الآية : 11 {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً}
عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج : أي منعناهم عن أن يسمعوا ؛ لأن النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس : ضربنا على آذانهم بالنوم ؛ أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها. وقيل : المعنى "فضربنا على آذانهم" أي فاستجبنا دعاءهم ، وصرفنا عنهم شر قومهم ، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب : هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا :
ومن الحوادث لا أبالك أنني ... ضربت علي الأرض بالأسداد
وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم : "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم ، لا يقوم الليل. و"عددا" نعت للسنين ؛ أي معدودة ، والقصد به العبارة عن التكثير ؛ لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر ، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة : "عددا" نصب على المصدر. ثم قال قوم : بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال : {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف : 25].
الآية : 12 {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}
قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث ؛ لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف.
(10/363)
قوله تعالى : {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} {لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته ؛ وهذا على نحو كلام العرب ، أي نعلم ذلك موجودا ، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري "ليعلم" بالياء. والحزبان الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين ، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل : هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و"أحصى" فعل ماض. و"أمدا" نصب على المفعول به ؛ قاله أبو علي. وقال الفراء : نصب على التمييز. وقال الزجاج : نصب على الظرف ، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد ، والأمد الغاية. وقال مجاهد : "أمدا" نصب معناه عددا ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري : "أمدا" منصوب بـ "لبثوا". ابن عطية : وهذا غير متجه ، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، و"أحصى" فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال : إن أفعل في الرباعي قد كثر ؛ كقولك : ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم : "ماؤه أبيض من اللبن" . وقال عمر بن الخطاب : فهو لما سواها أضيع.
الآية : 13 {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً}
قوله تعالى : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} لما اقتضى قوله تعالى {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} اختلافا وقع في أمد الفتية ، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة ؛ كذلك قال أهل اللسان : رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد : الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل : الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا ؛ لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.
(10/364)
قوله تعالى : - {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} أي يسرناهم للعمل الصالح ؛ من الانقطاع إلى الله تعالى ، ومباعدة الناس ، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الإيمان. وقال السدي : زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم ؛ فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله ، فقال : يا قوم لم تطردونني ، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة ؛ فزادهم الله بذلك هدى.
الآية : 14 {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}
قوله تعالى : {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} عبارة عن شدة عزم وقوة صبر ، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} . ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ؛ ومنه يقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى : {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال : 11] وقد تقدم.
قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} فيه مسالتان : -
الاولى : -قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} يحتمل ثلاثة معان : أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة ، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد ؛ فقال أسنهم : إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض ؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} .
(10/365)
أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام ، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس ؛ كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد.
الثانية : - قال ابن عطية : تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
قلت : وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته ، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته ، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم ؛ وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان ؛ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء ، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في "سبحان" عند قوله : {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء : 37] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال : وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل ، على ما يأتي.
الآية : 15 {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}
قوله تعالى : {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي قال بعضهم لبعض : هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا ، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة. {لَوْلا} أي هلا. {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي بحجة على عبادتهم الصنم. وقيل : {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الآلهة ؛ أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة ؛ فقولهم {لَوْلا} تحضيض بمعنى التعجيز ؛ وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم.
(10/366)
الآية : 16 {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً}
قوله تعالى : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} قيل : هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاؤوا إلى الكهف. وقيل : هو من قول رئيسهم يمليخا ؛ فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي : رئيسهم مكسلمينا ، قال لهم ذلك ؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال {إِلاَّ اللَّهَ} أي إنكم لم تتركوا عبادته ؛ فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية : وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ، ولا علم لهم به ؛ وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفي مصحف عبدالله بن مسعود {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. قال قتادة هذا تفسيرها.
قلت : ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} قال : كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله.
ابن عطية : فعلى ما قال قتادة تكون "إلا" بمنزلة غير ، و"ما" من قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} في موضع نصب ، عطفا على الضمير في قول {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} . ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض : إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله ؛ فإنه سيبسط لنا رحمته ، وينشرها علينا ، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه : كان أصحاب الكهف صياقلة ، واسم الكهف حيوم. {مِرْفَقاً} قرئ بكسر الميم وفتحها ، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه ؛ ومنهم من يجعل "المرفق" بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان.
(10/367)
الآية : 17 {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
الآية : 18 {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}
قوله تعالى : {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى : إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا ؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. و"تزاور" تتنحى وتميل ؛ من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين ؛ كما قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القوم أزور
ومن اللفظة قول عنترة :
فازور من وقع القنا بلبانه
وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو "تزاور" بإدغام التاء في الزاي ، والأصل "تتزاور". وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "تزاور" مخففة الزاي.
(10/368)
وقرأ ابن عامر "تزور" مثل تحمر. وحكى الفراء "تزوار" مثل تحمار ؛ كلها بمعنى واحد. { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : تدعهم. النحاس : وهذا معروف في اللغة ، حكى البصريون أنه يقال : قرضه يقرضه إذا تركه ؛ والمعنى : أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم ؛ وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين ، أي يمين الكهف ، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال ، أي شمال الكهف ، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم ، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها ، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم. وقد قيل : إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله ، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة "بقرضهم" بالياء من القرض وهو القطع ، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس. وقيل : {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} أي يصيبهم يسير منها ، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة ، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا : كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس علبهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم ، والتأذي بحر أو برد {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي من الكهف والفجوة المتسع ، وجمعها فجوات وفجاء ؛ مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة ... رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} لطف بهم وهذا يقوى قول الزجاج وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا. وقيل : .قوله تعالى : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً} لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و"أيقاظا"
(10/369)
جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه. {وَهُمْ رُقُودٌ} كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة : كان لهم في كل عام تقليبتان. وقيل : في كل سنة مرة. وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله تعالى.
قوله تعالى : {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} فيه أربع مسائل :
الأولى : -قوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ} قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [قال] في ليله أو في نهاره : صلى الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [إذا قال] : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.
أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ؛ على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا ، ذكره الثعلبي. تحصيله : أي لون ذكرت أصبت ؛ حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه ؛ فعن علي : ريان. ابن عباس : قطمير. الأوزاعي : مشير. عبدالله بن سلام : بسيط. كعب : صهيا. وهب : نقيا. وقيل قطمير ؛ ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم ، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم.
الثانية : - ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" . وروى الصحيح أيضا عن
(10/370)
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط" . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ؛ والله اعلم. وقال في إحدى الروايتين "قيراطان" وفي الأخرى "قيراط". وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ؛ أخرجه الصحيح. وقال : "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان" . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ؛ كالفرس والهرة. والله اعلم.
الثالثة : - وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في "المائدة" من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله.
الرابعة : - قال ابن عطية : وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم في ذكره الله في محكم تنزيله.
قلت : إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين
(10/371)
المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال ، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل. روى الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أعددت لها" قال : ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله. قال : "فأنت مع من أحببت" . في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فأنت مع من أحببت" . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.
قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ؛ كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي صلى الله عليه وسلم ، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء : 7].
وقالت فرقة : لم يكن كلبا حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا ؛ لأنه منها كالكلب من الإنسان ؛ ويقال له : كلب الجبار. قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" . وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت
(10/372)
أنه قرئ "وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد". فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي ؛ إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق "كالبهم" يعني صاحب الكلب.
قوله تعالى : {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي ؛ لأنها حكاية حال ولم يفصد الإخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى. ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة. وقيل : نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات. وقيل : نام مفتوح العين. الوصيد : القناء ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، أي فناء الكهف ، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم. وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله اعلم.
قوله تعالى : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها. {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة. وقيل : لوحشة مكانهم ؛ وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم. وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم. وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ؛ وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد ؛ لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ؛ إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم
(10/373)
آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة "لمُلَّئت منهم" بتشديد اللام على تضعيف المبالغة ؛ أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون "لملئت" بالتخفيف ، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبَّل السعدي :
وإذ فتك النعمان بالناس محرما ... فملِّىء من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور "رعبا" بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم : هما لغتان. و"فرارا" نصب على الحال و"رعبا" مفعول ثان أو تمييز.
الآية : 19 {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}
الآية : 20 {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} البعث : التحريك عن سكون. والمعنى : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا ؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر :
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين عاث ونشوان
أي أيقظت واللام في قوله "ليتساءلوا" لام الصيرورة وهي لام العاقبة ؛ كقوله {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص : 8] فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم.
(10/374)
قوله تعالى : {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار ؛ فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا : الله اعلم بالمدة.
قوله تعالى : {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} فيه سبع مسائل : -
الاولى : - قال ابن عباس : كانت ورقهم كأخفاف الربع ؛ ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بِوَرِقِكُمْ} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم "بورقكم" بسكون الراء ، حذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان. وقرأ الزجاج "بورقكم" بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا ، وأن المبعوث هو يمليخا ، كان أصغرهم ؛ فيما ذكر الغزنوي. والمدينة : أفسوس ويقال هي طرسوس ، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس ؛ فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس : كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم.
الثانية : - قوله تعالى : {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} قال ابن عباس : أحل ذبيحة ؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس : كان عامتهم مجوسا. وقيل {أَزْكَى طَعَاماً} أي أكثر بركة. قيل : إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم ، ثم إذا طبخ كفى جماعة ؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز. وقيل : كان زبيبا. وقيل تمرا ؛ فالله اعلم. وقيل : "أزكى" أطيب. وقيل أرخص.
قوله تعالى : {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي بقوت. {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في دخول المدينة وشراء الطعام. {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} أي لا يخبرن. وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل. وقيل : يرموكم بالسب والشتم ؛ والأول أصح ، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم.والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [عقوبة] مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها.
(10/375)
الثالثة : - في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنه ؛ ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام ؛ ألا ترى إلى عبدالرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة ؛ أي يحفظهم ، وأمية مشرك ، والتزم عبدالرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة ؛ فلما ذكرت الرحمن ؛ قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي : صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه ؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال ، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى ؛ من كتاب الأفعال.
الرابعة : - الوكالة عقد نيابة ، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك ، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه.
وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب ، منها هذه الآية ، وقوله تعالى : {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة : 60] وقوله : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} . روى جابر بن عبدالله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أردت الخروج إلى خيبر ؛ فقال : "إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته" خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى ، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية.
الخامسة : - الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه ، فلو وكل الغاصب لم يجز ، وكان هو الوكيل ؛ لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه.
السادسة : - في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم.وجواز توكيل ذوي العذر متفق
(10/376)
عليه ؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون : لا تجوز. قال ابن العربي : وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت ؛ إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل.
قلت : هذا حسن ؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال : "أعطوه" فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها ؛ فقال : "أعطوه" فقال : أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن خيركم أحسنكم قضاء" . لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه ؛ وذلك توكيد منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه ؛ وهذا الحديث خلاف قولهما.
السابعة : - قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا ، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ؛ ومثله قوله تعالى : {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة : 220] حسبما تقدم بيانه في "البقرة". ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه : إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه : إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي : ليس في الآية دليل على ذلك ؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين : أحدهما : أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. الثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور ؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه.
قلت : ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى : {وَإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانْكُمْ} [البقرة : 220] وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور : 61] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
(10/377)