الإسراء : ) 63 ( قال اذهب فمن . . . . .) الاسراء 63 (
قوله تعالى : ) قال اذهب ( هذا أمر إهانة أي اجهد جهدك فقد أنظرناك ) فمن تبعك ( أي أطاعك من ذرية آدم ) فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( أي وافرا عن مجاهد وغيره وهو نصب على المصدر يقال : وفرته أفره وفرا ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر فهو لازم ومتعد
الإسراء : ) 64 ( واستفزز من استطعت . . . . .) الاسراء 64 (
فيه ست مسائل : الأولى قوله تعالى : ) واستفزز ( أي استزل واستخف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق واستفزه الخوف أي استخفه وقعد مستوفزا أي غير مطمئن واستفزز أمر تعجيز أي أنت لا تقدر على إضلال أحد وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت الثانية قوله تعالى : ) بصوتك ( وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى عن بن عباس مجاهد : الغناء والمزامير واللهو الضحاك : صوت المزمار وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي وقيل : بصوتك بوسوستك الثالثة قوله تعالى : ) وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ( أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق يقال : أجلب إجلابا والجلب والجلبة : الأصوات تقول منه : جلبوا بالتشديد وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى وأجلب على العدو إجلابا أي جمع عليهم فالمعنى أجمع عليهم كلما تقدر عليه من مكايدك
(10/288)
" صفحة رقم 289 "
وقال أكثر المفسرين : يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى وقال بن عباس ومجاهد وقتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن بن عباس قال : كل خيل سارت في معصية الله وكل رجل مشت في معصية الله وكل مال أصيب من حرام وكل ولد بغية فهو للشيطان والرجل جمع راجل مثل صحب وصاحب وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان يقال : رجل ورجل بمعنى راجل وقرأ عكرمة وقتادة ورجالك على الجمع الرابعة ) وشاركهم في الأموال والأولاد ( أي اجعل لنفسك شركة في ذلك فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله قاله الحسن وقيل : هي التي أصابوها من غير حلها قاله مجاهد بن عباس : ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقاله قتادة الضحاك : ما كانوا يذبحونه لآلهتهم والأولاد قيل : هم أولاد الزنى قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس وعنه أيضا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم وعنه أيضا : هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه وقيل : هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم قاله قتادة وقول خامس روي عن مجاهد قال : إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وسيأتي وروي من حديث عائشة قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن فيكم مغربين ) قلت : يا رسول الله وما المغربون قال : ) الذين يشترك فيهم الجن ) رواه الترمذي الحكيم في [ نوادر الأصول ] قال الهروي : سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب قال الترمذي الحكيم : فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط فمنهم من يتزوج فيهم وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
(10/289)
" صفحة رقم 290 "
الخامسة قوله تعالى : ) وعدهم ( أي منهم الأماني الكاذبة وأنه لا قيامة ولا حساب وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه قوله تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا وقيل وعدهم أي عدهم النصرة على من أرادهم بسوء وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له وقيل : استخفاف به وبمن اتبعه السادسة وفي الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو لقوله : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم على قول مجاهد وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه وروى نافع عن بن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول : يا نافع أتسمع فأقول نعم فمضى حتى قلت له لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا قال علماؤنا : إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج على الاعتدال فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة لقمان إن شاء الله تعالى
الإسراء : ) 65 ( إن عبادي ليس . . . . .) الاسراء 65 (
قوله تعالى : ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( قال بن عباس : هم المؤمنون وقد تقدم الكلام فيه ) وكفى بربك وكيلا ( أي عاصما من القبول من إبليس وحافظا من كيده وسوء مكره
الإسراء : ) 66 ( ربكم الذي يزجي . . . . .) الاسراء 66 (
(10/290)
" صفحة رقم 291 "
قوله تعالى : ) ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ( الإزجاء : السوق ومنه قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا وقال الشاعر : يأيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت وإزجاء الفلك : سوقه بالريح اللينة والفلك هنا جمع وقد تقدم والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا وقد غلب هذا الاسم على الملح وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا ) لتبتغوا من فضله ( أي في التجارات وقد تقدم ) إنه كان بكم رحيما (
الإسراء : ) 67 ( وإذا مسكم الضر . . . . .) الاسراء 67 (
قوله تعالى : ) وإذا مسكم الضر في البحر ( الضر لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه ) ضل من تدعون إلا إياه ( ضل معناه تلف وفقد وهي عبارة تحقير لمن يدعى إلها من دون الله والمعنى في هذه الآية : أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة وأن لها فضلا وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل ) فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ( أي عن الإخلاص ) وكان الإنسان كفورا ( الإنسان هنا الكافر وقيل : وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله فالإنسان لفظ الجنس
الإسراء : ) 68 ( أفأمنتم أن يخسف . . . . .) الاسراء 68 (
(10/291)
" صفحة رقم 292 "
قوله تعالى : ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ( بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر والخسف : أن تنهار الأرض بالشيء يقال : بئر خسيف إذا انهدم أصلها وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس وعين من الماء خاسفة أي غار ماؤها وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض وقال أبو عمرو : والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة والجمع خسف وجانب البر : ناحية الأرض وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب وقيل : إنهم كانوا على ساحل البحر وساحله جانب البر وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر ) أو يرسل عليكم حاصبا ( يعني ريحا شديدة وهي التي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار قاله أبو عبيدة والقتبي وقال قتادة : يعني حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد : حاصب : وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا قال لبيد : جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه وقال الفرزدق : مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور ) ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله
الإسراء : ) 69 ( أم أمنتم أن . . . . .) الاسراء 69 (
قوله تعالى : ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ( يعني في البحر ) فيرسل عليكم قاصفا من الريح ( القاصف : الريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه أي كسره بشدة والقصف : الكسر يقال : قصفت الريح السفينة وريح قاصف
(10/292)
" صفحة رقم 293 "
شديدة ورعد قاصف : شديد الصوت يقال : قصف الرعد وغيره قصيفا والقصيف : هشيم الشجر والتقصف التكسر والقصف أيضا : اللهو واللعب يقال : إنها مولدة ) فيغرقكم بما كفرتم ( أي بكفركم وقرأ بن كثير وأبو عمرو نخسف بكم أو نرسل عليكم أن نعيدكم فنرسل عليكم فنغرقكم بالنون في الخمسة على التعظيم ولقوله : علينا الباقون بالياء لقوله في الآية قبل : إياه وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد فتغرقكم بالتاء نعتا للريح وعن الحسن وقتادة فيغرقكم بالياء مع التشديد في الراء وقرأ أبو جعفر الرياح هنا وفي كل القرآن وقيل : إن القاصف المهلكة في البر والعاصف المغرقة في البحر حكاه الماوردي وقوله : ) ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا ( قال مجاهد : ثائرا النحاس : وهو من الثأر وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره : تبيع وتابع ومنه فاتباع بالمعروف أي مطالبة
الإسراء : ) 70 ( ولقد كرمنا بني . . . . .) الاسراء 70 (
فيه ثلاث مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ولقد كرمنا بني آدم ( الآية لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا كرمنا تضعيف كرم أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير
(10/293)
" صفحة رقم 294 "
مركب وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم وروي عن بن عباس ذكره المهدوي والنحاس وهو قول الكلبي ومقاتل ذكره الماوردي وقال الضحاك : كرمهم بالنطق والتمييز عطاء : كرمهم بتعديل القامة وامتدادها يمان : بحسن الصورة محمد بن كعب : بأن جعل محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) منهم وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب وقال محمد بن جرير الطبري : بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم وقيل : بالكلام والخط وقيل : بالفهم والتمييز والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها بن آدم أيضا كجري الفرس وسمعه وإبصاره وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه والله أعلم الثانية قالت فرقة : هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى : ولا الملائكة المقربون وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل فيها بين الإنس والجن فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ولم تتعرض الآية لذكرهم بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل العكس ويحتمل التساوي وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض إذ في الخبر ) لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى ) وهذا ليس بشيء لوجود
(10/294)
" صفحة رقم 295 "
النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء وقد بيناه في البقرة ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن الثانية قوله تعالى : ) ورزقناهم من الطيبات ( يعني لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل : السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها ) وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( يعني على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة الرابعة هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوي الشيطان أن يجري في العروق منها ) وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات ولا أصل له لأن القرآن يرده والسنة الثابتة بخلافه على ما تقرر في غير موضع وقد حكى أبو حامد الطوسي قال : كان سهل يقتات ورق النبق مدة وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين وذكر إبراهيم بن البنا قال : صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي وقلت : هلم فقال لي : ملحك مدقوق قلت نعم قال : لست تفلح فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه وقال أبو يزيد : ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة قال علماؤنا : وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه لأن خبز الشعير بارد مجفف والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة الباريء سبحانه بردها ثم يؤثر ذلك في البدن فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل ومعلوم أن البدن
(10/295)
" صفحة رقم 296 "
مطية الآدمي ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حواري فقيل له : هذا كله فقال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة ومثل هذا عن السلف كثير وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما والأول غلو في الدين إن صح عنهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
الإسراء : ) 71 ( يوم ندعوا كل . . . . .) الاسراء 71 (
قوله تعالى : ) يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ( روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم قال : ) يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا قال وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال : فيأتيهم فيقولون اللهم أخره فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ونظير هذا قوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون والكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم وقال بن عباس والحسن وقتادة والضحاك : بإمامهم أي بكتابهم أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله دليله فمن أوتي كتابه بيمينه وقال بن زيد : بالكتاب المنزل عليهم أي يدعى كل إنسان
(10/296)
" صفحة رقم 297 "
بكتابه الذي كان يتلوه فيدعى أهل التوراة بالتوراة وأهل القرآن بالقرآن فيقال : يأهل القرآن ماذا عملتم هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه وهكذا وقال مجاهد : بإمامهم بنبيهم والإمام من يؤتم به فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام هاتوا متبعي موسى عليه السلام هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي الأصنام فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم وقاله قتادة وقال علي رضي الله عنه : بإمام عصرهم وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : يوم ندعو كل أناس بإمامهم فقال : ) كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد عليهم أفضل الصلوات والسلام فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ويقول هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة ) وقال الحسن وأبو العالية : بإمامهم أي بأعمالهم وقاله بن عباس فيقال : أين الراضون بالمقدور أين الصابرون عن المحذور وقيل : بمذاهبهم فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا : يا حنفي يا شافعي يا معتزلي يا قدري ونحوه فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل وهذا معنى قول أبي عبيدة وقد تقدم وقال أبو هريرة : يدعى أهل الصدقة من باب الصدقة وأهل الجهاد من باب الجهاد الحديث بطوله أبو سهل : يقال أين فلان المصلي والصوام وعكسه الدفاف والنمام وقال محمد بن كعب : بإمامهم بأمهاتهم وإمام جمع آم قالت الحكماء : وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها لأجل عيسى والثاني إظهار لشرف الحسن والحسين والثالث لئلا يفتضح أولاد الزنى قلت : وفي هذا القول نظر فإن في الحديث الصحيح عن بن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ) خرجه مسلم والبخاري فقوله : ) هذه غدرة فلان بن فلان
(10/297)
" صفحة رقم 298 "
دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم وهذا يرد على من قال : إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم والله أعلم قوله تعالى : ) فمن أوتي كتابه بيمينه ( هذا يقوي قول من قال : بإمامهم بكتابهم ويقويه أيضا قوله : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) فأولئك يقرؤون كتابهم ولايظلمون فتيلا ( الفتيل الذي في شق النواة وقد مضى في النساء
الإسراء : ) 72 ( ومن كان في . . . . .) الاسراء 72 (
قوله تعالى : ) ومن كان من هذه أعمى ( أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق ) فهو في الآخرة ( أي في أمر الآخرة ) أعمى ( وقال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى بن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال : اقرؤوا ما قبلها ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى تفضيلا قال بن عباس : من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا وقيل : المعنى من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى وقيل : المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا كافرا ضالا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى كما قال : ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات وقال : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم وقيل : المعنى في قوله فهو في الآخرة أعمى في جميع الأقوال : أشد عمى لأنه من عمى القلب ولا يقال مثله في عمى العين قال الخليل وسيبويه : لأنه خلقه بمنزلة
(10/298)
" صفحة رقم 299 "
اليد والرجل فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه الأخفش : لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف وأصله أعمى وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه لأن فعله عمي وعشي وقال الفراء : حدثني بالشام شيخ بصري أنه سمع العرب تقول : ما أسود شعره قال الشاعر : ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ أما الملوك فأنت اليوم الأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين أعمى وأعمي وفتح الباقون وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني ) وأضل سبيلا ( يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية
الإسراء : ) 73 ( وإن كادوا ليفتنونك . . . . .) الاسراء 73 (
قال سعيد بن جبير : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستلم الحجر الأسود في طوافه فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال : ) ما علي أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره ) فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية قاله مجاهد وقتادة وقال بن عباس في رواية عطاء : نزلت في وفد ثقيف أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه شططا وقالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا وحرم وادينا كما حرمت مكة حتى تعرف العرب فضلنا عليهم فهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية وقيل : هو قول أكابر قريش للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك فهم بذلك حتى نهي عنه وقال قتادة : ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه فقالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا يا سيدنا وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون
(10/299)
" صفحة رقم 300 "
ثم عصمه الله من ذلك وأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى ) ليفتنونك ( أي يزيلونك يقال : فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه قاله الهروي وقيل يصرفونك والمعنى واحد ) عن الذي أوحينا إليك ( أي حكم القرآن لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن ) لتفتري علينا غيره ( أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك وهو قول ثقيف : وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك ) وإذا لاتخذوك خليلا ( أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا أي والوك وصافوك مأخوذ من الخلة [ بالضم ] وهي الصداقة لممايلته لهم وقيل : لاتخذوك خليلا أي فقيرا مأخوذ من الخلة [ بفتح الخاء ] وهي الفقر لحاجته إليهم
الإسراء : ) 74 ( ولولا أن ثبتناك . . . . .) الاسراء 74 : 75 (
قوله تعالى : ) ولولا أن ثبتناك ( أي على الحق وعصمناك من موافقتهم ) لقد كدت تركن إليهم ( أي تميل ) شيئا قليلا ( أي ركونا قليلا قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : ) اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) وقيل : ظاهر الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وباطنه إخبار عن ثقيف والمعنى : وإن كادوا ليركنونك أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا كما تقول لرجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت ذكره المهدوي وقيل : ما كان منه هم بالركون إليهم بل المعنى : ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل ذكره القشيري وقال بن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معصوما ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه
(10/300)
" صفحة رقم 301 "
وقوله : ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ( أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة قاله بن عباس ومجاهد وغيرهما وهذا غاية الوعيد وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم قال الله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وضعف الشيء مثله مرتين وقد يكون الضعف النصيب كقوله عز وجل : لكل ضعف أي نصيب وقد تقدم في الأعراف
الإسراء : ) 76 ( وإن كادوا ليستفزونك . . . . .) الاسراء 76 (
هذه الآية قيل أنها مدنية حسبما تقدم في أول السورة قال بن عباس : حسدت اليهود مقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقالوا : إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فإن كنت نبيا فالحق بها فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية وقال عبد الرحمن بن غنم : غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما نزل تبوك نزل وإن كادوا ليستفزونك من الأرض بعد ما ختمت السورة وأمر بالرجوع وقيل : إنها مكية قال مجاهد وقتادة : نزلت في هم أهل مكة بإخراجه ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج وهذا أصح لأن السورة مكية ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة ولم يجر لليهود ذكر وقوله : ) من الأرض ( يريد أرض مكة كقوله : فلن أبرح الأرض أي أرض مصر دليله وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك محمد يعني مكة معناه : هم أهلها بإخراجه فلهذا أضاف إليها وقال أخرجتك وقيل : هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله ولو أخرجوه
(10/301)
" صفحة رقم 302 "
من أرض العرب لم يمهلوا وهو معنى قوله : ) وإذا لايلبثون خلافك إلا قليلا ( وقرأ عطاء بن أبي رباح لا يلبثون الباء مشددة خلفك نافع وبن كثير وأبو بكر وأبو عمرو ومعناه بعدك وقرأ بن عامر وحفص وحمزة والكسائي خلافك واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ومعناه أيضا بعدك قال الشاعر : عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا بسط البواسط في الماوردي يقال : شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر قال أبو عبيد : ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية وقيل : خلفك بمعنى بعدك وخلافك بمعنى مخالفتك ذكره بن الأنباري ) إلا قليلا ( فيه وجهان : أحدهما أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر وهذا قول من ذكر أنهم قريش الثاني ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بني النضير وهذا قول من ذكر أنهم اليهود
الإسراء : ) 77 ( سنة من قد . . . . .) الاسراء 77 (
قوله تعالى : ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ( أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا فهو نصب بإضمار يعذبون فلما سقط الخافض عمل الفعل قاله الفراء وقيل : انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا وقيل : هو منصوب على تقدير حذف الكاف التقدير لا يلبثون خلفك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا فلا يوقف على هذا التقدير على قوله : إلا قليلا ويوقف على الأول والثاني قبلك من رسلنا وقف حسن ) ولاتجد لسنتنا تحويلا ( أي لا خلف في وعدها
الإسراء : ) 78 ( أقم الصلاة لدلوك . . . . .) الاسراء 78 (
(10/302)
" صفحة رقم 303 "
فيه سبع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) أقم الصلاة لدلوك الشمس ( لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة وفيها طلب النصر على الأعداء ومثله ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة واختلف العلماء في الدلوك على قولين : أحدهما أنه زوال الشمس عن كبد السماء قاله عمر وابنه وأبو هريرة وبن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم الثاني أن الدلوك هو الغروب قاله علي وبن مسعود وأبي بن كعب وروي عن بن عباس قال الماوردي : من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها وقال أبو عبيد : دلوكها غروبها ودلكت براح يعني الشمس أي غابت وأنشد قطرب : هذا مقام قدمى رباح ذبب حتى دلكت براح براح [ بفتح الباء ] على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس ورواه الفراء [ بكسر الباء ] وهو جمع راحة وهي الكف أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه ومنه قول العجاج : والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا قال بن الأعرابي : الزحلوفة مكان منحدر أملس لأنهم يتزحلفون فيه قال : والزحلفة كالدحرجة والدفع يقال : زحلفته فتزحلف ويقال : دلكت الشمس إذا غابت قال ذو الرمة : مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالافلات الدوالك
(10/303)
" صفحة رقم 304 "
قال بن عطية : الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا لأنها في حالة ميل فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب لأن الله سبحانه علق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كله قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة الثانية قوله تعالى : ) إلى غسق الليل ( روى مالك عن بن عباس قال : دلوك الشمس ميلها وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته وقال أبو عبيدة : الغسق سواد الليل قال بن قيس الرقيات : إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا وقد قيل : غسق الليل مغيب الشفق وقيل : إقبال ظلمته قال زهير : ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق يقال : غسق الليل غسوقا والغسق اسم بفتح السين وأصل الكلمة من السيلان يقال : غسقت العين إذا سالت تغسق وغسق الجرح غسقانا أي سال منه ماء أصفر وأغسق المؤذن أي أخر المغرب إلى غسق الليل وحكى الفراء : غسق الليل وأغسق وظلم وأظلم ودجا وأدجى وغبس وأغبس وغبش وأغبش وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم : أغسق أغسق يقول : أخر المغرب حتى يغسق الليل وهو إظلامه الثالثة اخلف العلماء في آخر وقت المغرب فقيل : وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس وذلك بين في إمامة جبريل فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري وقال مالك في الموطأ : فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن
(10/304)
" صفحة رقم 305 "
بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله ولحديث أبي موسى وفيه : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان عند سقوط الشفق خرجه مسلم قالوا : وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل لأنه متأخر بالمدينة وإمامة جبريل بمكة والمتأخر أولى من فعله وأمره لأنه ناسخ لما قبله وزعم بن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملأه في حياته والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر قلت : القول بالتوسعة أرجح وقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف وذلك تسعة أميال وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما فإن الجمع ممكن قال علماؤنا : تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس قال بن خويز منداد ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز فيرتفع التعارض ويصح الجمع وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما والله أعلم الرابعة قوله تعالى : ) وقرآن الفجر ( انتصب قرآن من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة المعنى : وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح قاله الفراء وقال أهل البصرة انتصب على الإغراء أي فعليك بقرآن الفجر قاله الزجاج وعبر عنها بالقرآن
(10/305)
" صفحة رقم 306 "
خاصة دون غيرها من الصلوات لأن القرآن هو أعظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور عن الزجاج أيضا قلت : وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه يقرأ فيها بطوال المفصل ويليها في ذلك الظهر والجمعة وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء وقد قيل في العصر : إنها تخفف كالمغرب وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة كقراءته في الفجر المعوذتين كما رواه النسائي وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب فمتروك بالعمل ولإنكاره على معاذ التطويل حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة خرجه الصحيح وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال : ) أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة ) وقال : ) فإذا صلى احدكم وحده فليطول ما شاء ) كله مسطور في صحيح الحديث الخامسة قوله تعالى : ) وقرآن الفجر ( دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة لأنه سمى الصلاة قرآنا وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذ في كل ركعة وهو مشهور قول مالك وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة وهو قول إسحاق وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة قاله المغيرة وسحنون وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة وهو أشذ الروايات عنه وحكي عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة وإليه ذهب الأوزاعي وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال وهو أحد قولي الشافعي وقد مضى في [ الفاتحة ] مستوفى السادسة قوله تعالى : ) كان مشهودا ( روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : ) تشهده
(10/306)
" صفحة رقم 307 "
ملائكة الليل وملائكة النهار ) هذا حديث حسن صحيح ورواه علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ) يقول أبو هريرة : إقرءوا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ولهذا المعنى يبكر بهذه الصلاة فمن لم يبكر لم تشهد صلاته إلا إحدى الفئتين من الملائكة ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي : التغليس بالصبح أفضل وقال أبو حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل والله أعلم السابعة استدل بعض العلماء بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ) على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار قلت : وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار فإن في الصحيح عن النبي الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة : ) يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ) الحديث ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان وهذا واضح