الآية : 86 {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}
الآية : 87 {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم : "من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت..." الحديث ، خرجه من حديث أنس ، والترمذي من حديث أبي هريرة ، وفيه : "فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون..." وذكر الحديث. {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} أي الذين جعلناهم لك شركاء. {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي ألقت إليهم الآلهة القول ، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة ، ولا أمرتهم بعبادتها ، فيُنطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل : المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} يعني المشركين ، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل : استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.
الآية : 88 {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}
(10/163)
قوله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} قال ابن مسعود : عقارب أنيابها كالنخل الطوال ، وحيات مثل أعناق الإبل ، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم ، فتلك الزيادة وقيل : المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل : المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة ، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. {مَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} في الدنيا من الكفر والمعصية.
3 - الآية : 89 {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الإيمان ، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا ؛ وفيهم قولان : أحدهما : أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني : أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه.
قلت : فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله ؛ كقس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : "يبعث أمة وحده" ، وسَطيح ، وورقة بن نوفل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : "رأيته ينغمس في أنهار الجنة" . فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله : {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} تقدم في "البقرة و"النساء".
قوله تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} نظيره : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38] وقد تقدم. وقال مجاهد : تبيانا للحلال والحرام.
(10/164)
3 - الآية : 90 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} روي عن عثمان بن مظعون أنه قال : لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال : يا آل غالب ، اتبعوه تفلحوا ، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفي حديث - إن أبا طالب لما قيل له : إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية ، قال : اتبعوا ابن أخي ، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} إلى آخرها ، فقال : يا ابن أخي أعد ، فأعاد عليه فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لمورق ، وأعلاه لمثمر ، وما هو بقول بشر ، وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان : ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي ، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : يا ابن أخي أعد فأعدت فقال : والله إن له لحلاوة... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود : هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال : يقال زكاة العدل الإحسان ، وزكاة القدرة العفو ، وزكاة الغنى المعروف ، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.
الثانية : - اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان ؛ فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض. وقيل : العدل الفرض ، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة : العدل ها هنا استواء السريرة ، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. علي بن أبي طالب : العدل الإنصاف ، والإحسان التفضل. قال ابن عطية :
(10/165)
العدل هو كل مفروض ، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه ؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه ، ومنها ما هو فرض ، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل ، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر ؛ لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل ، وذلك هو العدل ، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله : "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي : العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها ؛ قال الله تعالى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات : 40] وعزوب الأطماع عن الأتباع ، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل وكثر ، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن ، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.
قلت : هذا التفصيل في العدل حسن وعدل ، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا : الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين : أحدهما متعد بنفسه ؛ كقولك : أحسنت كذا ، أي حسنته وكلمته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر ؛ كقولك : أحسنت إلى فلان ، أي أوصلت إليه ما ينتفع به.
قلت : وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا ؛ فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض ، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك ؛ وهو تعالى غني عن إحسانهم ، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل
(10/166)
بالمعنى الأول لا بالثاني ؛ فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة ، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين : أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" . وثانيهما : لا تنتهي إلى هذا ، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء : 218 - 219] وقوله : {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس : 61].
الثالثة : - قوله تعالى : {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي القرابة ؛ يقول : يعطيهم المال كما قال {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء : 26] يعني صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب ، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب ، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب ؛ لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه ، وجعل صلتها من صلته ، فقال في الصحيح : "أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك". ولا سيما إذا كانوا فقراء.
الرابعة : - قوله تعالى : {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} الفحشاء : الفحش ، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس : هو الزنى. والمنكر : ما أنكره الشرع بالنهي عنه ، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي : هو الكبر والظلم والحقد والتعدي ؛ وحقيقته تجاوز الحد ، وهو داخل تحت المنكر ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا ذنب أسرع عقوبة من بغيٍ" . وقال عليه السلام : "الباغي مصروع" . وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر. وفي بعض الكتب المنزلة : لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
(10/167)
الخامسة : ترجم الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال : "باب قول الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله : {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس : 23] ، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} ، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر" ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن بطال : فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر ؛ كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام : "أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا" . ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قول الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل : كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل : وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله : "إنما بغيكم على أنفسكم" وضمن تعالى نصرة من بغي عليه ، كان الأولى بمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه ؛ وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي سحره ، وقد كان له الانتقام منه بقوله : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل : 126]. ولكن آثر الصفح أخذا بقوله : {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى : 43].
السادسة : - تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي أن جماعة رفعت عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي ، فحاجها العامل وغلبها ؛ بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء ؛ فقام فتى من القوم فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وإنه عدل ولم يحسن. قال : فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.
(10/168)
3 - الآية : 91 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : - قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع الانسان من بيع أو صلة أو موافقة للديانة. وهذة الآية مضمن قولة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} لأن المعنى فيها : افعلوا كذا ، وانتهوا عن كذا ؛ فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل : إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وقيل : نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء ؛ قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال : اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه ، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت" . وقال ابن إسحاق : تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له ، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة ؛ فقال له حسين بن علي : احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبدالله بن الزبير : وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت
(10/169)
عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء : فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله : "لا حلف في الإسلام". والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم ، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين ، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى : {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى : 42]. وفي الصحيح : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا : يا رسول الله ، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : "تأخذ على يديه : في رواية : تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" . وقد تقدم قوله عليه السلام : "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" .
الثانية : -قوله تعالى : {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يقول بعد تشديدها وتغليظها ؛ يقال : توكيد وتأكيد ، ووكد وأكد ، وهما لغتان.
الثالثة : -قوله تعالى : {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} يعني شهيدا. ويقال حافظا ، ويقال ضامنا. وإنما قال {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا ، يردد فيه الأيمان ثلاثا أو أكثر من ذلك ؛ كقوله : والله لا أنقصه من كذا ، والله لا أنقصه من كذا ، والله لا أنقصه من كذا. قال : فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد : هي العهود ، والعهد يمين ، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان" . وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة ، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر : التوكيد هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم في المائدة.
(10/170)
3 - الآية : 92 {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} النقض والنكث واحد ، والاسم النكث والنقض ، والجمع الأنكاث. فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ؛ قال الفراء ، وحكاه عبدالله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقال مجاهد وقتادة : وذلك ضرب مثل ، لا على امرأة معينة. و"أنكاثا" نصب على الحال. والدخل : الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله تعالى : لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء : المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم ، وقد عززتموهم بالأيمان. {أَرْبَى} أي أكثر ؛ من ربا الشيء يربو إذا كثر. والضمير في "به" يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء ؛ أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها ؛ وهو معنى قوله : {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من البعث وغيره.
(10/171)
الآية : 93 {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على ملة واحدة. { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} بخذلانه إياهم ؛ عدلا منه فيهم. {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بتوفيقه إياهم ؛ فضلا منه عليهم ، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في "وليبينن ، ولتسئلن" مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر ، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.
الآية : 94 {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى : {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} كرر ذلك تأكيدا. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس ؛ أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها ، أي عن الأيمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه ؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر ؛ ومن هذا المعنى قول كثير :
فلما توافينا ثبت وزلت
والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة : زلت قدمه ؛ كقول الشاعر :
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا ... وتقتل إن زلت بك القدمان
ويقال لمن أخطأ في شيء : زل فيه. ثم توعد تعالى بعدُ بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الإيمان ، ولهذا قال : {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.
(10/172)
الآية : 95 {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
الآية : 96 {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} نهى عن الرُشا وأخذ الأموال على نقض العهد ؛ أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول ، فهو على التحقيق قليل ، وهو المراد بقوله : {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول ، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفي بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال :
المال ينفد حله وحرامه ... يوما وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه
آخر :
هب الدنيا تساق إليك عفوا
... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء ... أظلك ثم آذن بالزوال
قوله تعالى : {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من الطاعات ، وجعلها أحسن لأن ما عداها من الحسن مباح ، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرأ عاصم وابن كثير "ولنجزين" بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل : إن هذه الآية {وَلا تَشْتَرُوا} نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي وخصمه ابن أسوع ، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه ؛ والله أعلم.
(10/173)
الآية : 97 {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} شرط وجوابه.
وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال : الأول : أنه الرزق الحلال ؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني : القناعة ؛ قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه ، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث : توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله ؛ قال معناه الضحاك. وقال أيضا : من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هي الجنة ، وقاله الحسن ، وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة. وقيل هي السعادة ، روي عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبدالله التستري : هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق : هي المعرفة بالله ، وصدق المقام بين يدي الله. وقيل : الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل : الرضا بالقضاء. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} أي في الآخرة. وقال {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} ثم قال {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} لأن "من" يصلح للواحد والجمع ، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى ، وقد تقدم. وقال أبو صالح : جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ؛ فنزلت.
الآية : 98 {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
فيها مسألة واحدة : - هذه الآية متصلة بقوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن
(10/174)
تدبره والعمل بما فيه ؛ وليس يريد استعذ بعد القراءة ؛ بل هو كقولك : إذا أكلت فقل بسم الله ؛ أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه" . وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري : ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا ، احتجاجا بقوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة ؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء : 103]. إلا أن غيره محتمل ، مثل قوله تعالى : {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام : 152] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب : 53] وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل : إذا قلت فاصدق ، وإذا أحرمت فاغتسل ؛ يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك : إذا أردت ذلك ؛ فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى.وتقدم القول في الاستعادة مستوفى.
الآية : 99 {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
الآية : 100 {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي بالإغواء والكفر ، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر ؛ قاله سفيان. وقال مجاهد : لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل : إنه ليس عليهم سلطان بحال ؛ لأن الله تعالى صرف
(10/175)
سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر : 39 - 40] قال الله تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر : 42].
قلت : قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص ، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه ، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله : من خلق ربك ؟ حسبما تقدم في "الأعراف". {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي يطيعونه. يقال : توليته أي أطعته ، وتوليت عنه ، أي أعرضت عنه. {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بالله ؛ قاله مجاهد والضحاك. وقيل : يرجع "به" إلى الشيطان ؛ قاله الربيع بن أنس والقتيبي. والمعنى : والذين هم من أجله مشركون. يقال : كفرت بهذه الكلمة ، أي من أهلها. وصار فلان بك عالما ، أي من أجلك. أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله.
الآية : 101 {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
الآية : 102 {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} قيل : المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة ؛ قاله ابن بحر. مجاهد : أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور : نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع عيره مكانه. {قَالُوا} يريد كفار قريش. {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أي كاذب مختلق ، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
(10/176)
الْقُدُسِ} يعني جبريل ، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروي بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال : وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة ، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة {الْحَمْدُ} ملك لم ينزل إلى الأرض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه. {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي من كلام ربك. {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي بما فيه من الحجج والآيات. {وَهُدىً} أي وهو هدى {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
الآية : 103 {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه ؛ فقيل : هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر ، كان نصرانيا فأسلم ؛ وكانوا إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا : إنما يعلمه جبر وهو أعجمي ؛ فقال الله تعالى : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له : أنت تعلم محمدا ، فيقول : لا والله ، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن إسحاق : كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر ، عبد بني الحضرمي ، وكان يقرأ الكتب ، فقال المشركون : والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة : اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن ؛ ذكره المارودي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية ، فقالت قريش : إنما يعلمه بشر ، فنزلت. المهدوي عن عكرمة :
(10/177)
هو غلام لبني عامر بن لؤي ، واسمه يعيش. وقال عبدالله بن مسلم الحضرمي : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي ؛ إلا أن الثعلبي قال : يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة ، والآخر جبر ، وكانا صيقلين يعملان السيوف ؛ وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي : يقرأن التوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي : التوراة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما ويسمع قراءتهما ، وكان المشركون يقولون : يتعلم منهما ، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل : عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه ؛ قاله الضحاك. وقيل : نصرانيا بمكة اسمه بلعام ، وكان غلاما يقرأ التوراة ؛ قاله ابن عباس. وقال القتبي : كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية ، فربما قعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الكفار : إنما يتعلم محمد منه ، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل : عابس غلام حويطب بن عبدالعزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي ، وكانا قد أسلما. والله أعلم
قلت : والكل محتمل ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله ، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومأوا إلى هؤلاء جميعا ، وزعموا أنهم يعلمونه.
قلت : وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد ؛ لأن سلمان إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهذه الآية مكية.
قوله تعالى : {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} الإلحاد : الميل ؛ يقال : لحد وألحد ، أي مال عن القصد. وقرأ حمزة "يلحدون" بفتح الياء والحاء ؛ أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة : الإخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجماء ، أي لا يفصح ؛ ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء :
(10/178)
البهيمة ؛ لأنها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب ، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي : الأعجمي الذي لا يفصح ، سواء كان من العرب أو من العجم ، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن ؛ لأن العرب تقول للقصيدة والبيت : لسان ؛ قال الشاعر :
لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا
يعني باللسان القصيدة. "وهذا لسان عربي مبين" أي أفصح ما يكون من العربية.
الآية : 104 {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن. {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
الآية : 105 {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} هذا مبالغة في وصفهم بالكذب ؛ أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال : كذب فلان ولا يقال إنه كاذب ؛ لأن الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازما ولهذا يقال : عصى آدم ربه فغوى ، ولا يقال : إنه عاص غاو. فإذا قيل : كذب فلان فهو كاذب ، كان مبالغة في الوصف بالكذب ؛ قاله القشيري.
(10/179)