الجزء 11 من الطبعة
سورة الكهف
[60] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}
فيه أربع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وقالت فرقة منها نوف البكالي : إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه : هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في "المائدة" وآخر "يوسف". ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. {لا أَبْرَحُ} أي لا أزال أسير ؛ قال الشاعر :
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا
وقيل : {لا أَبْرَحُ} لا أفارقك. {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي ملتقاهما. قال قتادة : وهو بحر فارس والروم ؛ وقال مجاهد. قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول. وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل : مجمع البحرين عند طنجة ؛ قال محمد بن كعب. وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية. وقال السدي : الكر والرس بأرمينية. وقال بعض أهل العلم : هو بحر الأندلس من البحر المحيط ؛ حكاه النقاش ؛ وهذا مما يذكر كثيرا. وقالت فرقة : إنما هما موسى والخضر ؛ وهذا قول ضعيف ؛ وحكي عن ابن عباس ، ولا يصح ؛ فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء.
وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن موسى عليه السلام قام خطيبا
(11/9)
في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبد ا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم..." وذكر الحديث ، واللفظ للبخاري. وقال ابن عباس : "لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكّرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، واستخلفهم في الأرض ، ثم قال : وكلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاه لنفسه ، وألقى علي محبة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، فجعلكم أفضل أهل الأرض ، ورزقكم العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والتوراة بعد أن كنتم جهالا ؛ فقال له رجل من بني إسرائيل : عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا ؛ فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث الله جبريل : أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن لي عبد ا بمجمع البحرين أعلم منك..." وذكر الحديث. قال علماؤنا : قوله في الحديث : "هو أعلم منك" أي بأحكام وقائع مفصلة ، وحكم نوازل معينة ، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى : "إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علمنيه لا تعلميه أنت" وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر ، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة ، وهمته العالية ، لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه أعلم منك ؛ فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل ، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدا طلبا قائلا : {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} . {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} بضم الحاء والقاف وهو الدهر ، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال : أكثر من ذلك. والجمع حقاب والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون.
(11/10)
الثانية ـ في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم ، وذلك كان في دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام ، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال. البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث.
الثالثة ـ قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان معه يخدمه ، والفتى في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم عبد ي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي" فهذا ندب إلى التواضع ؛ وقد تقدم هذا في "يوسف". والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. ويقال : هو ابن أخت موسى عليه السلام. وقيل : إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا ؛ وهذا معنى الأول. وقيل : إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد ، قال الله تعالى : {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ...} وقال : {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ...} قال ابن العربي : فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد ، وفي الحديث : "أنه كان يوشع بن نون" وفي التفسير : أنه ابن أخته ، وهذا كله مما لا يقطع به ، والتوقف فيه أسلم.
الرابعة ـ {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال عبد الله بن عمر : "والحقب ثمانون سنة" مجاهد : سبعون خريفا. قتادة : زمان ، النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود ؛ كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود : وجمعه أحقاب.
(11/11)
[61] {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً}
[62] {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}
[63] {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً}
[64] {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}
[65] {فَوَجَدَا عبد اً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}
قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً}
الضمير في قوله : {بَيْنِهِمَا} للبحرين ؛ قال مجاهد. والسرب المسلك ؛ قال مجاهد. وقال قتادة : جمد الماء فصار كالسراب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا ، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت ، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر ، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل : المعنى ؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حال فنسب النسيان إليهما للصحبة ، كقوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من الملح ، وقوله : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ...} وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري ؛ "فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيرا ؛ فذلك قوله عز وجل : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ...} يوشع بن نون - ليست عن سعيد - قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم
(11/12)
فقال فتاه : لا أوقظه ؛ حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ؛ قال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما" وفي رواية "وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وقيل : إن النسيان كان منهما لقوله تعالى : {نَسِيَا} فنسب النسيان إليهما ؛ وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به ، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا. { فَلَمَّا جَاوَزَا} يعني الحوت هناك منسياً - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة ، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين. وهو الصخرة ، فقد كان موسى شريكا في النسيان لأن النسيان التأخير ؛ من ذلك قولهم في الدعاء : أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت.
قوله تعالى : {آتِنَا غَدَاءَنَا} فيه مسألة واحدة ، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار ، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار ، الذين يقتحمون المهامه والقفار ، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار ؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه ، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري "إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا} وقد مضى هذا في "البقرة". واختلف في زاد موسى ؛ فقال ابن عباس : كان حوتا مملوحا في زنبيل ، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء ، فلما انتهيا إلى
(11/13)
الصخرة على ساحل البحر ، وضع فتاه المكتل ، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل ، فقلب المكتل وانسرب الحوت ، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل : إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث : "أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم" على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت ، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره. وقال ابن عطية : قال أبي رضي الله عنه ، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم. وقوله : {نَصَباً} أي تعبا ، والنصب التعب والمشقة. وقيل : عنى به هنا الجوع ، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض ، وأن ذلك لا يقدح في الرضا ، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط.
قوله تعالى : {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} أن مع الفعل بتأويل المصدر ، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في {أَنْسَانِيهُ} وهو بدل الظاهر من المضمر ، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ؛ وفي مصحف عبد الله {وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان} . وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ؛ فقال : ما كلفت كثيرا ، فاعتذر بذلك القول.
قوله تعالى : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى ؛ أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} تمام الخبر ، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه : {عَجَباً} لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري : رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} إخبارا من الله تعالى ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا ، أي تعجب منه وإما أن يخبر
(11/14)
عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية : "أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة ، ما مست قط شيئا إلا حيي" وفي التفسير : إن العلامة كانت أن يحيا الحوت ؛ فقيل : لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان : "يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ، ولا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش ، قال : وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش" وذكر صاحب كتاب العروس : أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا له ثمَّ ؛ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري : "فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضك من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم. قال : فما شأنك ؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا..." الحديث. وقال الثعلبي في كتاب العرائس : "إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه فقال : وأنى بأرضنا السلام ؟ ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال له موسى : وما أدراك بي ؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراك بي ودلك علي ؛ ثم قال : يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل ، قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ، ثم جلسا يتحدثان ، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء..." وذكر الحديث على ما يأتي.
(11/15)
قوله تعالى : {فَوَجَدَا عبد اً مِنْ عِبَادِنَا} العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور ، وبمقتضى الأحاديث الثابتة وخالف من لا يعتد بقوله ، فقال : ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر وحكى أيضا هذا القول القشيري ، قال : وقال قوم هو عبد صالح ، والصحيح أنه كان الخضر ؛ بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد : سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله ، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء" هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الأرض ؛ قاله الخطابي وغيره. والخضر نبي عند الجمهور. وقيل : هو عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي.وأيضا فان الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه ، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس نبي وقيل : كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والأول الصحيح ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الرحمة في هذه الآية النبوة وقيل : النعمة. {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} أي علم الغيب ، ابن عطية : كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها ؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.
[66] {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}
[67] {قال إنك لن تستطيع معي صبرا}
[68] {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}
[69] {قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}
[70] {قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}
(11/16)
قوله تعالى : {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} فيه مسألتان :
الأولى ـ قوله تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} هذا سؤال الملاطف ، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب ، المعنى : هل يتفق لك ويخف عليك ؟ وهذا كما في الحديث : "هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ ..." وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً...} [المائدة : 112] حسب ما تقدم بيانه في "المائدة".
في هذه الآية دليل أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب ، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر يدل على أن الخضر كان أفضل منه ، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول ، والفضل لمن فضله الله ؛ فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه ، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي ، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. {رُشْداً} مفعول ثان بـ {تعلمني } . {قَالَ} الخضر. {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه ، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ، ولا طريق الصواب ، وهو معنى قوله : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} والأنبياء لا يقرون على منكر ، لا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وانتصب {خُبْراً} على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل : على المصدر الملاقى في المعنى ، لأن قوله : {لَمْ تُحِطْ } . معناه لم تخبره ، فكأنه قال : لم تخبره خبرا ؛ وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها.
قوله تعالى : {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} أي سأصبر بمشيئة الله. {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء ، هل هو يشمل قوله : {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أم لا ؟ فقيل : يشمله كقوله : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} وقيل : استثنى في الصبر فصبر ، وما استثنى في قوله : {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} فاعترض
(11/17)
وسأل ، قال علماؤنا : إنما كان ذلك منه ؛ لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف ، يكون حاله فيه ، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال ، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه ، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه ، فإن ذلك كله مكتسب لنا ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك ، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة ، فلو صبر ودأب لرأى العجب ، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض.
[71] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}
[72] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
[73] {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
قوله تعالى : {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} فيه مسألتان :
الأولى ـ في صحيح مسلم والبخاري : "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وكانت الأولى من موسى نسيانا" قال : "وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر". قال علماؤنا : حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه ، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم ، كما قال :
(11/18)
{ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي من معلوماته ، وهذا من الخضر تمثيل ؛ أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله ؛ كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر ، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر. ما يشاهده مما بين أيدينا ، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم ، إذ لا نقص في علم الله ، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال : "والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر" وفي التفسير عن أبي العالية : لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبد ا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه ، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة. وقيل : خرج أهل السفينة إلى جزيرة ، وتخلف الخضر فخرق السفينة ، وقال ابن عباس : "لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية ، وقال في نفسه : ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر : يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك ؟ قال : نعم. قال : كذا وكذا قال : صدقت ؛ ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.
الثانية ـ في خرق السفينة دليل أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا ، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرّب بعضه وقال أبو يوسف : يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق} بالياء {أهلها} بالرفع فاعل يغرق ، فاللام على قراءة الجماعة في {لِتُغْرِقَ} لام المآل مثل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وعلى قراءة حمزة لام كي ، ولم يقل لتغرقني ؛ لأن الذي غلب الحال فرط الشفقة عليهم ، ومراعاة حقهم. و {إِمْراً} معناه عجبا ؛ قاله القتبي ، وقيل : منكرا ؛ قاله مجاهد ، وقال أبو عبيدة : الإمر الداهية العظيمة ؛ وأنشد
قد لقي الأقران مني نكرا
...
داهية دهياء إدا إمرا
وقال الأخفش : يقال أمر يأمر "أمر" إذا أشتد والاسم الإمر.
(11/19)
قوله تعالى : {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} في معناه قولان : أحدهما : يروى ابن عباس ، قال : "هذا من معاريض الكلام". والآخر : أنه نسي فاعتذر ؛ ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ، وأنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره ؛ وقد تقدم ، ولو نسي في الثانية لاعتذر.
[74] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}
[75] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
[76] {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}
قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} في البخاري قال يعلى قال سعيد : "وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين" {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} لم تعمل بالحنث ، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي : "ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، قال له موسى : {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال : وهذه أشد من الأولى. {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} لفظ البخاري. وفي التفسير : إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه ، فقتله. قال أبو العالية : لم يره إلا موسى ، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.
(11/20)
قلت : ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة ، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر ، ثم أضجعه فذبحه ، ثم اقتلع رأسه ؛ والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور "زاكية" بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر "زكية" بغير ألف وتشديد الياء ؛ قيل المعنى واحد ؛ قال الكسائي وقال ثعلب : الزكية أبلغ قال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب قط ، والزكية التي أذنبت ثم تابت.
قوله تعالى : {غُلاماً} اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا ؟ فقال الكلبي : كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين ، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين ، وأمه من عظماء القرية الأخرى ، فأخذه الخضر فصرعه ، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي : واسم الغلام شمعون وقال الضحاك : حيسون وقال وهب : اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى وقال الجمهور : لم يكن بالغا ؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب ، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام ؛ فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سيره ، وأنه طبع كافرا كما في ، صحيح الحديث ، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا ، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك ؛ فان الله تعالى الفعال لما يريد ، القادر على ما يشاء ، وفي كتاب العرائس : إن موسى لما قال للخضر {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً...} الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر ، وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب : كافر لا يؤمن بالله أبدا. وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية :
شفاها من الداء العضال الذي بها
...
غلام إذا هز القناة سقاها
وقال صفوان لحسان :
تلق ذباب السيف عني فإنني
...
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
(11/21)
وفي الخبر : إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض ، ويقسم لأبويه أنه ما فعل ، فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه ، قالوا وقوله : {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام ، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس : كان شابا يقطع الطريق ، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين" والكفر والإيمان من صفات المكلفين ، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه ، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق.
قوله تعالى : {نُكْراً} اختلف الناس أيهما أبلغ {إِمْراً} أو قوله { نُكْراً} فقالت فرقة : هذا قتل بين ، وهناك مترقب ؛ فـ {نُكْراً} أبلغ ، وقالت فرقة : هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة فـ {إِمْراً} أبلغ. قال ابن عطية : وعندي أنهما لمعنيين وقوله : {إِمْراً} أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، و {نُكْراً} بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ؛ وهذا بين.
قوله تعالى : {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} شرط وهو لازم ، والمسلمون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء ، والتزم للأنبياء. قوله تعالى : {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا ، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع ؛ قاله ابن العربي. ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة ، وأيام المتلوم ثلاثة ؛ فتأمله
قوله تعالى : {فَلا تُصَاحِبْنِي} كذا قرأ الجمهور ؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج {تصحبني} بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ {تصحبني} أي تتبعني وقرأ يعقوب {تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء ؛ ورواها سهل عن أبي عمرو ؛ قال الكسائي : معناه فلا تتركني أصحبك.
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي ، وقرأ الجمهور : { مِنْ لَدُنِّي} بضم الدال ، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون "لدن" اتصلت بها ياء
(11/22)
المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْني} بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم {لدني} بضم اللام وسكون الدال ؛ قال ابن مجاهد : وهي غلط ؛ قال أبو علي : هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية ، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور {عذر} وقرأ عيسى {عذرا} بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم {عذري} بكسر الراء وياء بعدها.
مسألة : أسند الطبري قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوما : "رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} " والذي في صحيح مسلم قال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم : "رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب" قال : وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه : "رحمة الله علينا وعلى أخي كذا" وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما" الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة ، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها ، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة : يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة وكأنه استحيا من تكرار مخالفته ، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.
[77] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}
(11/23)