الآية : 46 {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
قوله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويجوز "زينتا" وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا ، لكن معه قرينة الصفة للمالوالبنين ؛ لأن المعنى : المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف ، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح ؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول الله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن : 15]. وقال تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14].
قوله تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي أفضل {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وليس في زينة الدنيا خير ، ولكنه خرج مخرج قوله : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان : 24]. وقيل : خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم.
واختلف العلماء في {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} ؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل : هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا : أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله ؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي الله عنه : الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون ؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور : هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد : الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(10/414)
قال : "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : "التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" . صححه أبو محمد عبدالحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال : "إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات" . ذكره الثعلبي ، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها" . وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال : "إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة" . قال : هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس ، إلا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال : حديث حسن غريب ، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت : ما غراس الجنة ؟ قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال : "يا أبا هريرة ما الذي تغرس" قلت غراسا. قال : "ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" . وقد قيل : إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات ؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع ؛ قال الحسن. وقال عبيد بن عمير : هن البنات ؛ يدل عليه أوائل ، الآية ؛ قال الله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا ،
(10/415)
وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي امرأة مسكينة.. الحديث ، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله : {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل : 59] الآية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن". وقال قتادة في قوله تعالى : {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف : 81] قال : أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلاما كلهم أنبياء.
الآية : 47 {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} قال بعض النحويين : التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس : وهذا غلط من أجل الواو وقيل : المعنى واذكر يوم نسير الجبال ، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض ، ونسيرها كما نسير السحاب ؛ كما قال في آية أخرى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88]. ثم تكسر فتعود إلى الأرض ؛ كما قال : {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة : 6]. وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر "ويوم تسير" بتاء مضمومة وفتح الياء. و"الجبال" رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد "ويوم تسير الجبال" بفتح التاء مخففا من سار. "الجبال" رفعا. دليل قراءة أبي عمرو {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} . ودليل قراءة ابن محيصن "وتسير الجبال سيرا". واختار أبو عبيد القراءة الأولى "نسير" بالنون لقوله "وحشرناهم". ومعنى "بارزة" ظاهرة ، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان ؛ أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها ، وهدم بنيانها ؛ فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير. وقيل : {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} أي برز ما فيها من الكنوز والأموات ؛ كما قال : {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
(10/416)
وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق : 4] وقال : {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة : 2] وهذا قول عطاء. {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي إلى الموقف. {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي لم نترك ؛ يقال : غادرت كذا أي تركته. قال عنترة :
غادرته متعفرا أوصاله ... والقوم بين مجرح ومجدل
أي تركته. والمغادرة الترك ؛ ومنه الغدر ؛ لأنه ترك الوفاء. وإنما سمى الغديرا لأن الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول : حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.
الآية : 48 {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}
قوله تعالى : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} {صَفّاً} نصب على الحال. قال مقاتل : يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة ، كل أمة وزمرة صفا ؛ لا أنهم صف واحد. وقيل جميعا ؛ كقوله : {ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} [طه : 64] أي جميعا. وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبدالرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب" .
قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية ، ولم يذكره كثير من المفسرين ، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ، ومنه نقلناه والحمد لله.
قوله تعالى : {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال لهم : لقد جئتمونا حفاة عراة ، لا مال معكم ولا ولدا وقيل فرادى ؛ دليله قوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام : 94]. وقد تقدم. وقال الزجاج : أي بعثناكم كما خلقناكم. {بَلْ زَعَمْتُمْ} هذا خطاب لمنكري
(10/417)
البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" . "غرلا" أي غير مختونين. وقد تقدم في "الأنعام" بيانه.
الآية : 49 {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
قوله تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} "الكتاب" اسم جنس ، وفيه وجهان : أحدهما : أنها كتب الأعمال في أيدي العباد ؛ قاله مقاتل. الثاني : أنه وضع الحساب ؛ قاله الكلبي ، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر ؛ ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبدالرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعب : ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة ؛ قال : نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش ، وذلك قوله تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} - قال الأسدي : الصغيرة ما دون الشرك ؛ والكبيرة الشرك ، إلا أحصاها - قال كعب ؛ ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر
(10/418)
ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة ؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة : 19] ثم يدعي بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوي عنقه ؛ فذلك قوله : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق : 10] فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول : يا ويلتاه ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس : الصغيرة التبسم ، والكبيرة الضحك ؛ يعني ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل ؛ ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك.
قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية ، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية ، وعلى هذا تكون كبيرة ، فيكون وجه الجمع هذا والله اعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم ، وقد قال تعالى : {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} [النمل : 19]. وقال سعيد بن جبير : إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل ، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في "النساء" بيان هذا. قال قتادة : اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أحد ظلما ، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى "أحصاها" عدها وأحاط بها ؛ وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا. {وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا وقيل : وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد ، ولا يأخذوه بما لم يعمله ؛ قال الضحاك. وقيل : لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه.
الآية : 50 {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}
(10/419)
قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} تقدم. قال أبو جعفر النحاس : وفي هذه الآية سؤال ، يقال : ما معنى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ففي هذا قولان : أحدهما : وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى ، فكان سبب الفسق أمر ربه ؛ كما تقول : أطعمته عن جوع.
والقول الآخر : وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى : ففسق عن رد أمر ربه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو ؛ أي أعداء ، فهو اسم جنس. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه ؛ فقال الشعبي : سألني رجل فقال هل إبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ، ثم ذكرت قوله : {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد : إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات ؛ فهذا أصل ذريته. وقيل : إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا ؛ فهو ينكح هذا بهذا ، فيخرج له كل يوم عشر بيضات ، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ، فهو يخرج وهو يطير ، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة ، وقال قوم : ليس له أولاد ولا ذرية ، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر : والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس اتباعا وذرية ، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم ، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس ، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.
قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تكن
(10/420)
أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ" . وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه ، والله اعلم. قال ابن عطية : وقول "وذريته" ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين ، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال : ذرية إبليس الشياطين ، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق ، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض ، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب ، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش : وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم ، فرأيت مطهرة فقلت : ارفعوا هذه وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد : والأبيض ، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب ، ولقوس صاحب التحريش ، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الداراني : إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي ، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة ، فيحدث به في العلانية. قال ابن عطية : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح ، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة ، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان.
قلت : أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح ؛ وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به ، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه ، كما قال مجاهد وغيره.
(10/421)
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود : إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته" . وفي مسند أحمد بن حنبل قال : أنبأنا عبدالله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال : إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته ، قال : يوشك أن يتزوج. ويقول آخر : لم أزل بفلان حتى عق ؛ قال : يوشك أن يبر. فال ويقول القائل : لم أزل بفلان حتى شرب ؛ قال : أنت قال ويقول : لم أزل بفلان حتى زنى ؛ قال : أنت قال ويقول : لم أزل بفلان حتى فتل ؛ قال : أنت أنت وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت" . وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالمعطي بثغر الإسكندرية يقول : إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا.
(10/422)
المجلد الحادي عشر
تابع لتفسير سورة الكهف
...
الجزء 11 من الطبعة
سورة الكهف
[51] {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}
[52] {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}
[53] {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}
قوله تعالى : {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} قيل : الضمير عائد على إبليس وذريته ؛ أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل : ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني ؟ . وقيل : الكناية في قوله : {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} ترجع إلى المشركين ، وإلى الناس بالجملة ، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء. وقال ابن عطية : وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول : سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية ، وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول : إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته ؛ وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة ، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن ؛ حين يقولون : أعوذ بعزيز هذا الوادي ؛ إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع ، فهم المراد الأول بالمضلين ؛ وتندرج هذه الطوائف في معناهم.
قال الثعلبي : وقال بعض أهل العلم {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} رد على المنجمين أن قالوا : إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض ، وقوله : {وَالأَرْضِ} رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا :
(11/1)
إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها ، والناس ملصقون عليها وتحتها ، وقوله : {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر {مَا أَشْهَدْناُهُمْ} بالنون والألف على التعظيم.الباقون بالتاء بدليل قوله : {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ} يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم. {الْمُضِلِّينَ} يعني الشياطين. وقيل : الكفار. {عَضُداً} أي أعوانا يقال : اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد ، ثم يوضع موضع العون ؛ لأن اليد قوامها العضد. يقال : عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله : {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص : 35] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل ، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجحدري {وَمَا كُنْتُ} بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه : {عضدا} بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور ، وأفصحها. و {عَضْدا} بفتح العين وإسكان الضاد ، وهي لغة بني تميم. و {عُضُدا} بضم العين والضاد ، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و {عُضْدا} بضم العين وإسكان الضاد ، وهي قراءة عكرمة. و {عِضَدا} بكسر العين وفتح الضاد ، وهي قراءة الضحاك. و {عَضَدا} بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ {عَضِدا} واللغة الثامنة {عِضْدا} على لغة من قال : كتف وفخذ.
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي اذكروا يوم يقول الله : أين شركائي ؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر {نقول} بنون. الباقون بالياء ؛ لقوله : {شُرَكَائِيَ} ولم يقل : شركائنا. {فَدَعَوْهُمْ} أي فعلوا ذلك. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} قال أنس بن مالك : "هو واد في جهنم من قيح ودم". وقال ابن عباس : "أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا" وقيل : بين الأوثان وعبدتها ، ونحو قوله : {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}
(11/2)
قال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين موبق ، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى : {مَوْبِقاً} قال واد في جهنم يقال له موبق ، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال : يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة : هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار. وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال : {مَوْبِقاً} "واد من قيح ودم في جهنم". وقال عطاء والضحاك : مهلكا في جهنم ؛ ومنه يقال : أو بقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة : موعد للهلاك. الجوهري : وبق يبق وبوقا هلك ، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد ، ومنه قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً } . وفيه لغة أخرى : وبق يوبق وبقا. وفيه لغة ثالثة : بق يبق بالكسر فيهما ، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله ... يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء : جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة.
قوله تعالى : {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ} "رأى" أصله رأي ؛ قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها ؛ ولهذا زعم الكوفيون أن "رأى" يكتب بالياء ، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق ، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس : سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف ، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط ، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو ، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف ، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء ، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة ، وكسا جمع كسوة ، وهما من ذوات الواو بالياء ، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} {فَظَنُّوا} هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
(11/3)
أي أيقنوا ؛ وقد تقدم قال ابن عباس : "أيقنوا أنهم مواقعوها" وقيل : رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها ، وظنوا أنها تأخذهم في الحال. وفي الخبر : "إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة". والمواقعة ملابسة الشيء بشدة. وعن علقمة أنه قرأ {فظنوا أنهم ملافوها} أي مجتمعون فيها ، واللفف الجمع. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب. وقال القتبي : معدلا ينصرفون إليه. وقيل : ملجأ يلجؤون إليه ، والمعنى واحد. وقيل : ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين.
[54] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
[55] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً}
[56] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً}
[57] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}
[58] {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً}
[59] {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}
(11/4)
قوله تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية. الثاني : ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في "سبحان" ؛ فهو على الوجه الأول زجر ، وعلى الثاني بيان. {وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل : الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج : أي الكافرون أكثر شيء جدلا ؛ والدليل على الكافر قوله {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ}
وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها شيء من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول يا رب ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لأعضائه لعنكن الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يُكتم حديثا فذلك قوله تعالى : { وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} " أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا. وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال : "ألا تصلون" ؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول : {وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
قوله تعالى : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام {يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي سنتنا في إهلاكهم
(11/5)
إي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك ؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال. وقيل : المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب ، فطلب المشركون ذلك ، وقالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ...} {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} نصب على الحال ، ومعناه عيانا قاله ابن عباس. وقال الكلبي : هو السيف يوم بدر. وقال مقاتل : فجأة وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي {قُبُلاً} بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله ، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس : ومذهب الفراء أن {قُبُلاً} جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويحوز عنده أن يكون المعنى عيانا. وقال الأعرج : وكانت قراءته {قُبُلاً} معناه جميعا وقال أبو عمرو : وكانت قراءته {قُبُلاً} ومعناه عيانا.
قوله تعالى : {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ} أي بالجنة لمن آمن {وَمُنْذِرِينَ} أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} قيل : نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم. ومعنى "يدحضوا" يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق يقال : دحضت رجله أي زلقت ، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت ، وأدحضها الله والإدحاض الإزلاق. وفي وصف الصراط : "ويضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم" قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : "دحض مزلقة" أي تزلق فيه القدم. قال طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته
...
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
(11/6)
{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} يعني القرآن {وَمَا أُنْذِرُوا} من الوعيد {هُزُواً} و"ما" بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل : بمعنى الذي ؛ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا ؛ وقد تقدم في "البقرة" بيانه. وقيل : هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل : هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين ، وقالوا للرسول : {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء : 3] {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31] و {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [المدثر : 31].
قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلم لنفسه ممن ، وعظ بآيات ربه ، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها ، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل : المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب ؛ والمعنى متقارب. {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} بسبب كفرهم ؛ أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} أي إلى الإيمان. {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} نزل في قوم معينين ، وهو يرد على القدرية قولهم ؛ وقد تقدم معنى هذه الآية في {سُبْحَانَ} [الإسراء : 1] وغيرها.
قوله تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} النساء : 48]. {ذُو الرَّحْمَةِ} فيه أربع تأويلات : أحدها ذو العفو. الثاني ذو الثواب ؛ وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر. الثالث ذو النعمة. الرابع ذو الهدى ؛ وهو على هذين الوجهين يعم أهل الأيمان والكفر ، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر ، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي من الكفر والمعاصي. {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} ولكنه يمهل. {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} أي أجل مقدر يؤخرون إليه ، نظيره {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام : 67] ، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد : 38]
(11/7)
أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة. {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} "أي ملجأ" قاله ابن عباس وابن زيد ، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووؤولا على فعول أي لجأ ؛ وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة. وقال مجاهد : محرزا. قتادة : وليا. وأبو عبيدة : منجى. وقيل : محيصا ؛ والمعنى واحد والعرب تقول : لا وألت نفسه أي لا نجت ؛ منه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خليتها
...
للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته
...
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو.
قوله تعالى : {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} {تِلْكَ} في موضع رفع بالابتداء. {الْقُرَى} نعت أو بدل. و {أَهْلَكْنَاهُمْ} في موضع الخبر محمول على المعنى ؛ لأن المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون "تلك" في موضع نصب على قول من قال : زيدا ضربته ؛ أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم ، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} أي وقتا معلوما لم تعده و"مهلك" من أهلكوا. وقرأ عاصم {مَهْلِكِهِمْ} بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء {لِمَهْلِكِهِمْ} بكسر اللام وفتح الميم. النحاس : قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج : اسم للزمان والتقدير : لوقت مهلكهم ، كما يقال : أتت الناقة على مضربها.