" صفحة رقم 339 "
الإسراء : ) 105 ( وبالحق أنزلناه وبالحق . . . . .) الاسراء 105 (
قوله تعالى : ) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن والكناية ترجع إلى القرآن ووجه التكرير في قوله وبالحق نزل يجوز أن يكون معنى الأول : أوجبنا إنزاله بالحق ومعنى الثاني : ونزل وفيه الحق كقوله خرج بثيابه أي وعليه ثيابه وقيل الباء في وبالحق الأول بمعنى مع أي مع الحق كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه وبالحق نزل أي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي نزل عليه كما تقول نزلت بزيد وقيل : يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل
الإسراء : ) 106 ( وقرآنا فرقناه لتقرأه . . . . .) الاسراء 106 (
قوله تعالى : ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ( مذهب سيبويه أن قرآنا منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرأ جمهور الناس فرقناه بتخفيف الراء ومعناه بيناه وأوضحناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل قاله الحسن وقال بن عباس : فصلناه وقرأ بن عباس وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي فرقناه بالتشديد أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة إلا أن في قراءة بن مسعود وأبي فرقناه عليك واختلف في كم نزل القرآن من المدة فقيل : في خمس وعشرين سنة بن عباس : في ثلاث وعشرين أنس : في عشرين وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة وقد مضى هذا في البقرة ) على مكث ( أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء ويتناسق هذا القرآن على قراءة بن مسعود أي أنزلناه آية آية وسورة سورة وأما على القول الأول فيكون على مكث أي على ترسل في التلاوة وترتيل قاله مجاهد وبن عباس وبن جريج فيعطى القارئ القراءة حقها من
(10/339)
" صفحة رقم 340 "
ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب وأجمع القراء على ضم الميم من مكث إلا بن محيصن فإنه قرأ مكث بفتح الميم ويقال مكث ومكث ومكث ثلاث لغات قال مالك : على مكث على تثبت وترسل قوله تعالى : ) ونزلناه تنزيلا ( مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم أي أنزلناه نجما بعد نجم ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا
الإسراء : ) 107 ( قل آمنوا به . . . . .) الاسراء 107 (
قوله تعالى : ) قل آمنوا به أو لاتؤمنوا ( يعني القرآن وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير ) إن الذين أوتوا العلم من قبله ( أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهم مؤمنو أهل الكتاب في قول بن جريج وغيره قال بن جريج : معنى إذا يتلى عليهم كتابهم وقيل القرآن ) يخرون للأذقان سجدا ( وقيل : هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين وقال الحسن : الذين أوتوا العلم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مجاهد : إنهم ناس من اليهود وهو أظهر لقوله من قبله ) إذا يتلى عليهم ( يعني القرآن في قول مجاهد كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وقيل : كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا وقالوا : هذا هو المذكور في التوراة وهذه صفته ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام فنزلت الآية فيهم وقالت فرقة : المراد بالذين أوتوا العلم من قبله
(10/340)
" صفحة رقم 341 "
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والضمير في قبله عائد على القرآن حسب الضمير في قوله قل آمنوا به وقيل : الضميران لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واستأنف ذكر القرآن في قوله : إذا يتلى عليهم
الإسراء : ) 108 ( ويقولون سبحان ربنا . . . . .) الاسراء 108 (
دليل على جواز التسبيح في السجود وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول في سجوده وركوعه ) سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي )
الإسراء : ) 109 ( ويخرون للأذقان يبكون . . . . .) الاسراء 109 (
فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ويخرون للأذقان يبكون ( هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال : من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما لأن الله تعالى نعت العلماء ثم تلا هذه الآية ذكره الطبري أيضا والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين وقال الحسن : الأذقان عبارة عن اللحي أي يضعونها على الأرض في حال السجود وهو غاية التواضع واللام بمعنى على تقول سقط لفيه أي على فيه وقال بن عباس : ويخرون للأذقان سجدا أي للوجوه وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان قال بن خويزمنداد : ولايجوز السجود على الذقن لأن الذق ها هنا عبارة عن الوجه وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه فيقال : خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولاعينه ألا ترى إلى قوله : فخ ر صريع ا لليدي ن والف م فإنما أراد : خر صريعا على وجهه ويديه
(10/341)
" صفحة رقم 342 "
الثانية قوله تعالى : ) يبكون ( دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو على معصيته في دين الله وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها ذكر بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء وفي كتاب أبي داود : وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء الثالثة واختلف الفقهاء في الأنين فقال مالك : الأنين لا يقطع الصلاة للمريض وأكرهه للصحيح وبه قال الثوري وروى بن الحكم عن مالك : التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة وقال بن القاسم : يقطع وقال الشافعي : إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة وقال أبو حنيفة : إن كان من خوف الله لم يقطع وإن كان من وجع قطع وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين الرابعة قوله تعالى : ) ويزيدهم خشوعا ( تقدم القول في الخشوع في البقرة ويأتي
الإسراء : ) 110 ( قل ادعوا الله . . . . .) الاسراء 110 (
قوله تعالى : ) قل ادعوا أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو ) يا الله يا رحمن ) فقالوا : كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين قاله بن عباس وقال مكحول : تهجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة فقال في دعائه : ) يا رحمن يا رحيم ) فسمعه رجل
(10/342)
" صفحة رقم 343 "
من المشركين وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد فإن دعوتموه بالله فهو ذاك وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وقيل : كانوا يكتبون في صدر الكتب : باسمك اللهم فنزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسم الله الرحمن الرحيم فقال المشركون : هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن فنزلت الآية وقيل : إن اليهود قالت : ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير يعنون الرحمن فنزلت الآية وقرأ طلحة بن مصرف أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها والنص عليها وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع حسبما بيناه في [ الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ] قوله تعالى : ) ولاتجهر بصلاتك ولاتخافت بها ( فيه مسئلتان : الأولى اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال : الأول ما روى بن عباس في قوله تعالى : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال : نزلت ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوار بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى : ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون قراءتك ولا تخافت بها عن أصحابك أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر ) وابتغ بين ذلك سبيلا ( قال : يقول بين الجهر والمخافتة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم واللفظ لمسلم والمخافتة : خفض الصوت والسكون يقال للميت إذا برد : خفت قال الشاعر : لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثي له الشامت
(10/343)
" صفحة رقم 344 "
الثاني ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قالت : أنزل هذا في الدعاء الثالث قال بن سيرين : كانت الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك قلت : وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد وقد قال بن مسعود : من السنة أن تخفي التشهد ذكره بن المنذر الرابع ما روي عن بن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسر قراءته وكان عمر يجهر بها فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي إليه وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر : ارفع قليلا وقيل لعمر اخفض أنت قليلا ذكره الطبري وغيره الخامس ما روي عن بن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار ولا تخافت بصلاة الليل ذكره يحيى بن سلام والزهراوي فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار وكذلك روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يفعل الأمرين جميعا وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا وقول سادس قال الحسن : يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر وقال بن عباس : لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس الثانية عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير ومنه الحديث الصحيح : ) قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) أي قراءة الفاتحة على ماتقدم
الإسراء : ) 111 ( وقل الحمد لله . . . . .) الاسراء 111 (
(10/344)
" صفحة رقم 345 "
قوله تعالى : ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ( هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا : عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه تعالى الله عن أقوالهم ) ولم يكن له شريك في الملك ( لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته ) ولم يكن له ولي من الذل ( قال مجاهد : المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا وقال الكلبي : لم يكن له ولي من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس ردا لقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وقال الحسن بن الفضل : ولم يكن له ولي من الذل يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه ) وكبره تكبيرا ( أي عظمه عظمه تامة ويقال : أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال : الله أكبر أي صفه بأنه أكبر من كل شيء قال الشاعر : رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل في الصلاة قال : ) الله أكبر ) وقد تقدم أول الكتاب وقال عمر بن الخطاب قول العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها وهذه الآية هي خاتمة التوراة روى مطرف عن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة وفي الخبر أنها آية العز رواه معاذ بن جبل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الذي الآية وقال عبد الحميد بن واصل : سمعت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) وجاء في الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر رجلا شكا إليه بالدين بأن يقرأ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن إلى آخر السورة ثم يقول توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات تمت سورة الإسراء والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده
(10/345)