الآية : 42 {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} "ظن" هنا بمعنى أيقن ، في قول أكثر المفسرين وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين ؛ قال : إنما ظن يوسف نجاته لأن العابر يظن ظنا وربك يخلق ما يشاء ؛ والأول أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحي ، وإنما يكون ظنا في حكم الناس ، وأما في حق الأنبياء فإن حكمهم حق كيفما وقع.
الثانية : - {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي سيدك ، وذلك معروف في اللغة أن يقال للسيد رب ؛ قال الأعشى :
ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
أي اذكر ما رأيته ، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك ، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب. وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي" . وفي القرآن : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} {إِلَى
(9/194)
ربك} {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف : 23] أي صاحبي ؛ يعني العزيز. ويقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربه يربه ، فهو رب له. قال العلماء قول عليه السلام : "لا يقل أحدكم" "وليقل" من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى ؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم ؛ ولأنه قد جاء عنه عليه السلام : "أن تلد الأمة ربها" أي مالكها وسيدها ؛ وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ ؛ فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن. وقد قيل : إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين : أحدهما : أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى ؛ ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه ، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه ؛ وذلك غير جائز. والثاني : أن المملوك يدخله من ذلك شيء في استصغاره بتلك التسمية ، فيحمله ذلك على سوء الطاعة. وقال ابن شعبان في "الزاهي" : "لا يقل السيد عبدي وأمتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي" وهذا محمول على ما ذكرنا. وقيل : إنما قال صلى الله عليه وسلم "لا يقل العبد ربي وليقل سيدي" لأن الرب من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق ؛ واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى أم لا ؟ فإذا قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح ؛ إذ لا التباس ولا إشكال ، وإذا قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة ولا الاستعمال كلفظ الرب ، فيحصل ، الفرق. وقال ابن العربي : يحتمل أن يكون ذلك جائزا في شرع يوسف عليه السلام.
الثالثة : - قوله تعالى : {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} الضمير في "فأنساه" فيه قولان : أحدهما : أنه عائد إلى يوسف عليه السلام ، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل ؛ وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك – {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به ، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق ؛ فعقب باللبث. قال عبدالعزيز بن عمير الكندي : دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف ، فقال : يا أخا المنذرين! مالي أراك بين الخاطئين ؟ ! فقال جبريل عليه السلام : يا طاهر ابن الطاهرين! يقرئك
(9/195)
السلام رب العالمين ويقول : أما استحيت إذ استغثت بالآدميين ؟ ! وعزتي! لألبثنك في السجن بضع سنين ؛ فقال : يا جبريل! أهو عني راض ؟ قال : نعم! قال : لا أبالي الساعة. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه ، وقال له : يا يوسف! من خلصك من القتل من أيدي أخوتك ؟ ! قال : الله تعالى ، قال : فمن أخرجك من الجب ؟ قال : الله تعالى قال : فمن عصمك من الفاحشة ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن صرف عنك كيد النساء ؟ قال : الله تعالى ، قال : فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله ؟ ! قال : يا رب كلمة زلت مني! أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني ؛ فقال له جبريل : فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ما لبث في السجن بضع سنين ". وقال ابن عباس : عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وروى إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا كلمة يوسف - يعني قوله : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} - ما لبث في السجن ما لبث" قال : ثم يبكي الحسن ويقول : نحن ينزل بنا الأمر فنشكو إلى الناس. وقيل : إن الهاء تعود على الناجي ، فهو الناسي ؛ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه ، أي لسيده ؛ وفيه حذف ، أي أنساه الشيطان ذكره لربه ؛ وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال : لولا أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لما استحق العقاب باللبث في السجن ؛ إذ الناسي غير مؤاخذ. وأجاب أهل القول الأول بأن النسيان قد يكون بمعنى الترك ، فلما ترك ذكر الله ودعاه الشيطان إلى ذلك عوقب ؛ رد عليهم أهل القول الثاني بقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف : 45] فدل على أن الناسي هو الساقي لا يوسف ؛ مع قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر : 42] فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطنة ؟ ! قيل : أما
(9/196)
النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في وجه واحد ، وهو الخبر عن الله تعالى فيما يبلغونه ، فإنهم معصومون فيه ؛ وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا ، وذلك إنما يكون فيما أخبر الله عنهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم ؛ قال صلى الله عليه وسلم : "نسي آدم فنسيت ذريته" . وقال : "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" . وقد تقدم.
الرابعة : - قوله تعالى : {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} البضع قطعة من الدهر مختلف فيها ؛ قال يعقوب عن أبي زيد : يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها ، قال أكثرهم : ولا يقال بضع ومائة ، وإنما هو إلى التسعين. وقال الهروي : العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. والبضع والبضعة واحد ، ومعناهما القطعة من العدد. وحكى أبو عبيدة أنه قال : البضع ما دون نصف العقد ، يريد ما بين الواحد إلى أربعة ، وهذا ليس بشيء. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه : "وكم البضع" فقال : ما بين الثلاث إلى السبع. فقال : "اذهب فزائد في الخطر" . وعلى هذا أكثر المفسرين ، أن البضع سبع ، حكاه الثعلبي. قال الماوردي : وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطرب. وقال مجاهد : من ثلاث إلى تسع ، وقال الأصمعي. ابن عباس : من ثلاث إلى عشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس قال الفراء : والبضع لا يذكر العشرة والعشرين إلى التسعين ، ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجونا ثلاثة أقاويل : أحدها : سبع سنين ، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه ، قال وهب : أقام أيوب في البلاء سبع سنين ، وأقام يوسف في السجن سبع سنين. الثاني : - اثنتا عشرة سنة ، قال ابن عباس. الثالث : أربع عشرة
(9/197)
سنة ، قاله الضحاك. وقال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس قال : مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا. واشتقاقه من بضعت الشيء أي قطعته ، فهو قطعة من العدد ، فعاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين أو تسع سنين بعد الخمس التي مضت ، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله. قال وهب بن منبه : حبس يوسف في السجن سبع سنين ، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين ، وعذب بختنصر بالمسخ سبع سنين. وقال عبدالله بن راشد البصري عن سعيد بن أبي عروبة : إن البضع ما بين الخمس إلى الاثنتي عشرة سنة.
الخامسة : - في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها ، ولكنه جعلها سلسلة ، وركب بعضها على بعض ، فتحريكها سنة ، والتعويل على المنتهى يقين. والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر ؛ وهذا بين فتأملوه.
الآية : 43 {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه ، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال : إن الله مخرجك من سجنك ، وممكن لك في الأرض ، يذل لك ملوكها ، ويطيعك جبابرتها ، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك ، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك ، وهي كيت وكيت ، وتأويلها كذا وكذا ، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج ، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة ، وجعلها آخرا بشرى ورحمة ؛ وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان ، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن ، إلا القرنين ، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل
(9/198)
عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات ، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان ، فهالته الرؤيا ، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر ، وأشراف قومه ، فقال : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ} فقص عليهم ، فقال القوم : {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف : 44] قال ابن جريج قال لي عطاء : إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن الرؤيا منها حق ، ومنها أضغاث أحلام ، يعني بها الكاذبة. وقال الهروي : قوله تعالى : {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي أخلاط أحلام. والضغث في اللغة الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ وما أشبههما ، أي قالوا : ليست رؤياك ببينة ، والأحلام الرؤيا المختلطة. وقال مجاهد : أضغاث الرؤيا أهاويلها. وقال أبو عبيدة : الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا.
قوله تعالى : {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} حذفت الهاء من "سبع" فرقا بين المذكر والمؤنث "سمان" من نعت البقرات ، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا ، نعت للسبع ، وكذا خضرا ، قال الفراء : ومثله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} [نوح : 15]. وقد مضى في سورة "البقرة" اشتقاقها ومعناها. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني رخاء ، وإن كانت عجافا كانت شدادا ، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها ، وإلا كانت فتنا مترادفة ، كأنها وجوه البقر ، كما في الخبر "يشبه بعضها بعضا". وفي خبر آخر في الفتن "كأنها صياصي البقر" يريد لتشابهها ، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس ، وإن كانت مختلفة الألوان ، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها ، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة ، أو عدو يضرب عليهم ، وينزل بساحتهم. وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة ؛ لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات. {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} من عجُف يعجُف ، على وزن عظم يعظم ، وروي عجِف يعجَف على وزن حمد يحمد.
(9/199)
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ} جمع الرؤيا رؤى : أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا. {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} العبارة مشتقة من عبور النهر ، فمعنى عبرت النهر ، بلغت شاطئه ، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها. واللام في "للرؤيا" للتبيين ، أي إن كنتم تعبرون ، ثم بين فقال : للرؤيا قاله الزجاج.
الآية : 44 {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ}
وفيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قال الفراء : ويجوز "أضغاث أحلام" قال النحاس : النصب بعيد ، لأن المعنى : لم تر شيئا له تأويل ، إنما هي أضغاث أحلام ، أي أخلاط. وواحد الأضغاث ضغث ، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث ؛ قال الشاعر :
كضغث حلم غر منه حالمه
{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} قال الزجاج : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة ، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له ، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل. وقيل : نفوا عن أنفسهم علم التعبير. والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة ، ولهذا قال الساقي : {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف : 45] فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل ، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها. وقيل : إنهم لم يقصدوا تفسيرا ، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله ، وعلى هذا أيضا فعندهم علم. و"الأحلام" جمع حلم ، والحلم بالضم ما يراه النائم ، تقول منه حلم بالفتح واحتلم ، وتقول : حلمت ، بكذا وحلمته ، قال :
فحلمتها وبنو رفيدة دونها ... لا يبعدن خيالها المحلوم
أصله الأناة ، ومنه الحلم ضد الطيش ؛ فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة.
(9/200)
الثانية : -وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على أول ما تعبر ، لأن القوم قالوا : "أضغاث أحلام" ولم تقع كذلك ؛ فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب ، فكان كما عبر ؛ وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على ، رجل طائر ، فإذا عبرت وقعت.
الآية : 45 {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}
الآية : 46 {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} يعني ساقي الملك. {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين ، عن ابن عباس وغيره ؛ ومنه {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود : 8] وأصله الجملة من الحين. وقال ابن درستويه : والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه قال - والله أعلم - : وادكر بعد حين أمة ، أو بعد زمن أمة ، وما أشبه ذلك ؛ والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش : هو في اللفظ واحد ، وفي المعنى جمع ؛ وقال جنس من الحيوان أمة ؛ وفي الحديث : "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ".
قولة تعالى : - {وَادَّكَرَ} أي تذكر حاجة يوسف ، وهو قوله : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} . وقرأ ابن عباس فيما روى عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عنه - "وادكر بعه أمة". النحاس : المعروف من قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك "وادكر بعد أمه" بفتح الهمزة وتخفيف الميم ؛ أي بعد نسيان ؛ قال الشاعر :
أمهت وكنت لا أنسى حديثا ... كذاك الدهر يودي بالعقول
وعن شبيل بن عزرة الضبعي : "بعد أمه" بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة ؛ وهو مثل الأمه ، وهما لغتان ، ومعناهما النسيان ؛ ويقال : أمه يأمه أمها إذا نسي ؛ فعلى هذا
(9/201)
"وادكر بعد أمه" ؛ ذكره النحاس ؛ ورجل أمه ذاهب العقل. قال الجوهري : وأما ما في حديث الزهري "أمه" بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة. وقرأ الأشهب العقيلي - "بعد إمة" أي بعد نعمة ؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة. ثم قيل : نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة. وقيل : ما نسي ، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز ؛ فقوله : "وادكر" أي ذكر وأخبر. قال النحاس : أصل ادكر اذتكر ؛ والذال قريبة المخرج من التاء ؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلو أدغموا ذهب الجهر ، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال ؛ وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة ؛ فصار أذدكر ، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها. ثم قال : {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أنا أخبركم. وقرأ الحسن {أنا آتيكم بتأويله} وقال : كيف ينبئهم العلج ؟ ! قال النحاس : ومعنى "أنبئكم" صحيح حسن ؛ أي أنا أخبركم إذا سألت. {فَأَرْسِلُونِ} خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم ، أو خاطب الملك وأهل مجلسه.
{يُوسُفُ} نداء مفرد ، وكذا {الصِّدِّيقُ} أي الكثير الصدق. {أَفْتِنَا} أي فأرسلوه ، فجاء إلى يوسف فقال : أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك. {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أي إلى الملك وأصحابه. {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} التعبير ، أو {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مكانك من الفضل والعلم فتخرج. ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما.
الآية : 47 {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {قَالَ تَزْرَعُونَ} لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له ، فقال : السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات ؛ وأما البقرات العجاف
(9/202)
والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات ؛ فذلك قوله : {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} أي متوالية متتابعة ؛ وهو مصدر على غير المصدر ، لأن معنى "تزرعون" تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقيل : هو حال ؛ أي دائبين. وقيل : صفة لسبع سنين ، أي دائبة. وحكى أبو حاتم عن يعقوب "دأبا" بتحريك الهمزة ، وكذا روى حفص عن عاصم ، وهما لغتان ، وفيه قولان ، قول أبي حاتم : إنه من دئب. قال النحاس : ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق ؛ قاله الفراء ، قال : وكذلك كل حرف فتح أول وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة ، أو هاء ، أو عينا ، أو غينا ، أو حاء ، أو خاء ؛ وأصله العادة ؛ قال :
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وقد مضى في "آل عمران" القول فيه. {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} قيل : لئلا يتسوس ، وليكون أبقى ؛ وهكذا الأمر في ديار مصر. {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة ؛ وهذا القول منه أمر ، والأول خبر. ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا ، وإن كان الأظهر منه الخبر ؛ فيكون معنى : "تزرعون" أي ازرعوا.
الثانية : -هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ، ودفعه مصلحة ؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده ، من غير وجوب عليه ، ولا استحقاق ؛ هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين ؛ وبسطه في أصول الفقه.
(9/203)
الآية : 48 {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {سَبْعٌ شِدَادٌ} يعني السنين المجدبات. {يَأْكُلْنَ} مجاز ، والمعنى يأكل أهلهن. {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما ادخرتم لأجلهن ؛ ونحوه قول القائل :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
والنهار لا يسهو ، والليل لا ينام ؛ وإنما يسهى في النهار ، وينام في الليل. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه : أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه ، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله ؛ فقال يوسف : هذا أول يوم من السبع الشداد. {إِلاَّ قَلِيلاً} نصب على الاستثناء. {مِمَّا تُحْصِنُونَ} أي مما تحبسون لتزرعوا ؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة : تحرزون. وقال قتادة : "تحصنون" تدخرون ، والمعنى واحد ؛ وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.
الثانية : - هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر ، وأنها تخرج على حسب ما رأى ، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن ؛ فكيف إذا كانت آية لنبي. ومعجزة لرسول ، وتصديقا لمصطفى للتبليغ ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - وبين عباده.
الآية : 49 {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة : زاده الله علم سنة لم يسألوه
(9/204)
عنها إظهارا لفضله ، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته. {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} من الإغاثة أو الغوث ؛ غوث الرجل فال واغوثاه ، والاسم الغوث والغواث والغواث ، واستغاثني فلان فأغثته ، والاسم الغياث ؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغيث المطر ؛ وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها ؛ وغاث الله البلاد يغيثها غيثا ، وغيثت الأرض تغاث غيثا ، فهي أرض مغيثة ومغيوثة ؛ فمعنى {يُغَاثُ النَّاسُ} يمطرون. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فال ابن عباس : يعصرون الأعناب والدهن ؛ ذكره البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قال : يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا ، والزيتون زيتا. وقيل : أراد حلب الألبان لكثرتها ؛ ويدل ذلك على كثرة النبات. وقيل : "يعصرون" أي ينجون ؛ وهو من العصرة ، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة ، وكذلك العصرة ؛ قال أبو زبيد :
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصره المنجود
والمنجود الفزع. واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه. قال أبو الغوث : "يعصرون" يستغلون ؛ وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى "تعصرون" بضم التاء وفتح الصاد ، ومعناه : تمطرون ؛ من قول الله : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} [النبأ : 14] وكذلك معنى "تعصرون" بضم التاء وكسر الصاد ، فيمن قرأه كذلك.
الآية : 50 {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}
الآية : 51 {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}
(9/205)
قوله تعالى : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} أي فذهب الرسول فأخبر الملك ، فقال : ائتوني به. {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} أي يأمره بالخروج. {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} أي حال النسوة. {اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به ، وأنه حبس بلا جرم. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" - قال - ولو لبث في ، السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ – {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد إذ قال {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه". وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة : 260] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر" . وروي نحو هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك ، في كتاب التفسير من صحيح البخاري ، وليس لابن القاسم في الديوان غيره. وفي رواية الطبري "يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة" . وقال صلى الله عليه وسلم : "لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب" . قال ابن عطية : كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا ، وطلبا لبراءة الساحة ؛ وذلك أنه
(9/206)
- فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ؛ فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ، ويحقق منزلته من العفة والخير ؛ وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة ؛ فلهذا قال للرسول : ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة ، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان : وقل له يستقصي عن ذنبي ، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم ؛ ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة ، ورعاية لذمام الملك العزيز له. فإن قيل : كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج ، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره ؟ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي ، له جهة أيضا من الجودة ؛ يقول : لو كنت أنا لبادرت بالخروج ، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك ، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة ؛ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور ؛ وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة ، التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن ، ربما نتج له البقاء في سجنه ، وانصرفت نفس مخرجه عنه ، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله ، فغيره من الناس لا يأمن ذلك ؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد.
قوله تعالى : {فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح ؛ وذلك حسن عشرة وأدب ؛ وفي الكلام محذوف ، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. قال ابن عباس : فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} أي ما شأنكن. {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها ، على ما تقدم ، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز ، فكان ذلك مراودة منهن. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} أي معاذ الله. {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أي زنى. {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف ، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت
(9/207)
هي أيضا ؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و {حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي تبين وظهر ؛ وأصله حصص ، فقيل : حصحص ؛ كما قال : كبكبوا في كببوا ، وكفكف في كفف ؛ قال الزجاج وغيره. وأصل الحص استئصال الشيء ؛ يقال : حص شعره إذا استأصله جزا ؛ قال أبو القيس بن الأسلت :
قد حصَّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها ، قال جرير :
يأوي إليكم بلا من ولا جحد ... من ساقه السنة الحصا والذيب
كأنه أراد أن يقول : والضبع ، وهي السنة المجدبة ؛ فوضع الذئب موضعه لأجل القافية ؛ فمعنى {حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي انقطع عن الباطل ، بظهوره وثباته ؛ قال :
ألا مبلغ عني خداشا فإنه ... كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم
وقيل : هو مشتق من الحصة ؛ فالمعنى : بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة : وأصله مأخوذ من قولهم ؛ حص شعره إذا استأصل قطعه ؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة ؛ ذكره الجوهري. {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته ؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه ؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار ، حتى لا يخامر نفسا ظن ، ولا يخالطها شك. وشددت النون في "خطبكن" و"راودتن" لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.
(9/208)