وفي الحديث "العلماء ورثة الأنبياء". وأما وراثة المال فلا يمتنع ، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا نورث ما تركنا صدقة" فهذا لا حجة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى : لا نورث الذي تركناه صدقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه ؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} لأن معنى "لله" ومن سبيل الله ، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا ؛ فإن قيل : ففي بعض الروايات "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" ففيه التأويلان جميعا ؛ أن يكون "ما" بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر : واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : "لا نورث ما تركنا صدقة" على قولين : أحدهما : وهو
(11/81)



الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر : أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث ؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته ، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره ؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.
الثالثة ـ قوله تعالى : {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قيل : هو يعقوب بن إسرائيل ، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ، ويرجع نسبها إلى يعقوب ؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب ، وزكريا من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب ، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل : المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام ؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان ، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل ؛ قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي : وكان آل يعقوب أخواله ، وهو يعقوب بن ماثان ، وكان فيهم الملك ، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته" . ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.
الرابعة ـ قوله تعالى : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل : راضيا بقضائك وقدرك. وقيل : رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح : نبيا كما جعلت أباه نبيا.
قوله تعالى : {يَا زَكَرِيَّا} في الكلام حذف ؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال : {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء : أحدها : إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني : إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث : أن يفرد بتسميته ؛ وقد تقدم معنى تسميته في "آل عمران". وقال مقاتل : سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز ؛ وهذا فيه نظر ؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.
(11/82)



قوله تعالى : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } أي لم نسم أحدا قبل يحي بهذا الاسم ، قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي . ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين . وقال مجاهد وغيره : { سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ، وهو مثل قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ]وهذا[ كأنه من المساماة والسمو ، وهذا فيه بعد ، لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى ، اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر مثله ولدا . وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل ، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل :
سنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤية للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه : أنا ابن العجاج ، فقال قصرت وعرفت.
قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ } ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به ، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل غير هذا مما تقدم في "آل عمران" بيانه . { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف ، ومثله العسي . قال الأصمعي : عَسَا الشيءُ يَعْسُوعُسُوّا وعَسَاء ممدود أي َيبِس وصَلُبَ ، وقد عسا الشيخُ يَعْسُو وَلَّى وكَبِر مثل عَتَا ، يقال : عَتَا الشيخ يَعتو عُتيا وعِتيّاّ كبر وولّى. وعتوت يافلان تعتو عُتواً وعِتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو ، فأبدلوا من الواو ياء ، لأنها أختها وهي أخف منها ، والآيات على الياءات ، ومن قال "عِتِيّاً" كره الضمة مع الكسرة والياء ، وقال الشاعر :
إنما يعذر الوليد ولا يعـ ... ــذر من كان في الزمان عتيا
(11/83)



وقرأ ابن عباس {عسيا} وهو كذلك مصحف أبي. وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص {عتيا} بكسر العين وكذلك {جثيا} و {صليا} حيث كن. وضم حفص {بكيا} خاصة ، وكذلك الباقون في الجميع ، وهما لغتان. وقيل : {عتيا} قسيا ؛ يقال : ملك عات إذا كان قاسي القلب.
قوله تعالى : {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال له الملك {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} والكاف في موضع رفع ؛ أي الأمر كذلك ؛ أي كما قيل لك : {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. قال الفراء : خلقه علي هين. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين {وقد خلقناك} بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الأولى أشبه بالسواد. {لَمْ تَكُ شَيْئاً} أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا ، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.
قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه ، وبعد {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} زيادة طمأنينة ؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل : طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان ؛ لأن إبليس أوهمه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي ؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في "آل عمران". {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} تقدم في "آل عمران".بيانه فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فيه خمس مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع ، أشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ؛ دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه ؛ فقالت فرقة :
(11/84)



هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب "بفتح الراء" كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.
الثانية ـ هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت : وهذا فيه نظر ؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك! قال : بلى قد ذكرت حين مددتني وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقميت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه ، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته ، قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم" أو نحو ذلك ؛ فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة ، وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ؛ والله أعلم.
الثالثة ـ قوله تعالى : {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال الكلبي وقتادة وابن منبه : أوحى إليهم أشار. القتبي : أومأ. مجاهد : كتب على الأرض. عكرمة : كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة ؛ ومنه قول ذي الرمة :
(11/85)



سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ... بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطمي
و {بكرة وعشيا} ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت ؛ قال : وقد يكون العشي جمع عشية.
الرابعة ـ قد تقدم الحكم في الإشارة في "آل عمران" واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا ، أو أرسل إليه رسولا ؛ فقال مالك : إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته ، ثم رجع فقال : لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم : إذا قرأ كتابه حنث ، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب : لا يحنث إذا قرأه الحالف ؛ وهذا بين ؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته ؛ وقال ابن الماجشون : وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر ، ولو علماه جميعا لم يبر ، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف.
الخامسة ـ واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ؛ قال الكوفيون : إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء. قال الطحاوي : الخرس مخالف للصمت العارض ، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع ، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة.
قوله تعالى : {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} في الكلام حذف ؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود : {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} وهذا اختصار يدل الكلام عليه و"الكتاب" التوراة بلا خلاف. "بقوة" أي بجد واجتهاد ؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به ، والحفظ له والعمل به ، وهو الالتزام لأوامره ، والكف عن نواهيه ؛ قاله زيد بن أسلم ؛ وقد تقدم
(11/86)



في "البقرة". {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} قيل : الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ؛ فقال : ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وقال قتادة : كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل : كان ابن ثلاث سنين. و"صبيا" نصب على الحال. وقال ابن عباس : من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا". وقال قتادة : إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة. وقال مجاهد : وكان طعام يحيى عليه السلام العشب ، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله : {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} في "آل عمران"
قوله تعالى : {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} "حنانا" عطف على "الحكم". وروي عن ابن عباس أنه قال : والله ما أدري ما "الحنان". وقال جمهور المفسرين : الحنان الشفقة والرحمة والمحبة ؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس : وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان : أحدهما : قال : تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال : حنانك وحنانيك ؛ قيل : هما لغتان بمعنى واحد. وقيل : حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة : والعرب تقول : حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد ؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس :
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال الزمخشري : "حنانا" رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة ؛ وأنشد سيبويه :
فقالت حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
(11/87)



قال بن الأعرابي : الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف : العطف والرحمة. والحنان : الرزق والبكرة. ابن عطية : والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى ؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال : والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا ؛ وذكر هذا الخبر الهروي ؛ فقال : وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا ؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري : معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.
قلت : فالحنان العطف ، وكذا قال مجاهد. و"حنانا" أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق ؛ قال الحطيئة :
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
عكرمة : محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما ؛ قال الشاعر :
فقالت حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قوله تعالى : {وَزَكَاةً} "الزكاة" التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر ؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل : المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل : "زكاة" صدقة به على أبويه ؛ قاله ابن قتيبة. {وَكَانَ تَقِيّاً} أي مطيعا لله تعالى ، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.
قوله تعالى : {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} البر بمعنى البار وهو الكثير البر. و {جَبَّاراً} متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.
قوله تعالى : {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} قال الطبري وغيره : معناه أمان. ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان ؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه ، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.
(11/88)



قلت : وهذا قول حسن ، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة "سبحان" عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى : ادع الله لي فأنت خير مني ؛ فقال له عيسى : بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني ؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي ؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى ؛ بأن قال : إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية : ولكل وجه.
[16] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}
[17] {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}
[18] {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}
[19] {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}
[20] {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}
[21] {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}
[22] {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}
[23] {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}
[24] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}
[25] {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}
[26] {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}
(11/89)



قوله تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. {إِذِ انْتَبَذَتْ} أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي ؛ قال الله تعالى : {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}.{مِنْ أَهْلِهَا} أي ممن كان معها. و"إذ" بدل من "مريم" بدل اشتمال ؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت ؛ فقال السدي : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره : لتعبد الله ؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه ، من الناس لذلك ، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة ، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله : {مَكَاناً شَرْقِيّاً} أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار ، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها ؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال : إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل : {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة ؛ وقالوا : لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم ؛ فقيل : كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل : لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في "آل عمران" والحمد لله.
قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} قيل : هو روح عيسى عليه السلام ؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد ، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل : هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه
(11/90)



السلام ؛ لقوله : {فَتَمَثَّلَ لَهَا} أي تمثل الملك لها. "بشرا" تفسير أو حال. "سويا" أي مستوي الخلقة ؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء. فـ {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} أي ممن يتقي الله. البكالي : فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل : تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل : علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت : {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}. وقيل : تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه ؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام : {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع {ليهب لك} على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل : معنى "لأهب" بالهمز محمول على المعنى ؛ أي قال : أرسلته لأهب لك. ويحتمل "ليهب" بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي بنكاح. {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا ؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل : ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد ؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها ؛ قال ابن جريج. ابن عباس : أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري : وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين ، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. وقوله : "ولنجعله" متعلق بمحذوف ؛ أي ونخلقه لنجعله : "آية" دلالة على قدرتنا عجيبة {وَرَحْمَةً مِنَّا} لمن أمن به. {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} مقدرا في اللوح مسطورا.
(11/91)



قوله تعالى : {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد ؛ قال ابن عباس : إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال ؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس : ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل. وقيل : غير ذلك على ما يأتي :
قوله تعالى : {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} "أجاءها" اضطرها ؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ، كما يقال : ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم "فاجأها" من المفاجأة. وفي مصحف أبي {فلما أجاءها المخاض}. وقال زهير :
وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور {الْمَخَاضُ} بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين : أحدهما : أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا ، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة "يوسف" عليه السلام والحمد لله.
قلت : وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول : اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك ، و {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه.
(11/92)



وحكى عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا : احفظوا أنساءكم ، الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى . ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه :
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ... ولست بنسي في معد ولا دخل
وقال الفراء : النسي ما تلقيه من خرق اعتلالها ، فقول مريم { نَسْياً مَنْسِيّاً } أي حيضة ملقاة . وقرىء : "نسيا" بفتح النون وهما لغتان مثل الحِجرْ والحَجر والوِتْر والوَتْر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز : "نِسئاً" بكسر النون . وقرأ نوف البكالي : "نسئاً" بفتح النون من نسأ الله في أجله أي أخره . وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب . وقرأ بكر بن حبيب : "نَسّاً" بتشديد السين وفتح النون دون همز . وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحي ، فجاءتها أختها زائرة فقالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ، وذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } . وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار ، كان يخدم معها في المسجد . وطول في ذلك . قال الكلبي : قيل ليوسف- وكانت سميت له أنها حملت من الزنى- فالآن يقتلها الملك ، فهرب بها ، فهم في الطريق بقتلها ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : إنه روح القدس ، قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف . وهذه القصة تقتضي أنها حملت ، واستمرت حاملا على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر . قال عكرمة ، وذلك قيل : لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى . وقيل : لستة . وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر . والله أعلم .
قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قرىء بفتح الميم وكسرها . قال ابن عباس : المراد بـ "ـــمن" جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وقاله علقمة والضحاك وقتادة ، ففي هذا آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي الله ]تعالى[ فيها مراد عظيم . وقوله :
(11/93)



{أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير النداء ، "وأن" مفسرة بمعنى أي ، المعنى : فلا تحزني بولادتك. {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن : كان والله سريا من الرجال. ويقال : سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور : أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس : كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه ؛ قال الشاعر :
سلم ترى الدالي منه أزورا ... إذا يعب في السري هرهرا
وقال لبيد :
فتوسطا عرض السري وصدعا ... مسجورة متجاورا قلامها
وقيل : ناداها عيسى ، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها ؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس {فناداها ملك من تحتها} قالوا : وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.
قوله تعالى : {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} فيه أربع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {وَهُزِّي} أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله : {بِجِذْعِ} زائدة مؤكدة كما يقال : خذ بالزمام ، وأعط بيدك قال الله تعالى : {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أي فليمدد سببا. وقيل : المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. {وتُسَاقِطْ} أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة {تساقط} مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص {تساقط} بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ {تتساقط} بإظهار التاءين و {يساقط} بالياء وإدغام التاء {وتسقط}
(11/94)



و {يسقط} و {تسقط} و {يسقط} بالتاء للنخلة وبالياء للجذع ؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. {رُطَباً} نصب بالهز ؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه "رطبا جنيا" وعلى الجملة فـ "رطبا" يختلف نصبه بحسب معاني القراءات ؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع ، ومرة إلى الهز ، ومرة إلى النخلة. "وجنيا" معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ "تساقط عليك رطبا جنيا برنيا". وقال مجاهد : {رُطَباً جَنِيّاً} قال : كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله : {رُطَباً جَنِيّاً} فقال : لم يذو. قال وتفسيره : لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه ؛ وهذا هو الصحيح. قال الفراء : الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء : الجني المقطوع من نخلة واحدة ، والمأخوذ من مكان نشأته ؛ وأنشدوا :
وطيب ثمار في رياض أريضة ... وأغصان أشجار جناها على قرب
يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس : كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع ، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف ، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ، ثم رطبا ؛ كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.
الثانية ـ استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما ؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية ، وكانت الآية تكون بألا تهز.
الثالثة ـ الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل ، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة ؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأيتها ، رزقها من غير تكسب كما قال : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
(11/95)



وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} الآية فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا : لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، وكلها إلى كسبها ، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها : لا تحزني ؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس ؟ ! ! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام.
قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا : التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل ؛ ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى : {رُطَباً جَنِيّاً} الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب ؛ فهذا مكروه ؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه ؛ ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الأنعام. والحمد لله. عن طلحة بن سليمان "جنيا" بكسر الجيم للإتباع ؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب ، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله تعالى : {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أي فكلي من الجني ، وأشربي من السري ، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة {وقري} بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال : قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت : الدمع كله حار ، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن ؛ وفلان قرة عيني ؛ أي
(11/96)



نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني : {وَقَرِّي عَيْناً} معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو : أقر الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره. و"عينا" نصب على التمييز ؛ كقولك : طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين ؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا ، وتفقأت شحما ، وتصببت عرقا ، ومثله كثير.
قوله تعالى : {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} فيه ثلاث مسائل : -
الأولى- قوله تعالى : {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار "تريين" ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث ، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فصار ترين ، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري ، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة ، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين ؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد :
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه :
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة "ما" كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون خفيفة ؛ قال أبو الفتح : وهى شاذة.
الثانية- قوله تعالى : {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ} هذا جواب الشرط وفيه إضمار ؛ أي فسألك عن ولدك {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتا ؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً صمتا} وروي عن أنس.
(11/97)



وعنه أيضا "وصمتا" بواو ، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا ؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت ؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل : هو الصوم والمعروف ، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس "وصمتا" بواو ، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر ، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر ، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية ، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة : معنى {قُولِي} بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري : وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
الثالثة ـ من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر ، ويحتمل أن يقال : ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس ؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا ؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل ، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت : ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح ؛ قال عليه الصلاة والسلام : "إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم". وقال عليه الصلاة والسلام : "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
(11/98)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب الجامع لأحكام القرآن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن
» كتاب الجامع لأحكام القرآن

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ابناء الدويم :: المنتدى الإسلامي-
انتقل الى: